سياسة

لبنان بين عبثية الانتظار والهروب من المسؤولية

زكي طه

“إن المسؤولين اللبنانيين ليس لديهم إي شعور بضرورة التحرك العاجل والعزم اللازم لتحمل المسؤولية ازاء الأزمة الاقتصادية التي ادت إلى إفقار شرس للمواطنين، وأنا مندهش جداً من أن هذه الدولة في طريقها إلى الفشل إن لم تكن فشلت بالفعل، واحتياجات السكان لا تزال تبحث عن من يؤمنها”. هذا ما صرح به المقرر الخاص للأمم المتحدة المعني بملف “الفقر المدقع وحقوق الانسان” أوليفية دي شوارتر.

رغم أن التصريح يعكس خيبة أمل المجتمع الدولي من المسؤولين اللبنانيين الذين التقاهم الشهر الماضي، فإننا لا نجد في الأمر جديداً.  نعرف جيداً أن هؤلاء هم من تسببوا بالأزمة، وهم الذين يتشبثون بمواقع السلطة، أو يتنازعون فيما بينهم من أجل البقاء في مواقع المسؤولية إو الدفاع عنها. وهم من يتحمل كامل المسؤولية عما آلت إليه أحوال البلد والمواطنين. كما نعلم أيضاً أنهم لا يتمتعون بالحد الأدنى من حس المسؤولية الوطنية والانسانية حيال مواطنيهم وبلدهم. ولذلك فمن العبث أنتظار الحلول للمشكلات والأزمات الكارثية القائمة راهناً.

وما يزيد من عبثية الانتظار سواء لدى اللبنانيين أو مسؤولي الخارج الدولي والأممي، أنه يحدث في ظل تصاعد المضاعفات الكارثية للانهيار التي لم تترك صعيداً أو شأناً تفصيلياً إلا ونالت منه.  مما بات يصعب معه تحديد الاولويات أو القضايا الأكثر أهمية بالنسبة لحياة اللبنانيين، أو لبقاء البلد المحاصر بحشد من المخاطر من الداخل والخارج لا حصر لها، في موازاة تسارع انعدام القدرة على مواجهة أي منها.

وإذا كانت الحلول غير واردة، فإن التسويات المؤقتة، هي أيضاً لا تقع ضمن الاحتمالات الممكنة في المدى المنظور. والسبب في ذلك أن الوضع الراهن يشكل بالنسبة لقوى النظام والمسؤولين منهم، ميادين استثمار متعددة الاوجه والغايات والأهداف، بصرف النظر عن مستوى التباين أو التناقض بين المواقع، أو تفاوت الأوزان والامكانات بينهم. علماً أن أحوال البنية اللبنانية وما هي عليه من تفكك وانقسامات طائفية وفوضى أهلية، هي بمجملها نتاج سياساتهم وممارساتهم جميعاً. وهو الأمر الذي أبقى البلد ساحة تلاعب وصراع محلي وإقليمي ـ دولي مفتوح بلا ضوابط أو قيود مانعة لأي طرف، كما أدى إلى الشلل العام لمؤسسات الدولة وأجهزتها على كل المستويات في امتداد الانهيار العام والشامل.

أما الأمثلة على الدولة الفاشلة فأكثر من أن تحصى. لسنا بحاجة إلى التذكير بتعطيل الاستحقاقات أو تأخير تشكيل الحكومات، والتحكم بالسياسات بقوة الأمر الواقع أو عبر الاستقواء بالسلاح.  وآخر الأمثلة أن استقالة وزير يمكن أن تشكل مدخلاً لمعالجة أزمة سياسية كبرى تتعلق بعلاقات لبنان العربية والمصلحة الوطنية العامة، استدعت جولات من المفاوضات والمساومات الدولية والإقليمية لمدة اسابيع. مما يعكس خواء أهل الحكم وقادة التنظيمات والاحزاب التي تتشكل منهم منظومة السلطة دون استثناء، بغض النظر عن عنترياتهم المحلية في ما بينهم وعلى مواطنيهم.

ولأن العلاقات مع السعودية أعقد من تصريحات اعلامي يُطلق المواقف للفوز بجائزة تعينه وزيراً مرتهناً لهذا الطرف أو تلك المرجعية. ولذلك فإن البيان الصادر عن لقاء الرئيس الفرنسي وولي العهد السعودي، كان واضحاً في تحديد الأسباب وراء القطيعة مع السلطة اللبنانية، كما في تعداد عوامل الانهيار ومضاعفاته  الكارثية. بالإضافة إلى تجديد التذكير بدفتر الشروط  والإصلاحات المطلوبة للحصول على الدعم والمساعدة عربياً ودولياً، على نحو صريح  وصارم لا يحتمل اية التباسات. وهي المتمثلة بتنفيذ القرارات الدولية، حيث لا سلاح إلا سلاح الشرعية، ما يعني حفظ الأمن بواسطة الجيش اللبناني والقوى الأمنية ومراقبة الحدود وإجراء إصلاحات إدارية، ووقف تهريب المخدرات، وتجديد الالتزام باتفاق الطائف…

أما الاتصال الشكلي مع رئيس الحكومة الباحث عن سبل إنقاذها من السقوط، فإنه لا يقدم أو يؤخر، نظراً لعدم قدرته على تنفيذ أبسط الأمور بدءاَ من دعوة مجلس الوزراء  للانعقاد في ظل مقاطعة الثنائي الشيعي، فكيف والحال بالنسبة للاصلاحات التي تتناقض مع سياسات ومصالح شركائه، أو الذين شكلوا الحكومة ويتحكمون بها، على نحو يؤدي إلى عزل لبنان عن محيطه العربي..

علماً أن تلك الاستقالة لم تكن كافية لعودة مجلس الوزراء للانعقاد، لأن ذلك يتطلب تنفيذ طلب الثنائي الشيعي بـ”قبع” المحقق العدلي في قضية انفجار المرفأ. وهو ما لم يتحقق في ظل الانقسام القائم بين قوى السلطة التي تمعن في الاصرار على تعطيل التحقيق للتغطية على مسؤولياتها، رغم الضغوط الدولية والمطالبات بإنجازه.

طوال عقود ثلاث أختبر اللبنانيون منظومة السلطة وسياساتها، علّها تنقذهم من نتائج الحرب الأهلية المدمرة، راهنوا على قواها، تحلقوا حولها ودافعوا عنها وتعصّبوا لها. كما انتظموا تحت قيادتها في جبهات صراعاتها. وهي التي نجحت في تضليلهم وتحشيدهم وتجديد انقساماتهم. وبعد استغلالهم دفعت بهم إلى جحيم الانهيار الشامل. وها هي الآن تقودهم وسط الخراب والمجاعة جراء الإفلاس المالي، وفي ظل الفوضى العارمة  في طريق العودة إلى الحرب الأهلية مرة أخرى. هذا ما تعكسة اليوميات اللبنانية التي لا تشي مطلقاً بأي أمر إيجابي بقدر ما تؤكد أن الوضع اللبناني مقيم وإلى أمد غير منظور في الهاوية التي لا قعر مرئياً لها. بينما تبقى عودة العلاقات اللبنانية ـ السعودية والخليجية بعيدة المنال.

وطوال أكثر من عام راهن اللبنانيون على المبادرة الفرنسية، واختبروا حدود فعاليتها في دفع أطراف المنظومة لإعادة النظر بسياستها وأدائها في تولى السلطة. وقبلها أختبروا أيضاً موفدي الخارج والضغوط الدولية والعقوبات الاميركية والخليجية، دون جدوى. كما اختبروا مراراً وتكراراً الارتهان للخارج، من مواقع الانقسام الطائفي حول الهوية وعلاقات البلد مع محيطه، ولم يميزوا بين نظام عربي أو آخر اقليمي ودولي أو عدو اسرائيلي.

ولذلك سيكون من العبث استمرار الرهان على منظومة السلطة وقواها الطائفية والمذهبية أو الجهات الخارجية. لقد علمتنا التجارب أن القوى الطوائفية والمذهبية لم ولن تساهم يوماً سوى في تفكيك المجتمع وتجديد انقساماته لتبرير وجودها وتغطية صراعاتها وهي تتقاسم السلطة ومغانمها. كما علمتنا أن هذه القوى لا تبني أوطاناً، ولا تقود مجتمعاتها نحو التقدم والتطور، بقدر ما تسعى لتأبيد التخلف والانقسام والتعصب. وعلمتنا أيضاً ان الخارج كل الخارج دولاً وأنظمة، يبحث فقط عن مصالحه التي تحدد سياسياته وعلاقاته.

أما الأوطان فلا يبنيها ويطورها ويدافع عنها سوى أصحاب أوسع المصالح المشتركة في بقائها وتطورها وتقدمها، وهم الغالبية الساحقة من ابنائها. بينما الرهان على الآخر وانتظار مبادراته، فقد كان وسيبقى هروباً من المسؤولية عدا أنه أقصر الطرق لتكريس وإعادة انتاج ما هو قائم من أعطاب وخلل.

 

 

Leave a Comment