اقتصاد

مصرف السلطة أم سلطة المصرف!؟

كتب محسن زين الدين

أولاً: تراجع شعار إسقاط النظام، وخبا وهج أغلب الشعارات التي رفعتها “الانتفاضة”، من “كلن يعني كلن”، أي الطلب من “كلن” أن يشكلوا حكومة مستقلين عنهم “كلن”. ثم تراجع الضجيج حول استعادة الأموال المنهوبة والمسروقة والمهربة، إلى البحث والتفتيش عن ودائع المواطنين، إلى خفوت الكلام عن محاسبة المسؤولين عن كل هذا الانهيار، المالي والنقدي والاقتصادي وحتى المعيشي. انحدار نحو قاع لا نهاية مرئية له. كل هذا تراجع وتقدم صفوف الشعارات والمطالب والصراخ محاكمة حاكم مصرف لبنان والمصارف، تحت شعار إسقاط حكم المصرف بدل إسقاط النظام .
صار ملحاً السؤال من الجميع وعلى الجميع، هل أن إسقاط حاكم مصرف لبنان ومعاقبة المصارف بالطريقة التي شاهدنا، هو مسار  يضعنا على سكك التغيير المنشود لنظام سياسي أوغل عميقا في كل نواحي الفساد. وعليه، تستقيم أمور البلاد والعباد، أم أن من يطرح هذا الشعار “إسقاط حكم المصرف”، يساهم عن دراية أو جهل في تحييد شعار إسقاط النظام، أو جعل التغيير السياسي مطلباً لا يتقدم على إسقاط حكم المصرف، وتحديداً اقالة حاكم مصرف لبنان هل تفي بغرض الانتفاضة لتسلك الأمور مسارها الصحيح .
لا نشك لحظة أن حاكم المصرف المركزي وإدارته النقدية، والمصارف ممثلة بجمعيتها وتوجهها نحو جنيها الأرباح الفاحشة، عبر إعطاء القروض للدولة بفوائد عالية على حساب مساهمتها في إنعاش الاقتصاد بكل حقوله، كان لهما “الحاكم والمصارف” دور أساسي فيما وصلنا اليه من الأزمات والمآزق وخاصة النقدية والمالية .
إن ما تقدم يجعلنا امام سؤال كبير: من له السلطة في بلدنا، هل نحن أمام سلطة مصرف مطلقة، أم أننا أمام مصرف للسلطة تغرف منه ما تشاء وكيفما تشاء؟
إن المصرف المركزي كما جاء وصفه في معرض إنشائه بموجب المادة ٨٥ من قانون النقد والتسليف “المصرف المركزي هو مصرف القطاع العام”، وكانت المادة ٨٤ من القانون نفسه قد حددت القطاع العام، حيث نصت على ما يلي “يشمل القطاع العام بمفهوم هذا القانون الدولة والبلديات والأشخاص المعنويين من القانون العام” الخ. وبالتالي فإن ما أُنشيء بموجب قانون النقد والتسليف هو مصرف الدولة الذي سمي بـ “مصرف لبنان” والمتعارف عليه بالمصرف المركزي، ببساطة إنه مصرف السلطة .


ثانياً: من مهام المصرف المركزي، إلى جانب ايداع أموال القطاع العام لديه، أنه يمنح قروضاً للقطاع العام وبهذا المعنى يزوِّد الدولة، اي القطاع العام بالمبالغ التي يتطلبها لضرورات تسيير شؤون الدولة في ظل عجز حسابها عن تأمين ذلك. وفي هذا الصدد يتبين أنه رغم درس المصرف المركزي لطلب الدولة قرضاً ما، واقتراحه استبدال القرض بوسائل مالية أخرى، حيث جاء في قانون النقد والتسليف ما يلي: “يدرس المصرف مع الحكومة إمكانية استبدال مساعدته بوسائل أخرى كإصدار قرض داخلي ، أو عقد قرض خارجي أو إجراء توفيرات في بعض بنود النفقات الأخرى أو ايجاد ضرائب جديدة” .. ويضيف قانون النقد والتسليف … إنه اذا اصرت الحكومة “الدولة” مع ذلك على طلبها “اي إقراضها” يمكن المصرف أن يمنح القرض المطلوب وذلك رغما من أن المادة ٩٠ من القانون واضحة النص .. فالمبدأ الا يمنح المصرف المركزي قروضاً للقطاع العام أي للدولة ومتفرعاتها، لكن اصرار الحكومة على طلب القروض يمكن أن يمنح المصرف المركزي القرض أو القروض المطلوبة، وعلى هذا اندرجت العلاقة المالية بين المصرف والدولة على منح الدولة ما تريد من اموال “بصفة قروض” تحت مسوِّغ تسيير عجلة الإدارة وشؤونها، رغم ابداء المصرف ملاحظاته وتقديم بدائل للقروض. وهذا يعني بكل وضوح أن القرار الأخير في هذا هو للدولة. وهنا من المفيد التذكير بما حصل مع حاكم مصرف لبنان ادمون نعيم سنة ١٩٩٠ حين رفض تمويل مال للدولة “لوزارة الداخلية”، ما دفع وزير الداخلية آنذاك إلى توجيه قوة أمنية للمصرف المركزي لإحضار الحاكم إلى وزارة الداخلية بالقوة. إن هذا كله يحيلنا إلى ما حدده قانون النقد والتسليف من مهام للمصرف المركزي إلى جانب مهمته الرئيسية إصدار النقد .
يحدد القانون مهام المصرف العامة كما يلي. “مهمة المصرف العامة هي المحافظة على النقد لتأمين أساس نمو اقتصادي اجتماعي دائم وبشكل خاص ما يلي .
– المحافظة على سلامة النقد اللبناني
– المحافظة على الاستقرار الاقتصادي
– المحافظة على سلامة أوضاع النظام المصرفي
– تطوير السوق النقدية والمالية
هذه. هي مهامه، لكن حسن سيرها وتنفيذها مرتبط بالتعاون بين المصرف والدولة” الحكومة” وهذا التعاون مبني على قاعدتين أساسيتين:
 – يقدم لها المصرف كل مشورة تتعلق بالسياسة المالية والاقتصادية بهدف تأمين الانسجام بين مهمته وأهداف الحكومة .
– والقاعدة الأخرى أن تقدم الدوائر الحكومية ، ومؤسسات القطاع العام ومؤسسات الاقتصاد المشترك ، أن تقدم للمصرف الإحصاءات والمعلومات التي يحتاج إليها في دراساته الاقتصادية .
ونستطيع القول إن هذه العلاقة بينهما لم تكن سوية لجهة تزويده بالمعلومات الدقيقة والصحيحة من أجل وضع دراسة اقتصادية سليمة، تؤمن سلامة سير الاقتصاد الوطني بما يسمح بثباته ونموه وتطوره .

ثالثاً: هذا من ناحية علاقة المصرف بالدولة، أما من ناحية علاقته بالمصارف “جمعية المصارف” فقد حكمتها مسألتان:
الأولى اعتماد المصرف المركزي على المصارف لتزويد الدولة بالسيولة اللازمة من خلال مساهماتها في ايداع الاحتياط الإلزامي من الودائع لدى مصرف لبنان، وأيضاً من خلال اكتتابها في سندات الخزينة التي يصدرها المصرف لحساب الدولة ممثلة بوزارة المالية، أو من خلال شرائها لسندات اليوروبوند أيضاً، والتي يتم تسويقها كذلك لصالح الدولة عبر وزارة المالية، وما شجع المصارف على دخول سوق السندات هذه، هو اغراءات الفوائد العالية من ناحية، وإمكانية إعادة تسويقها مجدداً لمستثمرين آخرين، بحيث يمكن بيعها لهم بهامش ربح للمصارف من ناحية، وفائدة مغرية للمستثمرين افراداً أو شركات. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، اعتبرت المصارف أن ديونها على الدولة بهذه الطريقة هي ديون مضمونة، بمعنى أن ضمانتها هي استمرار الدولة بإدارتها، وبما تملك من اموال منقولة “الذهب” وغير منقولة، أي الأراضي والعقارات الخ الخ .
وعلى جانب مصرف لبنان فإن حاجته إلى زيادة موجودات سلته من العملات الاجنبية وخاصة الدولار الاميركي، وذلك بهدف استمراره في تثبيت سعر صرف الدولار الاميركي، ذهب بعيداً في ابتداع ما سمي الهندسات المالية للمصارف، ما انعكس أرباحاً هائلة للمصارف من ناحية، وزيادة ملحوظة لموجودات المصرف بالعملات الاجنبية من ناحية ثانية، وكل هذا عبر ما ابتدعه المصرف من إجراءات تالية
إصدار السندات، شراء المصارف لهذه السندات بفوائد مرتفعة، ثم إعادة حسمها لمصرف لبنان بهامش فائدة ضيق ما لا يؤثر على أرباح المصارف التي جنت هذه الأرباح، دون أن تنتظر كامل مدة استحقاق السندات المذكورة .
إن هذا الإجراء كان له أسوأ الأثر على الاقتصاد بكل فروع، اذ قبل ما يسمى الهندسات المالية، كان توجه المصارف اغراق السوق الاقتصادي الداخلي بإغراءات الإستدانة وتعميم القروض التجارية والصناعية والسياحية والعقارية. ومن منا لا يذكر الكم الهائل من الدعاية والإعلان الذي قامت به المصارف لتوسيع مجال اقرضها السوق الاقتصادي الداخلي بفوائد لم تكن عالية جداً، لكنها لم تكن متدنية أيضاً، حتى أنها، أي المصارف، ابتدعت أنواعاً جديدة من القروض الشخصية للمواطنين، من قرض السيارة إلى قرض الأثاث المنزلي، إلى قرض السياحة والسفر. حتى وصل ببعضهم الأمر الى ما سمي قرض التجميل “لإجراء عمليات تجميل” و غيره، كل ذلك بهدف استثمار الودائع المتوفرة، وجعل المواطن بكل ما يملك رهينة لديها، وذلك بتسهيل عملية الإقراض والإستدانة إلى تسهيل مدة التسديد لآجال متوسطة. وتجعل المواطن مرهوناً بالكامل للمصرف. لكن هذا التوجه للمصارف نحو اغراق السوق الداخلي بالقروض تضاءل إلى حد التوقف، عندما قام مصرف لبنان ببدعته”الهندسة المالية”. بذلك بدأت تخرج المصارف من المساهمة في تسيير عجلة الاقتصاد عبر القروض التجارية والصناعية والشخصية، على قاعدة أن قروض الشركات والقطاعات التجارية والقروض السكنية والقروض الشخصية تحمل في طياتها مخاطر عدم التسديد والتعثر، في الوقت الذي تبدو سوق السندات والأسهم من دون مخاطر أو أقله بمخاطر لا تذكر .

رابعاً: وفي ظل هذا التوجه من الاستثمار ذي الفوائد المرتفعة، حققت المصارف أرباحاً هائلة. وعليه، غرقت الدولة أكثر في مستنقع الدين العام مستسهلة الإستدانة تحت حجة تسيير عجلة الإدارة العامة لمؤسساتها، وفي هذا الجو المالي المنفلت من أي ضابط أو رقابة مالية، استفاد المواطن بطريقة ما، وذلك ببعض الفوائد المرتفعة أيضاً على مدخراته، وأدخل المواطنون في سوق شراء سندات الخزينة لآجال متوسطة وطويلة وبفائدة مرتفعة. كل هذا السلوك المالي من المصرف المركزي والمصارف والدولة، بنى سوقاً مالية وهمية لا مكان فيها للاستثمار والاقتصاد المنتج. وحين أرخت الأزمة المالية النقدية بثقلها على البلاد، منذ ما قبل انتفاضة ١٧ تشرين وتخبط الدولة في معالجتها للأزمة إن من ناحية التوقف عن سداد ديونها، أو مواجهة انفلات سعر الصرف وانخفاض احتياط العملات الاجنبية في المصرف المركزي، وانعدام قدرة المصارف على تلبية السوق بالعملات الاجنبية وخاصة الدولار الاميركي. كل هذا دفع باتجاه ارتفاع سعر الصرف الذي لا يزال صاعداً حتى اللحظة، دون أي رادع في ظل غياب حكومة واعية وقادرة وحاملة لبرنامج إنقاذ سوي، يجترح وسائل علاج هذا الوضع المتهور والمتدهور بسرعة نحو قاع قد لا يكون الخروج ممكناً منه، الا بعملية جراحية تطال جسد الطبقة السياسية الحاكمة نفسها .
على كل ما تقدم كانت الصرخة المؤلمة الموجعة الهادرة هي صرخة المواطنين، اين ودائعنا؟ كل المعنيين المسؤولين عن هذه الأزمة كان سؤالهم كيف يخرجون من أزمتهم، المصرف المركزي كيف يحافظ على ما تبقى من موجوداته، المصارف كيف تستعيد أموالها، الدولة كيف تستمر بإدارة ما تبقى من شؤون بطريقة عرجاء. هؤلاء جميعاً، اعتبروا أن المنقذ فقط من ذلك هو ودائع المواطنين.
وبات الحديث كله ما ذا نفعل بهذه الودائع؟ وكثرت الأسئلة هل هي لا تزال موجودة أم تبخرت، وكثر الحديث وتدفقت الاقتراحات مما يسمى الكابيتال كونترول الذي بات يعمل به في حكم الواقع، لكن يتم التداول في اضفاء الصفة القانونية عليه، إلى ما يسمى الاقتطاع من رأس المال ” الوديعة ” أي الهيركات، وهو معمول به لدى المصارف بمباركة الدولة ومصرف لبنان، إذ يجبر المواطن على صرف وديعته بالدولار بسعر ٣٩٠٠ ليرة، أي بأقل من ثلث سعر الصرف في السوق الموازية. وهذا أيضاً ينتظر إقرار قانون له. إذن فان ثالوث الأزمة المالية النقدية وهو “الدولة والمصرف المركزي والمصارف”، وقد رأوا جميعهم أن منقذهم هو التلاعب بأموال المواطنين أي ودائعهم.
عليه، هل ودائع المواطنين تبخرت، هل اختفت، هل لم تعد قائمة في المصارف؟ وبما أن ثالوث الأزمة يرى فيها منقذاً لازمته بالاستحواذ عليها، فهذا يعني بالتأكيد أن الودائع لا زالت موجودة في المصارف، إنما قيد الاعتقال والحجز والمماطلة. بمعنى أنها كالسجين لا يستطيع صاحبه زيارته سوى مرة في الشهر أو متى سُمح له بذلك. ولذلك لم يكن صدفة أن يتضامن ثالوث الأزمة فيما بينهم رغم تناقضاتهم للأطباق على ودائع المواطنين. إن هذه الودائع موجودة وقائمة لدى المصارف، وهناك ما يسمى ضمانات لها ومنها .

  1. مؤسسة ضمان الودائع، وهي حساب خاص قائم بذاته لدى مصرف لبنان ، والذي لم يأت على ذكرها أحد .
    ٢– تأمين المصارف لدى شركات التأمين على موجوداتها بما فيه الودائع .
    ٣- موجودات المصارف “أموالها المنقولة وغير المنقولة ” اذ إن هذه يجب أن تكون كافية لإيفاء حقوق المودعين في حال تعثر المصرف، أي مصرف عن القيام بالتزاماته .
    4- القوانين المالية المرعية الإجراء. لذا نرى أن ضمانة تحرير ودائع المواطنين يمر عبر تأليف حكومة تحمل برنامجاً انقاذياً في مقدمته:

أ – حماية حق المواطنين في استعادة ودائعهم بحرية تامة.

 ب -هيكلة المصارف بما يسمح للمقتدرين والأمناء بالاستمرار.

ت- تعديل قانون النقد والتسليف بما يسمح بمحاسبة الحاكم والمجلس المركزي للمصرف المركزي، وإقالتهم في حال إخلالهم القيام بواجباتهم وإلحاق الضرر بالمالية العامة والنقد الوطني.

ث –  اجبار المصارف على التأمين الكلي على الودائع فيها لدى شركات تأمين خارجية موثوقة عالميا ً.
ج- تشديد الرقابة على المصارف بما لا يسمح لها باستثمار ودائع المواطنين بطرق غير مضمونة وغير منتجة .
إن كل ما تقدم يتطلب سلطة سياسية تحارب الفساد وتدير شؤون البلاد بنزاهة وأمانة. وهذا كما أشرنا أعلاه يمر عبر جراحة سياسية تطال جسد السلطة القائمة. وهذا يتطلب قوى شعبية ديمقراطية معارضة وازنة تخوض غمار التغيير السياسي الديمقراطي ببرنامج إنقاذي شامل .

Leave a Comment