سياسة

انسداد افق تسوية الحد الأدنى يجعل الانقاذ مسؤولية اللبنانيين

كتب زكي طه

    لم يسقط الانهيار من السماء، ولم تأتِ الأزمات من الفراغ، وانفجار الخلاف بين رئيس الجمهورية والرئيس المكلف بتشكيل الحكومة لم يكن بلا مقدمات، أو من خارج السياق العام الذي يحكم البلاد ويأسرها، ضمن قيوده المقفلة على استحالة فصل اسباب الداخل ومعطياته عن عوامل الخارج الفاعلة والمتدخلة.

   والتأخير في تشكيل الحكومة لم يخرج عن آليات تعطيل الاستحقاقات التي باتت صفة ملازمة لصيغة نظام الحكم القائم، بقوة الأمر الواقع وتبعاً لاختلال موازين القوى داخلياً وإقليمياً. ما أبقى البلد فريسة شروط واملاءات الطرف الأقوى القادر على اخضاع الآخرين لانتزاع حصة، أو فرض مشيئته.

   أما السياسات والممارسات المعتمدة من هذا الطرف أو ذاك، فلا تُقرأ إلا موصولة بمشاريع ومصالح أصحابها، انطلاقاً من نظرتهم للكيان والنظام، ومساعيهم  لتحقيقها واستناداً إلى مواقعهم في السلطة.. وفي هذا السياق تحضر كل الأوهام القاتلة الملازمة للممارسات المدمرة والمغامرات الانتحارية، التي أدت بمجملها إلى انهيار البلد وإلقائه في قاع الهاوية.

   والأوهام المشار إليها يتشاركها الجميع. بدءاً من العهد الذي لم يخفِ طموحه في الانقلاب على الطائف والسعي لفرض صيغة نظام رئاسي بقوة الأمر الواقع، مستنداً إلى صلاحيات رئاسية سابقة أحالها دستور الطائف إلى مجلس الوزراء مجتمعاً. وإذ شكلت راية إستعادة حقوق المسيحيين مدخلاً للاستئثار بتمثيلهم، فالأهم بالنسبة للعهد المحاصر تكريس صهره رئيس التيار ناطقاً وحيداً باسمهم ومرشحاً منفرداً لوراثتة.  وهذا لم يعد له مكان راهناً ليس بسبب العقوبات الاميركية فقط، بل لأنه مرفوض من غالبية الطائفة ومكوناتها.

  أما القوات اللبنانية فلم يكن مصير أوهامها افضل حالاً،  فبعد الانقلاب السريع للعهد وتياره على اتفاق تقاسم التمثيل في معراب، وانكشاف خواء حلم قائدها بوراثة العهد، اندفعت مع انفجار الوضع للتغريد خارج سرب منظومة السلطة، تحت ستار إدعاء البراءة وتسويق دور انقاذي مطعون بمصداقيته. وصولاً إلى التماهي مع خطاب البطريرك وشعار الحياد المستحيل في ظل الانقسام الأهلي المتعاظم، بأمل استعادة مجد غابر في غير سياقه وأوآنه، عبر استغلال مأزق العهد والتيار وفشلهما في تحقيق أي من شعاراتهما بذريعة “ما خلونا.” 

   ولأن رئيس الحزب الاشتراكي الأقوى تمثيلاً لطائفته لم يزل مقيماً وسط القلق المتصاعد، بناءً على قراءته للمسار العام الذي يحكم البلد والوقائع والمعطيات الدالة على الخراب الزاحف،  فإنه لم يتردد في الافصاح سابقاً وراهناً عن مخاوفه من الخطر الذي يتهدد مصير الطائفة والكيان في آن،  في ظل أزمات المنطقة وانعكاساتها على لبنان. ورغم ذلك، فهو يحاذر الاشتباك مع  بقية الاطراف أو القطع مع أي منها، والحرص على إبقاء جسور التواصل معها، ومتابعة البحث عن تسوية الحد الأدنى والدعوة الدائمة لها.

  أما رئيس تيار المستقبل وفي امتداد عودته من المنفى إلى رئاسة الحكومة على رافعة صفقة التسوية الرئاسية، والرضوخ لشروط الحزب الذي عطّل البلد واستحقاقاته لفرض مرشحه. فإن مفاعيل تلك العودة نزولاً عند احكام اختلال توازن القوى وما رافقها من أوهام، كانت مأساوية عليه موقعاً ودوراً وعلاقات في الداخل والخارج. عدا أنها كانت كارثية  بكل المقاييس على البلد جرّاء التنازلات التي ارتضاها في ميادين السياسة والحكم والصلاحيات مقابل بقائه في الحكم، لأنها افقدته حلفاءه وجعلت البلد محاصراً بالمقاطعة والعقوبات، بحكم تحوله وبقوة الامر الواقع ساحة صراع مرتهنة على نحو الاجمال لمحور الممانعة.  وعليه، فقد  تحوّل بقاءه في رئاسة الحكومة بأي ثمن عبئاً على الموقع و مصدر إضعافٍ له. أما انتفاضتة المتأخرة فإنها لا تشكل مخرجاً لأزمته ومعه البلد المحاصر بإدارة الظهر له والمتروك لمصيره، في ظل رفض حكامه التفاعل مع وعود وتعهدات الدعم الخارجي بشروط الحد الأدنى.

   في المقابل يبدو مأزق الثنائي الشيعي أكثر تعقيداً، وذلك بالنظر لوزن موقع ودور الطائفة  الذي لم يعد بإمكان الأطراف الأخرى تجاهل وقائعه وعناصر قوته، المستندة إلى فائض القوة واختلال موازين القوى. وإلى اختلاف النظرة والسياسات بين حركة أمل وحزب الله حول موقع الكيان ودوره  في الإطار الاقليمي، وعلاقاته مع محيطه العربي في مواجهة دور النظام الايراني وسياسته في المنطقة. والاختلاف مرده التعارض بل التناقض بين منطلقات واستهدافات المشروع السياسي لكل منهما. وإذ تستهدف الحركة، باعتبارها وريثة مشروع الإمام موسى الصدر، تكريس موقع ودور الطائفة شريكاً فعلياً وأساسياً في الحكم والنظام العام ومؤسسات الدولة وأجهزتها، فإن الحزب يعامل البلد ساحة صراع استناداً إلى مشروعه السياسي في امتداد استراتيجية النظام الايراني في المنطقة بقيادة الولي الفقيه.

    وبصرف النظر عن التعايش القسري بين الطرفين، وإدعاء الحرص على وحدة الموقف، إلا أن الوقائع والمعطيات وفق مسار البلد وأزماته المتعددة  طوال عقود لا تؤكد أبداً هذا الأمر. وهذا ما عكسه راهناً خطاب الحزب وبيان الحركة، اللذين لم ينقصهما الوضوح في التعبير عن نظراتهما المختلفة للأوضاع وافتراق التوجهات بشأنها، ما يؤشر إلى المأزق الخاص بكل منهما. يحدث ذلك في لحظة شديدة التعقيد لجهة تجدد الصراع الاميركي والاقليمي مع النظام الايراني، وتعدد ساحات المواجهة في سياق التحضير للمفاوضات العسيرة القادمة بين الجهتين، وموقع لبنان فيها ونصيبه من مخاطرها، معطوفة على انفجار أزمات النظام وانهيار مؤسسات الدولة ونزاعات قواه، ورفضها التوافق على تسوية الحد الأدنى، لدرء المجاعة عن اللبنانيين وحماية وطنهم من الزوال .

  وما يدلل على مأزق الطرفين وأزمة العلاقة بينهما، هو حدة المواقف المعلنة في سياق اختلاف مضمرات الأهداف وطبيعة التوجهات لديهما حول مختلف القضايا والملفات، بدءاً من  أداء العهد وتياره، وصيغة تشكيل الحكومة ومهامها، وتعديل الدستور وتعويم الحكومة المستقيلة، مروراً بسبل معالجة الأزمات والعلاقات مع الخارج والمحيط مدخلاً للانقاذ، ومؤسسات الدولة بما فيها الجيش والمصرف المركزي و..   يضاف إلى ذلك حالة القلق والعلاقة المأزومة والمتوترة على مستوى القاعدة الاجتماعية للطرفين. وإذا كان الإمساك بالعصا من الوسط شكل عامل أمان وحماية للموقع بالنسبة للحركة ودور رئيسها، فإنه راهناً وفي ظل الاستحقاقات الصعبة، في طريقه للتحول إلى عبء ومأزق ليس سهلاً الخروج منه.

   في المقابل فإن ورقة العهد وتياره المحاصرين والمأزومين، لم تعد تشكل غطاءاً كافياً لدور وأداء الحزب وسلاحه وسياسته المحلية والاقليمية، بينما ملاحقه الأخرى أعجز عن أن تفِ بالغرض لأنها عالة عليه.  وهذا ما يبقيه مكشوفاً في الداخل وامام الخارج، في لحظة اشتداد الصراع في الاقليم وحول لبنان، ما يضعه ومعه البلد امام  مأزق الخيارات الصعبة، الخطيرة والمصيرية في آن.

   وعليه، و أمام عجز ورفض سائر أطراف السلطة المأزومة تقديم التنازلات، والتوافق على تسوية الحد الأدنى انقاذاً للبلد، لأن وجودها ومواقعها وحصص نفوذها أهم منه، فإن الإنقاذ  يبقى مهمة اللبنانيين المتضررين، انطلاقاً واستناداً إلى  وعيهم ومصالحهم وسعيهم نحو سلوك سبيل الخروج من الهاوية وعدم الاستسلام كي يبقى لهم وطن.

Leave a Comment