سياسة

ماذا وراء الاجازة الملغومة لاجتماعات الحكومة؟

 زكـي طـه

تتوالى جولات التفاوض بين موفدي الدول الكبرى وخاصة الولايات المتحدة الاميركية مع وفد النظام الايراني في فيينا، حول امكانية العودة للاتفاق النووي، وسط تبادل الشروط والشروط المضادة حول ضمانات عدم الخروج منه، والالتزام برفع العقوبات.  وتحضر فيها سياسات النظام الايراني في اطار الصراع المفتوح على تقاسم النفوذ والسيطرة على المنطقة العربية. ويتزامن معها احتدام الخلاف الشيعي – الشيعي في العراق، حول تشكيل الحكومة الجديدة، في أعقاب الانتخابات النيابية التي أتت نتائجها لغير مصلحة جبهة تنظيمات وميليشيات الحشد الشعبي التي يديرها الحرس الثوري الايراني. إلى جانب تصعيد المعارك العسكرية على نحو غير مسبوق وفي أكثر من جبهة داخل اليمن، مع توسيع رقعة الاهداف داخل الاراضي السعودية لتصل مؤخراً إلى دولة الامارات العربية المتحدة.

وإذا كان من الصعب القول أن تلك المفاوضات قد اقتربت من خواتيمها، رغم التقدم المحدود الذي يشيعه بعض الأطراف، في الوقت الذي تتصاعد التحذيرات الدولية وخاصة الاسرائيلية من خطر تسريع عمليات تخصيب اليورانيوم، وسط الإكثار من التهديدات باستخدام القوة لمنع ايران من التقدم نحو امتلاك السلاح النووي. فإنه من المستحيل أيضاً الفصل التام بين مجريات المفاوضات المعقدة والتي قد تطول أشهراً وربما سنوات والتصعيد الميداني، وبين تصاعد حدة الصراعات المتفجرة على أكثر من صعيد في ساحات المنطقة متجاوزة العراق واليمن، لتشمل مختلف كياناتها المأزومة، بدءاً من سوريا وصولاً إلى ليبيا وتونس والسودان مروراً بمصر وسائر دول الخليج، بما فيها الأوضاع الداخلية في كل من ايران وتركيا حيث تحتدم فيهما الأزمات السياسية والاقتصادية، على نحو يستحيل معه معالجتها أو السيطرة عليها عن طريق القمع أو بقوة الاستبداد.

وعدم الفصل مرده أن الصراعات الداخلية قابلة دوماً للتوظيف لانها ميدان مفتوح للتدخلات الخارجية الدولية والاقليمية. ما يجعل منها أوراقاً تستخدم للضغط، أو للمساومة عليها، في مسارات التفاوض العلنية منها أو السرية بين الجهات المعنية. ولذلك تكثر التحليلات التي تربط التطورات المحلية في هذه الساحة أو تلك بتعقيدات المفاوضات وعسر تقدمها أو تعثرها.

ولا يختلف الأمر في لبنان عنه في الساحات الأخرى. بالنظر لتعدد عوامل الاتصال مع الخارج والانفصال عنه في آن. الأمر الذي يجعل للحيز الداخلي مكانة قائمة بذاتها، نظراً لطبيعة مصالح الاطراف الداخلية المتصارعة، سواء كانت في موضع الرهان على العوامل الخارجية، أو الارتهان لها أو كليهما معاً. كما هو الحال بالنسبة لغالبية اطراف منظومة السلطة حيث يسعى كل منها لأخذها بنظر الاعتبار عند تحديد وجهة حركته الراهنة، حيال مفاعيل الانهيار ومضاعفاته التي تعصف بأوضاع الغالبية الساحقة من اللبنانيين الذين يشكلون بيئة تلك القوى. بالاضافة إلى تقرير خطواته في التعامل مع استحقاقي الانتخابات النيابية والرئاسية على نحو يخدم مصالحه وموقعه في السلطة.

وفي هذا السياق تُقرأ خطوة حزب الله في تسهيل انعقاد جلسات الحكومة على نحو مشروط، بالاتفاق مع رئيس المجلس النيابي، الذي انتزع بقوة الضغط توقيع رئيس الجمهورية على مرسوم فتح دورة استثنائية. لأن إخراج المجلس من دائرة الشلل يتطلب ضرورة إحالة مشروع الموازنة له لمناقشتها وإقرارها، ومعها بعض القوانين التي يمكن لها أن تحسِّن صورة اطراف السلطة وقواها أمام جمهورها الانتخابي. هذا عدا الإفادة من الحصانة للنواب المتهمين والذين صدرت بحقهم مذكرات توقيف.

لكن الأهم بالنسبة للحزب سحب مسؤوليته عن تعطيل جلسات مجلس الوزراء من التداول، على ابواب الانتخابات النيابية. إذ لم يعد باستطاعته تجاهل تصاعد واتساع ردود الفعل الاحتجاجية والاتهامية  في اوساط قاعدته الاجتماعية وبيئته حول اسباب ومضاعفات الانهيار، بعدما تكشف لها أنها ليست بمنأى عنها.

وما سهّل قرار إجازة جلسات الحكومة مؤقتاً بالنسبة لقيادتي الحزب والحركة معاً، ما آلت إليه أوضاع السلطة القضائية من انعدام قدرة على ملء الفراغات في الجهاز القضائي، الذي اصبح عاجزاً عن البت بالدعاوى التي تستهدف المحقق العدلي، وقد بات مقيداً وممنوعاً عليه استكمال أو متابعة التحقيق واصدار قراره الظني. ما يعني طي ملف التحقيق في جريمة المرفأ، دون “قبع” القاضي المعني ودون التقدم به.

وبذلك أمكن للحزب التخفف من ضغوط رئيس الجمهورية الذي يحاول جاهداً انقاذ سمعة عهده الذي اقتربت نهايته، رغم اصراره على تحميل مسؤولية فشله المريع على كل المستويات، إلى الآخرين. بما فيها محاولاته الأخيرة المتمثلة بالدعوة إلى طاولة حوار يجمع حولها سائر اطراف المنظومة، التي لم تعد تجد فيه رئيساً لها. وهو الأمر الذي اصبح مصدراً للتهكم والإستهزاء بقوته المدعاة. هذا بالاضافة أيضاً إلى تعطيل محاولات رئيس التيار إدارة اشتباك وهمي مع حزب الله، من أجل تحسين صورته أمام قاعدته وبيئته والخارج. وذلك عبر الهروب إلى الأمام ومحاولة توظيف الهجوم على سياسات الحزب وأدائه للتخفيف من اضرار استمرار التحالف معه، والحد من مضاعفاتها السلبية على التيار المأزوم. يتزامن الأمر مع تصعيد الاشتباك مع رئيس المجلس النيابي الذي ينسق مع رئيس الحكومة في رفض سلة التعيينات التي يطالب بها العهد والتيار وأبرز ما فيها عزل حاكم المصرف المركزي. وعليه يكتفي الحزب بدور الوسيط  للحد من غلواء ولي العهد وادارة الظهر لرغباته الانتخابية النيابية والرئاسية.

لكن اسباب ومبررات الحزب في تقييد إجازة انعقاد جلسات الحكومة، لا تقتصر على ما سبق، بقدر ما تتعداه لتجديد تحكمه بعملها وتعطيل كل ما يتعارض مع سياساته وينال من مصالحه وهيمنته وسمعته امام قاعدته. سواء تعلق الأمر بالموازنة والقرارات المالية لرفع أسعار الخدمات، أو خطة التعافي المالي والمفاوضات مع صندوق النقد الدولي. إلى جانب ضبط المحاولات المتنامية لتفلت رئيسها وبعض وزرائها في مواجهة سياسات الحزب وأدائه في الداخل والخارج. وهو الأمر الذي يتطلب تأكيد هيمنته وحرية حركته لتعطيل محاولات تطويقه ومحاصرته وتحميله منفرداً مسؤولية الانهيار.

ولذلك ترافقت الإجازة المشروطة لاجتماعات مجلس الوزراء، مع حملة تعبئة واسعة، لا تزال مرشحة للتصاعد من أجل شد عصب وتحشيد قواعد الحزب وبيئته، وتحصينها بحملة عالية اللهجة من التحريض والتهديد المتعددة الأوجه لخصوم الحزب وشركائه في السلطة، الذين يتبادلون معه تهم الفساد والتخوين والعمالة للخارج، وسط تنافس محموم على تأييد وإدانة ما تتعرض له بعض دول الخليج. لم ينج من حملة التحريض تلك، أحد من معارضي الحزب حتى  خارج السلطة على تنوع انتمائتهم وميولهم. وقد صنفوا جميعاً في خانة التآمر عليه والعمالة للخارج وسفاراته التي ترعاهم وتمولهم، وصولاً إلى التشكيك بوطنية كل من لا يوافقه الرأي والقول والمسلك.

وفي هذا الأداء لا يختلف الحزب عن سائر أطراف المنظومة التي تصعد من حملاتها التعبوية في اطار التحضير للانتخابات، بينما غالبيتها لا ترغب في حصولها. وهي تنتظر المخرج الممكن لصرف النظر عنها. وما يؤكد ذلك  تقارير موفدي الخارج الدولي والاممي المشككة بجدية وعود المسؤولين في ظل المماطلة الموصوفة من قبل الوزارات والدوائر المعنية، وعدم تنفيذ الاجراءات التحضيرية القانونية والإدارية اللازمة  لضمان حصول الانتخابات.

وفي اطار التسويق لأدوار انقاذية، تقع محاولات رئيس الحكومة  بالتنسيق مع رئيس المجلس وحاكم المصرف المركزي واصحاب المصارف، لتخفيض سعر الصرف والحد من المضاربة على العملة الوطنية وفق معدلات غير مسبوقة، عبر ضخ قسم من أموال المودعين، قبل إقرار الموازنة. ما أدى إلى الاطاحة بقدرة الغالبية الساحقة من المواطنين لتأمين الحد الأدنى من مقومات العيش.

وعلى ذلك يتكاثر الحديث عن صفقات وتسويات بين أطراف السلطة، تحاك خلف الكواليس، وفي الغرف المغلقة سواء تعلق الأمر بإدارة الانهيار وإبقاء الأمور تحت السيطرة، أو للتملص من الضغوط الدولية، وما يقع في امتدادها من شروط اصلاحية. حتى ولو أدى الأمر إلى تطيير الانتخابات وسيادة الفراغ باعتباره أهون الشرور، الذي يمهد لإمكانية البحث عن تسوية جديدة بضمانات خارجية تحفظ مصالح سائر الاطراف والقوى. الأمر الذي بدأت تباشيره تلوح في الأفق البعيد بالتزامن مع تكاثر الدعوات له. وإلى حينه وبانتظار نتائج مفاوضات فيينا، لاستكشاف حصصنا منها. ومعها يتجدد السؤال والتحدي الذي يواجه اللبنانيين حول سبل التخفيف من آلامهم، وإمكانية إنقاذ البلد وتلافي المخاطر المدمرة.

Leave a Comment