سياسة

كسب معركة الكيان شرط ضروري للنهوض باليسار وإعادة تعريف هويته

 د. بول طبر

التنكر بالمطلق لوجود أحزاب ومنظمات يسارية في لبنان شبيه بالموقف الذي يعتبر أن وجودهم متقادم لم يطرأ عليه أي تغيير، خصوصاً بعد انتهاء الحرب الأهلية في لبنان رسمياً عام 1989، وبعد انهيار المعسكر الإشتراكي وعلى رأسه الإتحاد السوفياتي، بين 1989 ونهاية عام 1991. والتدقيق في حالة اليسار في لبنان، لا يجوز أن ينحصر في إظهار تداعيات أزمة اليسار في العالم على اليسار في لبنان، بل ينبغي أيضاً أن يطول البيئة الداخلية للبنان حيث نشأ هذا اليسار بمختلف تلاوينه ووصل إلى الحالة التي ينوجد فيها الآن.

مناقشة هذا الموضوع إذاً له مداخل عديدة، منها يتعلق بكشف الدور الذي قام به النهج والفكر- السياسي الذي اتبعته أحزاب اليسار (أي أساساً الحزب الشيوعي اللبناني ولاحقاً في سبعينات القرن الماضي، منظمة العمل الشيوعي، ومن ثم الحزب التقدمي الإشتراكي وأحزاب البعث والناصريين والقومي السوري) في تأزيم الأوضاع التي تعاني منها هذه الأحزاب. المدخل الآخر يمكن أن يطال موازين القوى المحلية (والإقليمية والدولية) التي كانت تنتهي دوماً لمصلحة قوى اليمين، لا سيما بعد حرب السنتين بين 1975 و1977. ويمكن مناقشة الموضوع نفسه من زاوية إظهار هشاشة البنية الإجتماعية-الطبقية للرأسمالية في لبنان وطابعها الخدماتي الريعي-المالي الغالب، وبالتالي عدم تناغمها مع طروحات اليسار (الشيوعي والإشتراكي أساساً) الذي يولي في خطابه أهمية مركزية لقضية العدالة الإجتماعية ولحقوق الطبقات المستَغَّلة لتحقيق أهدافه الثورية. إلى ذلك، فقد تشكِّل غلبة العلاقات والإعتبارات الأهلية وترسخها، وعلى رأسها العلاقات والإعتبارات الطائفية، ليس فقط في الفضاء الإجتماعي والثقافي وحسب، وإنما أيضاً في مؤسسات الدولة وإدارة السياسات العامة والمجال السياسي عموماً، من العوائق البنيوية الأخرى التي لم تتمكن القوى اليسارية من إحداث اي إختراق فعلي لها، واستبدالها بعلاقات تقوم على المصالح الإجتماعية والمواطنة. وأخيراً يمكن إضافة البنى التنظيمية للأحزاب اليسارية على لائحة العناوين المقترحة لمناقشة أزمة اليسار، والتي فشلت بدورها في تقديم النموذج الديموقراطي الفعلي للعلاقة بين القيادة السياسية والقاعدة الحزبية وما بينهما، عدا عن علاقة الحزب بـ”جمهوره”، واختراق الإعتبارات الأهلية والمحسوبيات في كثير من الأحيان للبنية الحزبية لليسار ولسلوكهم مع البيئة الإجتماعية التي كانوا يتعاطون معها.

بالطبع، إن كل عنوان من العناوين المقترحة يجوز له ان يكون موضوعاً مستقلاً لإجراء بحث كامل عنه، وهذا أمر قد تسمح الظروف للقيام به في المستقبل.

بكلام مقتضب، إن جميع هذه المداخل (وتفاعلها مع بعضها وطبعاً مع التطورات المحيطة والعالمية) تصلح دون أدنى شك لدراسة تاريخ القوى اليسارية في لبنان والأوضاع المأزومة التي انتهت إليه في أيامنا هذه. إلا أنني في هذه المداخلة أريد مناقشة أزمة القوى اليسارية حصرياً من منطلق أزمة الكيان اللبناني التي بدأت مع نشوء لبنان الكبير عام 1920.

من الواضح أن السكان الذين وجدوا أنفسهم فجأة ضمن حدود لبنان الكبير عام 1920، اكتشفوا أنهم منقسمون حول شرعية هذا الكيان منذ اللحظات الأولى لنشوئه. الموارنة وهم الكتلة البشرية الأكثر انخراطاً في الرأسمالية الأوروبية الوافدة وبالتالي الأكثر حماساً لها، اعتبروا أن الكيان اللبناني هو كيان شرعي بالمعنى التاريخي والثقافي والسياسي للكلمة. في المقابل، انقسمت الطوائف الرئيسية الأخرى إلى تيارين أساسيين: الأول عروبي يرغب في أن يكون لبنان الكبير جزءاً من المملكة العربية المتحدة. وكان هذا التيار منتشراً بقوة في أوساط الطائفة السنية والأرثوذكس وبدرجة أقل بين أبناء الطائفة الشيعية. أما القيادة السياسية للطائفة الدرزية، فكان اعتراضها على “الكيان” ينبع من هامشية الموقع السياسي والإقتصادي الذي وجدت نفسها فيه أكثر من معارضتها لفكرة الكيان اللبناني بحد ذاته، والذي تم انشاؤه برعاية فرنسية وحضور طاغٍ للنخب الإقتصادية والسياسية في أوساط الطائفة المارونية (والكاثوليكية). أما التيار الثاني فكان التيار القومي السوري الذي أنكر شرعية الكيان اللبناني المستقل واعتبره أيضاً جزءاً من الأمة السورية التي تشتمل أيضاً على لبنان وسوريا والأردن وفلسطين وجزيرة قبرص (تمَّ ضم العراق إلى الأمة السورية في أواخر أربعينيات القرن الماضي). وفي هذا السياق، لا بد من التنويه أن القاعدة الشعبية للتيار القومي العربي (أي قاعدته الطائفية)  كانت أوسع بكثير من نظيرتها بالنسبة الى شعبية التيار القومي السوري، لا سيما وإن بيئة الانتشار العريض للتيار الأخير بقيت محصورةً إلى حد كبير في أوساط طائفة روم الأورثوذكس ولدى بعض الدروز.

أرخى هذا الإنقسام الكياني بظلاله على الحياة السياسية في لبنان مع تبدل فقط في أسماء الأطراف التي كانت تجسِّده. وقبل توصيف تداعيات هذا الإنقسام على أزمة القوى والأحزاب اليسارية في لبنان، لا بدّ من التنبيه إلى أن الإنقسام حول شرعية الكيان جاء متداخلاً إلى درجة عالية مع الإنقسامات الطائفية، الأمر الذي أعطى دفعاً لتلك الإنقسامات وجعلها معياراً رئيسياً في تحديد المجال السياسي، أكان على مستوى مؤسسات الدولة أو مستوى العمل السياسي الداعم للنظام والكيان أو المعارض لهما.

إذاً الإنقسام حول الكيان المستند إلى الإنقسامات الطائفية والمغذي لها في آن معاً، كان الإنقسام الأهم في لبنان منذ نشأته عام 1920 واستقلاله السياسي عام 1943. وتمكّن هذا الإنقسام من لجم وتهميش كل انقسام سياسي آخر، لا سيما الإنقسامات التي تستند إليها القوى والأحزاب اليسارية الشيوعية لبناء قاعدتها الشعبية العابرة للإنقسامات الأهلية. وحتى عندما حاولت الشهابية أن تنجز بعض الإصلاحات الكفيلة بتحديث نسبي للدولة اللبنانية دون المساس بالأسس الطائفية للنظام، نجد أنها سرعان ما تراجعت وانهزمت على وقع الإنقسام الرئيسي حول هوية الكيان اللبناني والخيارات السياسية المترتبة على ذلك. كان خصوم الشهابية (أساساً الحلف الثلاثي المؤلف من كميل شمعون وبيار الجميل وريمون اده) يعتبر أنها تمس ليس فقط بامتيازات المارونية السياسية التي تشكل ضمانة لهوية الكيان المهدد، بل أنها تبالغ في مسايرة الخيار العروبي – الناصري، الأمر الذي يشكل تهديدا مباشراً للكيان اللبناني.

وقد تجلّت وتعاظمت تداعيات الإنقسام على هوية الكيان والخيارات السياسية المترتبة على ذلك في أوساط القوى والأحزاب اليسارية عندما تعاظم ونما دور الشيوعيين، حزباً ومنظمة، في أوساط المعارضة للنظام في لبنان خلال السبعيينات، لا سيما في سنوات الحرب الأهلية في لبنان والتي اندلعت عام 1975 وانتهت رسمياً عام 1989. وفي هذا السياق، دافعت “الحركة الوطنية اللبنانية”، وفي القلب منها الشيوعيون، عن فتح المجال في لبنان بالكامل أمام نضال الشعب الفلسطيني وكفاحه المسلح ضد الكيان الإسرائيلي. ودفع هذا الحماس ببعض المجموعات اليسارية في لبنان لكي يلتحقوا بمنظمة التحرير الفلسطينية مباشرة، بحجة أنه لا حاجة للإنضمام إلى منظمات سياسية لبنانية ما دام لبنان يجب أن يزول على طريق النضال لتحرير فلسطين وقيام الأمة العربية المنشودة. وفي المقابل، خاضت القوى الممثلة للنظام المواجهة مع “الحركة الوطنية اللبنانية” تحت راية الدفاع عن لبنان من خطر الإستيطان والاحتلال الفلسطيني، فضلاً عن الذوبان في الميحط العربي. وكان هذا الانقسام العنوان الرئيسي التي جرت في ظله المواجهات المتلاحقة منذ 1975 وحتى خروج منظمة التحرير من لبنان. ومع اتفاق الطائف عام 1989، ودخول لبنان مرحلة “الإنتداب السوري” برعاية أقليمية ودولية، تجدد الإنقسام حول الكيان اللبناني، وأصبح الخطر على الكيان متمثلاً بالنظام السوري وحلفائه المحليين.

ومنذ ذلك التاريخ، ورغم الإقرار بالهوية العربية للكيان اللبناني في الدستور المعدل بعد اتفاق الطائف، ومن ثم خروج الجيش السوري القسري من لبنان عام 2005، فقد بقي الخلاف على هوية ودور الكيان اللبناني مستمراً. ونحن الآن أمام مشهد سياسي منقسم إلى معسكرين، معسكر السياديين، يقابله معسكر المقاومين. أما قوى اليسار، المتمثلة بالقوى المشار إليها آنفاً (باستثناء منظمة العمل الشيوعي التي تحمل معالم مشروع إعادة تحديد وتجديد خطها السياسي والفكري)، فنجد أنها منقسمة وموزعة على هذين المعسكرين: فمنهم من يندرج تحت مطالب السياديين، ومنهم من ينتسب إلى “محور المقاومة”. وفي كلا الحالتين، تنكفيء لا بل تتلاشى كالعادة، قدرة اليسار على تقديم نفسه كطرف له القدرة على اجتذاب اللبنانيين بغض النظر عن ولاءاتهم الأهلية على قاعدة المصالح المشتركة فيما بين فئاتهم الإجتماعية، وانتماء الجميع إلى كيان لبناني متفق ليس فقط على هويته، وإنما أيضاً على دوره ورفع المصلحة الوطنية المشتركة فوق كل الإعتبارات السياسية الأخرى.

تدل هذه الوقائع إلى أنه من دون حسم الصراع على الكيان، وتأمين الإجماع على هويته ودوره ووظيفته، لا يمكن لليسار أن ينهض في لبنان ويبني ذاته على قاعدة الخطاب الإجتماعي والوطني الذي تحدد هويته السياسية والفكرية والمصالح التي يحاكيها، ليضع بذلك حداً للإنقسامات الأهلية في لبنان في المجال السياسي، ويمنع تلك الإنقسامات من تهميش القواسم المشتركة بين الجماعات التي تنتظم وفق هذه الإنقسامات. ولا داعي للتذكير أن حسم الصراع على الكيان بالمعنى المشار إليه يقتضي في الوقت نفسه تحرير هوية الكيان المستجد من أي علاقة حصرية مع أي من المجموعات الأهلية وجعلها من حيث التعريف شاملة لجميع اللبنانيين بغض النظر عن ولاءاتهم الأهلية.

قبل الشروع في الدفاع عن حقوق العمال والمستغلين، وقبل العمل لإنهاء كافة أشكال التمييز والسيطرة، ومن أجل النجاح في تحقيق دولة علمانية وديموقراطية وبناء المواطنة الحرة، لا بدّ من كسب معركة الكيان (بالتلازم والتفاعل مع هذه المعارك) والتوصل إلى تحقيق حد أدنى من الإجماع على محدداته ودوره ووظيفته.

 

 

 

Leave a Comment