ثقافة مجتمع

مراجعة لكتاب فردريك معتوق وفادي دقناش: التنشئة على العصبية عمل بحثي لا يمكن تجاوزه

بول طبر

بيروت 27 تشرين الثاني 2023

“التنشئة على العصبية”، كتاب مهم لانه يتناول ظاهرة العصبية في لبنان، ويظهر كيف يتم انتاجها بصورة مستمرة عبر التنشئة العائلية والاجتماعية للافراد، وذلك ضمن العائلة التي يتربون في احضانها وفي المدرسة التي يذهبون اليها، والمؤسسات الدينية والمذهبية التي ينتمون اليها. من هذه الناحية، نجد ان هذا البحث هو رائد في مجال دراسة العصبية في المجتمع اللبناني من حيث ارتكازه على عينة (لا يفصح الكاتبان، معتوق ودقناش، إذا كانت تمثيلية أو شبه تمثيلية) للمجتمع اللبناني، واعتماد ما قاله المستجوبون والمستجوبات لكشف دور المؤسسات الاجتماعية في انتاج العصبية كظاهرة وممارسة اجتماعية.

والملفت ايضاً في هذا الكتاب البحثي، هو كشف المؤلفين لعلاقة التفاعل والتعاضد بين المؤسسات التي تتولى تنشئة الافراد على العصبية، وبذلك نكون امام وضع يصعب على الفرد اللبناني التفلت من ضوابط ومفاعيل هذه التنشئة خلال مختلف المراحل من حياته.  وللتدليل على عمق وتعزيز التنشئة على العصبية، يقوم المؤلفان باستخدام مفهوم “الهابيتوس” العائد لبيار بورديو، ليؤشرا الى اختراق العصبية كنظام من القيم والسلوك لكيان الفرد وتأطير الميول والاستعدادات التي تتحكم فيه. ان المرور على هذا المفهوم يحيلنا للتعمق أكثر في مراجعة هذا العمل البحثي الذي بين ايدينا.

بالنسبة لي، مفهوم الهابيتوس هو في جانب من جوانبه تعميق وتأصيل نظري لما سبق وكتبه كارل ماركس في كتابه “برومير الثامن عشر للويس بونابرت”: يصنع الرجال (والنساء) تاريخهم، لكنهم لا يصنعونه كما يشاؤون: انهم يقومون بصناعته بظروف ليست من اختيارهم، وانما بظروف يلاقونها بصفتها معطيات تنتقل اليهم من الماضي”. فمن خلال هذا المفهوم يتصدى بورديو  لثنائية الموضوع والذات، البنية والفعل الاجتماعي، ليتم رفضها في النهاية، او قل تجاوزها، لصالح مفهوم “الممارسة” كما لمَّح له ايضاً ماركس في كتاباته. والممارسة المقصودة في هذا السياق هي الامر الذي تتحكم فيه هابيتوس الافراد والجماعات والتي تشكل نقطة التقاء وتفاعل بين الذات والموضوع او بين البنية والفاعل الاجتماعي المتواجد في وسطها.  والبنية هنا هي علاقات قوى وضوابط يتم بموجبها انتاج فرص وتوزيعها بصورة متفاوتة (الامر الذي يشير اليه بورديو بمفهوم الحقل والرأسمال). أمَّا الذات أو الفاعل الاجتماعي، فهو أولاً، يستنبط هذه البنية قيماً واحكاماً واستعدادات ونوازع عبر التنشئة الإجتماعية. وهو ثانياً، يمتلك القدرة، حسب موقعه في الحقل الذي يتواجد فيه (وفق بورديو هناك أربعة حقول أساسية في المجتمع، حقل إجتماعي – ومنه يتفرع الحقل السياسي- وحقل ثقافي واقتصادي ورمزي)،  والهابيتوس الذي يعود إليه، على ابتكار استراتيجيات عمل بصورة واعية حيناً، وشبه واعية أحياناً أخرى

. (Sub-conscious)

وصحيح أنه غالباً ما تؤدي هذه الاستراتيجيات إلى إعادة انتاج علاقات القوى ومعايير الرأسمال الملازم للحقل المعني، أي أنها تعيد انتاج الحقل بحسب بنيته وضوابطه العامة، إلا أن ذلك لا يلغي إحتمالين، الأول حدوث النزاعات بين الفاعلين الإجتماعيين حول توزيع الموارد والحصص التي يوفرها الحقل، والإحتمال الثاني هو ما يؤدي إلى التغيير الجذري أو التدريجي لعلاقات القوى والمعايير المتعلقة برأسماله المحدد.

من هذه الزاوية، أجد أن المؤلفين قد بالغا في التشديد على الجانب السكوني في دراسة العصبية في المجتمع اللبناني، وفي المقابل أهملا الجانب النزاعي المتعلق بهذه الظاهرة، دون أن نذكر الجانب التغييري، وإن لم يكن شاملاً لغاية الآن لجهة المؤسسات أو الأفراد والجماعات (على سبيل المثال، الزيجات المختلطة والمجموعات المختلفة التي تحارب المفاهيم الأهلية وعلى رأسها العصبية).

إضافة، إن الكتاب الذي بين أيدينا هو بدون أدنى شك مثال جيد على الدراسات السوسيومعرفية والتي تتجنب النزعة الإقتصادية في تحليل ظاهرة العصبية. غير أنه في الوقت الذي يبتعد فيه الكاتبان عن هذه الإختزالية الإقتصادية (والسياسية)، نجدهما يقعان في منزلق النزعة الإجتماعية (السوسيومعرفية). لا شك أن ظاهرة العصبية لها آلياتها الخاصة ومنطقها الخاص، لكنه لا يمكن فهم نشأتها التاريخية وبنيتها وآلية عملها بدون النظر أيضاً في دور الحقول الأخرى في كل ذلك. فعلى سبيل المثال، كيف لنا أن نتجاهل نشوء العصبية كظاهرة معاصرة في المجتمع اللبناني من دون العودة إلى دور ونشوء الكيان اللبناني كدولة ووطن عام 1920 ، وكيف يمكن تجاهل الرأسمال الإقتصادي المتمثل بفئات ومصالح إقتصادية محددة ذات طابع رأسمالي ودوره الفعال في تعزيز ظاهرة العصبية وديمومتها؟ إلخ.

أسجل هذه الملاحظات وأنا مدرك أن أي دراسة للظاهرة العصبية وتجلياتها المتعددة لا يمكن لها أن تتناول جميع جوانب هذه الظاهرة المحورية في المجتمع اللبناني دفعة واحدة. إلا أن ذلك لا يمنع من تنبيه القارىء بشكل أو بآخر من تشابك أي ظاهرة إجتماعية، ومن ضمنها ظاهرة العصبية، مع ظواهر أخرى، وتعيين نوع ومدى التفاعل فيما بينها. وهنا أيضاّ أجد كلام بورديو عن علاقة التفاعل البيني

(interface)

وعلاقة التحويل ومعايير التبادل بين الرساميل (مثلاً تحويل الرأسمال الإقتصادي إلى رأسمال سياسي يتمحور حول العصبية والعلاقات الأهلية الأخرى) مفيدة جداً. وكذلك دور علاقات القوة بين مختلف الرساميل ودور الرأسمال الأقوى في تحديد مسارات وتأثير الرساميل الأخرى.

كلمة أخيرة لا بد منها: كتاب “التنشئة على العصبية” عمل بحثي لا يمكن تجاوزه عند القيام بدراسات أخرى ومطلوبة لظاهرة العصبية، ليس في لبنان فقط، وإنما في المجتمعات العربية كافة.

Leave a Comment