سياسة

لبنان والمنطقة أمام احتمالات توقيع الاتفاق الاميركي إلايراني

زكـي طـه

في 13 نيسان، كثيرة هي الاحداث والحوادث التي تذكّر اللبنانيين بتاريخ انفجار الحرب الأهلية عام 1975، باعتبارها لا تزال واقعاً مقيماً هو نتاج بنية نظام المحاصصة الطائفية وسياسات قواه وممارساتها الميليشياوية التي لا تقيم وزناً لاستقرار اللبنانيين وسلمهم الأهلي ومصيرهم. خصوصاً أن أحوال البلد بعد الانتخابات النيابية لن تكون كما قبلها. صحيح أن الاسبوع الماضي انطوى على مؤشرات إيجابية، كانت حصيلة متابعات واتصالات بعضها داخلي، وأكثرها كان يدور في الخارج. سواء تعلق الأمر بالإعلان عن زيارة بابا الفاتيكان في حزيران القادم، ومسارعة رئاسة الجمهورية للتبشير بها، وكأنها استجابة لطلباتها. أو نشر خبر عودة سفيري السعودية والكويت وسرعة وصولهم إلى بيروت ومحاولات تقديم الحدث باعتباره نتاجاً لجهد رئاسة الحكومة ووزير داخليته ومن أجلهما. أم لناحية بيان النوايا المتعلق بمعالجة الانهيار الذي اصدره رئيس بعثة صندوق النقد الدولي في اعقاب ورشة محادثاته المطوَّلة مع المسؤولين، وبالتوافق معهم لشراء الوقت قبل الانتخابات.

لكن الصحيح أيضاً أن ذلك كله تزامن مع انتهاء تشكيل لوائح المرشحين لخوض الانتخابات منتصف شهر آيار المقبل. وبدء صخب الحملات الانتخابية التي لا تخرج عن كونها خدمات متبادلة بين أحزاب السلطة. نظراً لما يحتشد فيها على السنة قادتها ومرشحيها، من فجور سياسي، هدفه التبرير والتعمية حول مسؤولياتهم عن الانهيار واسبابه. وما تنطوي عليه من منوعات التحريض الطائفي، والتعبئة الفئوية، وتبادل اتهامات الفساد والخيانة. والهدف شد عصب حشود المؤيدين والانصار، الذين يملأون المسارح والشاشات ضجيجاً اعلامياً رخيصاً، وسط صور المرشحين الملونة التي تحتل الساحات والشوارع. أما اكلاف تلك الحملات فأقل ما يقال فيها أنها تعكس عهر وفساد الطبقة السياسية بكل المقاييس الحقوقية والوطنية والانسانية، فيما البلاد وغالبية المواطنين أسرى معاناتهم بحثاً عن الخبز والدواء وابسط الخدمات.

بينما غالبية مجموعات المعترضين وقوى المعارضة، تصطدم بتحديات قدرتها على خوض الانتخابات، بعد إدمان أكثرها تبسيط قضية التغيير واستسهال المعركة الانتخابية والمواجهة مع قوى السلطة، واندفاعها للتنافس ترشيحاً وترشحاً وسط إنكار متبادل فيما بينها. أما صراعاتها لتشكيل اللوائح فقد أكدت شرذمتها وهامشيتها، كما برّزت قصور وعيها لأزمات البلد وضعف فعالية معارضتها. الأمر الذي شكل عامل اطمئنان اضافي لاحزاب السلطة وهي في صميم معركة تجديد شرعيتها في الداخل وأمام الخارج.

ولأن الأمر على هذا النحو، ليس غريباً ألا تنتظر تلك الاطراف، خاصة الاساسية منها، نتائج الانتخابات المقدرة سلفاً، للبدء بترتيب أوراقها لما بعدها. وأن يبادر الطرف الأقوى فيها، المتمثل بحزب الله لتنظيم صفوف جبهته سعياً منه لتهيئة الأجواء تحضيراً لمواجهة التحديات القائمة، وتمهيداً لتشكيل الحكومة الجديدة، وانتخابات رئاسة الجمهورية، في آن. باعتباره الطرف المتحكم بتوازنات الداخل والمقرر في إدارة الحكم وشؤون البلاد. وفي هذا السياق كانت المصالحة التي فرضتها قيادة الحزب على رئيسي التيار الحر وتيار المردة باعتبارهما المرشحين المتنافسين الحليفين له. والتي لم يشكل فشله في جمعهما ضمن لوائح موحدة للانتخابات النيابية، حائلاً دونها. وهي المحاولة التي جرت في إطار خوض الحزب معركة نجاح حلفائه في سائر المناطق.

وفي موازاة ذلك كانت مساعي رئيس الحكومة بأمل التجديد له بعد الانتخابات على رافعة الدعم الخارجي. هذا ما أكدته عودة السفراء العرب، والنتائج الأولية المبدئية للمفاوضات مع صندوق النقد الدولي، وكلاهما  شكل جرعة دعم لحكومته المتهالكة وسط  تداعيات الانهيار والصراع المحموم على السلطة بين أهل الحكم.

وإذا كانت العودة الاختبارية لسفراء السعودية والكويت واليمن، تشكل استجابة لطلبات الإدارة الفرنسية سعياً منها للتخفيف من مفاعيل اختلال التوازن الداخلي، الذي لا تؤمنه علاقاتها المفتوحة مع حزب الله والنظام الإيراني حول الشأن اللبناني. فإن بيان صندوق النقد الدولي لم يكتف برسم خارطة الطريق المطلوب اجتيازها لمعالجة أزمات البلد. ولذلك حدد الشروط الملزمة لتنفيذها، وفق صيغة تؤكد انعدام الثقة الكامل بمنظومة السلطة، استناداً إلى  التجارب السابقة معها، بدءً من “باريس واحد”،  وصولاً إلى مؤتمر “سيدر” وما بعده. وعليه فإن ما تضمنه البيان من تفاصيل تتعلق بالاصلاحات المطلوبة وتعهدات بشأنها، بدا وكأن إنذار أخير لأهل السلطة ووسيلة ضغط عليها. وهي التي أدمنت التهرب من التزاماتها، ومن  تحمّلها المسؤولية عمّا آلت إليه احوال البلد في آن.

لكن الأصح بالنسبة للبلد، أن المؤشرات الواردة، تبقى حمّالة أوجه إيجاباً وسلباً. كونها حصلت أيضاً، بالتزامن مع التطورات والمستجدات التي شهدتها المنطقة ككل، وهي تنتظر مفاعيل توقيع الاتفاق الاميركي ـ الايراني المتوقع حول الشأن النووي ودور الأخيرة في  أزمات المنطقة ولبنان منها. ورغم أن التوقيع يفترض نهاية الفصل الأخير والأشد صعوبة وتعقيداً في المفاوضات الدائرة، فإن ما يجري على مسرح المنطقة وفي العديد من ساحاتها، لا يمكن عزله عنها. سواء لناحية إعادة تعريف وتحديد مصالح دول وكيانات المنطقة وفي ما بينها، وسعي كل منها لترتيب أوراقه الداخلية الخاصة، أو علاقاته بسائر الاطراف الإقليمية والدولية ذات الشأن.

وفي هذا السياق، يستمر احتدام الصراع حول وجهة إعادة تكوين السلطة في العراق بعد الانتخابات النيابية الأخيرة، على نحو يبقيه ساحة مشرعة على شتى الاحتمالات والمخاطر. في ظل عجز قواه الرئيسية عن انتخاب رئيس جديد للجمهورية، والتفاهم على صيغة تشكيل حكومة جديدة لإدارة البلاد، والتي يريدها الطرف الفائز حكومة أكثرية، بينما تُصر إيران والميليشيات التابعة على حكومة وحدة وطنية، بهدف تكريس دور تعطيلي ضامن لنفوذها.

وفي السياق عينه، يُعاد خلط الأوراق في سوريا، في ظل بدء تراجع دور روسيا في المنطقة، باعتباره أحد نتائج حربها الفاشلة التي بدأتها على أوكرانيا. ولذلك كانت زيارة الرئيس السوري إلى الامارات، والاتصالات غير المعلنة مع تركيا لاستئناف العلاقات، في موازاة إعادة تشكيل قيادة ائتلاف المعارضة السورية. ولا يختلف الامر بشأن ما انتهى إليه مؤتمر الحوار اليمني، وصيغة إعادة تنظيم جبهة الحكم، بأمل تجديد البحث مع الحوثيين لإيجاد مخرج للأزمة اليمنية يراعي مصالح  اطراف الداخل والجهات الخارجية المتدخلة فيها.

وليس بعيداً عن ذلك اتفاقات التعاون والتنسيق التي عقدتها اسرائيل مع أكثر من دولة عربية. كذلك لقاء النقب الذي نظمته برعاية أميركا ومشاركة مصر والمغرب والامارات والبحرين. في موازاة عودة العلاقات التركية الاسرائيلية الاقتصادية والأمنية إلى مجاريها الطبيعية. في وقت تسعى فيه تركيا إلى ترتيب علاقاتها العربية. سواء عبر وقف محاكمة المتهمين باغتيال الخاشقجي وترحيل الملف إلى القضاء السعودي. أو من خلال التحضير لاستعادة العلاقة مع مصر، والتعهّد بعدم التدخل في شؤونها الداخلية، وتأكيد قطع علاقات النظام التركي بالمجموعات الأصولية المناهضة لنظام الحكم فيها.

وعليه وفي ظل حالة الانتظار لنتائج مسار التفاوض العسير والمتعسر بشأن الاتفاق مع النظام الإيراني ودوره، سواء تعلق الأمر باحتمالات التوقيع وما يحمله من إمكانية توليد تسويات لأزمات المنطقة لن يكون سهلاً وسريعاً تحققها، نظراً لتشابك المصالح وتداخلها على نحو فادح وخطير يطال مستقبل الكثير من دولها. أو في حالة تعثرها المؤقت، وما يستتبعه ذلك من قتل وخراب ودمار إضافي، جراء استمرار أزمات المنطقة وحروبها المفتوحة والمتفجرة.

في المقابل فإن نجاح أهل الحكم والخارج على السواء في شراء الوقت قبل الانتخابات، لا يمكن له أن يشكل ضمانة لنفاذ البلد من المخاطر الزاحفة التي تهدد ما تبقى من مقومات عيش اللبنانيين أو من سلمهم الأهلي. ورغم رهان البعض على امكانات تسوية خارجية مؤقتة  تفرض على اللبنانيين مرة أخرى، فإن الضغوط الخارجية لتحقيق الاصلاحات ومعالجة الأزمات على يد قوى السلطة، لا فائدة مرجوة منها، لأنها تصطدم بنفوذها ومصالحها. خاصة أنها في طريق تجديد شرعيتها على نحو كاسح. في مقابل ضآلة وزن المعارضة وفاعليتها. وحاجتها لتقييم تجربتها بكل ما انطوت عليه من أخطاء تكاد تقارب الخطايا، في معاينتها لأزمات البلد الكارثية، وما تشكله من تحديات تواجه اللبنانيين، الذين لا خيار أمامهم سوى مواجهتها طريقاً وحيداً للانقاذ من مصير كارثي محتوم تدفعهم إليه منظومة السلطة. الأمر الذي يستدعي رغم صعوباته العمل لتحقيق أوسع مشاركة ممكنة في الانتخابات تأسيساً لما بعدها، بديلاً عن الاستنكاف والانتظار.

Leave a Comment