ثقافة

سكورسيزي في فيلم وداعيّ لجيلٍ ألهمنا

يوسف اللقيس  

اتكلم هنا عن نجوم السبعينيات الذين فقدوا زخمهم بداية الألفية الجديدة، بعد أن كان الوقت حليفهم مسلطاً الضوء على عملهم العملاق في إنتاج أهم الافلام واكثرها جماهيرية .

و مع تقدمهم في السن، الذي فرض عليهم ادواراً لا تتناسب ومكانتهم الفنية التي اعتدنا أن نشاهدهم بها، كانت هناك فرصة تلوح في الأفق قرر المخرج الكبير مارتن سكورسيزي اقتناصها، فحافظ على مستواه المعهود طوال خمسين عاماً، عندما عرضت عليه شركة Netflix العمل معها من دون أي شروط أو تضييق، ما كان على سكورسيزي إلا العودة إلى ملعبه المحبب في أسلوبه الذي ألهم به اجيالاً من صناع الأفلام .

عاد سكورسيزي محاطاً بالحرس القديم (دينيرو / الباتشينو/ بيشي) الذين أثبتوا أن التقدم في السن وقلة الزخم، لا يقتلان البراعة و الخبرة وموهبة التمثيل الفطرية المكتنزة داخل كل منهم والمتأصلة شغفاً لا ينتهي .

يعكس فيلم “the Irishman” أو “الايرلندي” سينما حقيقية و أصيلة، وهو افضل فيلم لعام 2019 الذي اتسم بالافلاس السينمائي، وتكرار الأعمال التجارية والركيكة قصصياً .

بالنسبة لسكورسيزي فإن هذا الفيلم لا يقدم جديداً، لكن لمن يفقه لغة افلام العصابات ،والطاولة المستديرة التي اشتهر بها هذا المخرج العملاق منذ السبعينيات، والتي بلغت ذروتها مطلع التسعينيات سوف يرى قوته التعبيرية فيه .

تألق الباتشينو في كل مشهد ظهر فيه، فمن الصعب التصديق أن هذا هو التعاون الأول بين اسطورتين مثل الباتشينو وسكورسيزي، لكنه التعاون الثالث بين دينيرو والباتشينو، بعد اقتسامهما الشهير للشاشة في رائعة مايكل مان “heat” عام 1995 ثم ظهورهما في الفيلم الرديء “Righteous kill” عام 2008، وبالطبع التقيا كممثليْن في الجزء الثاني من فيلم “العراب” في عام 1974 ، لكن من دون الظهور معاً في اي مشهد. أما “الايرلندي” فيبرز للمرة الأولى اول انسجام ذي معانٍ عميقة بينهما .

والجدير بالتنويه ان سكورسيزي قام بإقناع الممثل “جو بيشي” بالعدول عن اعتزاله لمرة واحدة وأخيرة، والمشاركة في “الايرلندي” ضمن دور مختلف عن دوريْه في “صحبة طيبة ” و”كازينو”. فنرى “بيشي” هنا في دور مقيد وهادئ ضمن اطار شخصية رصينة وعميقة، يختلف اختلافاً جذرياً عن المجرم المجنون والشرس في “كازينو” .

لطالما سحرتنا جملة “مُقتبَس عن قصة حقيقية”، وهي الجملة الأولى التي نراها في صالة العرض، ويا لها من جملة قادرة على تسميرنا أمام الشاشة ، كانت أشبه برشفة من الواقعية المرافقة لكل حدث منه ، جرعة زائدة من التشويق ترافق هذه الجملة مع كل موقف يتم تسجيله أمامنا، نستذكر من خلاله مدى تأثير الحدث الحقيقي عندما يعاد عرضه ثانية بشخصيات تقمصت اللحظات، وأتقنت الادوار لكي تدخلنا عالم احدهم الذي كان قد حفر عميقاً في تاريخ الاضواء والجماهيرية .

“الايرلندي” يعرض لنا قصة حقيقية ذات طابع تأملي وهو الأكثر عاطفية بين افلام سكورسيزي التي تناولت العصابات، عمل مقتبس عن رواية تحمل اسم

(I heard you paint houses) والتي تتناول السيرة الذاتية لمسؤول اتحاد العمال، ورجل العصابات والمافيا “فرانك شيران” المعروف باسم “الأيرلندي”، حيث يقصّ في مذكراته أحداث حياته السابقة، وكيف تحول من أحد أبطال الحرب العالمية الثانية إلى قاتل مأجور لحساب عصابات المافيا .

بميزانية قدرها 175 مليون دولار. يعتبر فيلم ( The Irishman)  ثاني أعلى فيلم كلفة إنتاجياً يشارك في إخراجه مارتن سكورسيزي .

أما أحد أسباب الكلفة العالية للفيلم فهو استخدام سكورسيزي لتقنية (De-aging) لتعديل الصورة، ليظهر النجم العالمي “روبرت دي نيرو” أصغر بـ42  عاماً في الفيلم، وذلك في لقطات الفلاش باك، دونما الحاجة إلى الاستعانة بممثلين آخرين .

أشار سكورسيزي بأنهم قاموا بإجراء التجارب، وكانت النتائج مذهلة. فقد صوروا مشهداً لروبرت دي نيرو، وأظهرت التقنيه شكله وهو في ال20 عاماً ثم الـ 40 عامًا ثم الـ 60 عاماً، مضيفاً أن شكل دينيرو في الفيلم سيكون كشكله عندما مثل في فيلم (The Godfather 2) عام 1974.

لا نستطيع أن نتحدث عن “الايرلندي” دون المرور على نهايته الاكثر من رائعة، نهاية استطاعت أن تحمل فلسفة الثقل السينمائي بكل ما للكلمة من معنى، والتي أعدّها شخصياً من اكثر المنعطفات الفلسفية ابهاراً في تاريخ السينما المافيوية حيث نراها تسبح في فضاء العصابات وتقهقرها أمام الموت، هذا المارد الذي يقول كلمته في النهاية وعلى الجميع الاصغاء .

يُظهر سكورسيزي في القسم الأخير من العمل، أو كما أحببتُ تسميته باللحن الأخير (لانه كان بالنسبة لي معزوفة تطرب النفس و العقل و القلب)، فمهما كان وقع قوة النفوذ وشراسة سلطة الطاولة المستديرة ومن حولها، لابد من إخضاع الجميع في النهاية إلى الاختبار الاخير. اختبار على القوي والضعيف أن يقفا أمامه ويمرا به فهناك من يخضع للاستحقاق النهائي، وهناك من يكابر، ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هو …. حتّام ؟ …. .

إن وقوف دينيروأمام مكان الدفن، وإصراره على أن يُدفن في الجدار هو مشهدٌ تقشعر له الأبدان ، حتى وهو مدركٌ بان الموت واحد هنا وهناك، ولكن طلبه بأن يُدفن في الجدار، وعلى مستوى مرتفع عن الأرض، و كأنه يقول: “لا أريد أن أسجن تحت التراب”. لقد رأى في هذا الشكل من الدفن نوعاً من الحرية والأمان بالرغم من حتمية الموت .

نأتي للزمن ومدى قوة سطوته على الإنسان، فعلى حدّ قول فرانك “البطل”: “لا نشعر بمرور الزمن الا إذا كنّا فيه”، فهو لم يكن على علم بأنه سيأتي وقت لن يعرف فيه عامة الناس من هو “جيمي هوفا”. هذا الاسم الذي ملأ أركان الدنيا وشغل الناس، فحين شاهدت الممرضة صورة لـ “هوفا” كان “فرانك” محتفظاً بها، لم تتعرف عليه ابداً ولا على تاريخه، عندها عَلِمَ فرانك بقوة الزمن على تغيير معالم التاريخ والإنسان، وكيف يُسدل الستار على حقبة، كانت تضج باقوى اشكال السيطرة والتحكم .

أخيراً وليس آخراً، السينما هي أسلوب حياة يعزِّز من حسّ الدهشة، وينسف نمطية التفكير ويبلور نظرتنا للوجود و للآخر، ويعطي مساحاتٍ رحبةً مختصِرةً بذلك مسافاتٍ كبيرةً بينها وبين المُشاهد .

إن قيل لي قدِّم تعريفًا للسينما فسأقول بانها حياة تعبق بلحظات خالدة، تتربع على عرش ذاكرتنا، تقدم مبدأً ومعتقداً يحملان فكراً يحوي في داخله كوناً بأسره.

ولعل من أكثر الجمل روعة في حق السينما تلك التي قيلت على لسان المبدع “سكورسيزي” فإنتقى أعذب الكلمات وأكثرها حلاوة فظهرت كالاتي: “الأفلام تلامس قلوبنا وتوقظ رؤيتنا، وتغير من نظرتنا للأشياء، فتأخذنا لأماكن مختلفة وتفتح الأبواب والعقول، الأفلام هي ذكريات حياتنا، فلنحافظ على أن تظل على قيد الحياة “.

Leave a Comment