ثقافة سياسة محسن إبراهيم منشورات

كتاب الجامعة الحديثة للإدارة والعلوم عن تسعة قادة ومفكرين لبنانيين هم: جنبلاط وفضل الله والصدر وسعادة والصلح وإبراهيم ومالك والحاج ونصار 4/4

يساهم موقع “بيروت الحرية” بإعادة نشر بحث د. زهير هواري ضمن العمل المشار إليه أعلاه لتعذر الوقوف عند كل الأبحاث المنشورة في الكتاب . . 

محسن ابراهيم وإشكاليات الحرب الاهلية: مفتاح نقدي يكشف كيانات المنطقة 4/ 4

د. زهير هواري

الاقليات والكيانات في الميزان؟

الحرب الاهلية واضطرامها استحضرت مشكلة الاقلية المسيحية في لبنان، وتستثير أوضاع مجمل الاقليات في المنطقة العربية. فالنظرة القومية التي التزمت بها الأنظمة العربية بعض أحزاب الحركة القومية لم تأخذ بنظر الاعتبار ضرورة اعتماد ما وصفه ابراهيم بأنه خط التقنين والموازنة بين الحدود الدنيا والقصوى حيال الصراع العربي الاسرائيلي المفتوح، وكذلك العدالة في البناء الداخلي . كان المناخ الإجمالي هو مناخ العروبة الاندماجية، التي لا تعترف بوجود مشكلة أقليات أو تباينات أو فوارق في البنى السياسية للمنطقة ودولها ، بل كانت تضع جملة المواقف خارج العروبة الاندماجية في خانة الانحراف والتآمر على الوجهة العامة، بما هي وجهة الصراع المفتوح مع اسرائيل والامبريالية والذي يجب ألا يعكر صفوه معكر. إذن لم يكن هناك اعتراف بأهمية ووزن الموروثات الطائفية والعشائرية والعنصرية والعرقية والجهوية وكل ما هو متحدر من البنية التقليدية [1]. وسيادة مثل هذا المنطق له تداعياته، فالحركة الوطنية لم تكن فقط من دُعاة الدفاع عن الحق المطلق للثورة الفلسطينية بالانطلاق من الساحة اللبنانية، لم تكن فقط من دُعاة استنصار الجوار العربي لإيقاع الهزيمة الساحقة الماحقة بالفريق الآخر، الذي يمكن أن نناقش الآن وضعه بهدوء، ونقول بضرورة قراءته، وفي ذهننا كل منطق الأقليات العربية والأكثرية، والا فان العالم العربي مرشح للمذابح في كل مكان، فاذا كان هذا الفكر هو الذي سيرشد معالجتنا للانتقال من التجزئة إلى الوحدة ، فأبشر بمذابح لا حدود لها[2] . يرد ابراهيم على مثل هذا التوجه باستحضار جذور نظرة الحركة الوطنية إلى قوانين علاقة لبنان بالوضع العربي. وأهم هذه القوانين التي كانت في أساس التوجه القومي العربي للحركة الوطنية الحرص على الاستقلال الوطني اللبناني منفتحاً على الوضع العربي، وفق نظرة قومية تأخذ في الاعتبار أن علاقة لبنان بسائر الاقطار العربية تنطلق من التزام الديمقراطية العلمانية، قاعدة لتكون رابطة قومية عصرية بين هذه الاقطار العربية، تقوم على الاندماج الاجتماعي الحقيقي. وهذا الالتزام الديمقراطي العلماني يشكل الحد الاول لعلاقة لبنان بسائر اقطار الوطن العربي . أما الحد الثاني فيتمثل في اعتماد موقف من الوحدة العربية يأخذ في الاعتبار التطور المتفاوت للشعوب العربية والخصائص المتباينة لهذا التطور، ويترجم نفسه على الصعيد السياسي العملي بدعوة اتحادية عربية تستوعب واقع الوضع العربي ، اضافة إلى اصرارها على أن تكون الوحدة العربية في أي درجة من درجاتها محصِّلة ارادات حرة للشعوب العربية، فالوحدة لا تعني الضم والقسر والالحاق… وبهذا المعنى يشهد ابراهيم لكمال جنبلاط تلك الخصوصية الفريدة التي تميز بها من بين سائر القادة الوطنيين والديمقراطيين العرب، وهي خصوصية القائد الذي يجمع في موقعه ونهجه النضالي وفكره السياسي المعلن بين الوطنية اللبنانية المنفتحة، وبين القومية العربية العصرية التي تستمد أصالتها من مدى التصاقها بالوجهة الديمقراطية العلمانية [3].

في هذا السياق ومن خلال المناقشات التي دارت وتدور في الاجتماعات كما تكشف الوثائق البرنامجية تحضر قضية يصفها ابراهيم نفسه بأنها قائمة بحد ذاتها، قضية فكرية تستحق التداول ، لان طريقة استخدامها تتعلق بالماضي والحاضر والمستقبل. القضية التي أثارتها احدى المداخلات والمتعلقة بالنظرة إلى الطائفة المارونية وكيفية التعامل معها، هي مسألة في فهم يتجاوز توصيف لمسالك متعاكسة بين المجموعات اللبنانية لتطل على فهم الأكثرية والاقلية والاقليات والتكون القومي، وهذه تطرح موضوعاً اساسياً جداً، وأي وعي ملغوم له يجعلنا اصحاب إدعاء ديمقراطي علماني في غير محله اطلاقاً.  وهذا موضوع لا يمكن التسامح فيه[4]. لكن مثل هذه القضية بما هي مواقف الطائفة المارونية مرت بمراحل سياسية متعددة تصاعدياً وصولاً إلى الإمساك بزمام السلطة. حدث ذلك نتيجة حضور اسرائيل في قلب المعادلة اللبنانية سياسياً وعسكرياً بعد هزيمة الحركة الوطنية والمقاومة الفلسطينية وسوريا. لعل الأبرز هنا هو أنه بعد الاجتياح الاسرائيلي وفي إثره جاءت الطائفة تحمل على منكبيها مشروع هيمنة جديدة برئاسة كتائبي مباشرة، وأريد لها أن تتحول إلى مشروع هيمنة مطبقة يسيطر من خلالقواه المباشرة وبالتفصيل على كل البلد قرية قرية، كما في نموذج حرب الجبل في العام 1982 – 1983 ، مع ما رافق ذلك من اهمية للخطاب الذي راج على ألسنة القيمين على الحكم الكتائبي الجديد من نقد لميثاق ١٩٤٣. النقد الاسلامي لميثاق ١٩٤٣ كانت واضحة مضمراته، يضمر ظلامة بانه یکرس امتيازات لصالح فريق ودونية لموقع آخر،  وأنه بات عاجزا عن استيعاب المستجدات في النظام اللبناني. النقد الكتائبي لميثاق ١٩٤٣ يفصح عن رأي بأن هذه الخطيئة التي اسمها «لبنان الكبير» عام ۱۹۲۰ (وهناك مسيحيون من اصحاب فكرة الانعزال من اعتبر أن المشكلة هي ۱۹۲۰)، أنه لا يدارى هذا التركيب الذي ورثناه ۱۹۲۰ الا بتشديد القبضة من جانب الفئة التي لا شك في ولائها للبنان. هناك خطاب يقول بان الحل لا يكون أن يتم باسم الميثاق و«تدليع» المسلمين واليسار الدولي وفتح البلد امام الغرباء والفلسطينيين والسوريين[5] ..

بالطبع مثل هذه النزعات كنقائض برزت على نحو جلي تصاعدي مع حضور العنصر الفلسطيني الطاغي وتحوله طرفاً في معادلة الوضع اللبناني وما استجره من تدخلات سورية واسرائيلية. ولدى محاكمة مسلك الطبقة المسيطرة في تعاطيها مع العنصر الفلسطيني، لا يقترح عليها ابراهيم وصفة سحرية تضبط مرة واحدة وإلى الابد العلاقات الفلسطينية اللبنانية التي تنجي لبنان من كل ثمن، وتقيم انسجاماً لا مثيل له مع المقاومة الفلسطينية. “نحن نقترح خطة لإدارة صراع تحت سقف عدم اطاحة البلد، وعدم التنكر لما لا يمكن الهروب من موجبات دعم القضية الفلسطينية. نحن نقترح تنظيم المشكلة وليس تنظيم السكينة، خاصة أنه كيف سيكون التصور واقعياً لدينا أننا خارجون من حرب حزيران وقد عم الاحتلال كل هذه المناطق العربية. والحاكم المصري، مضطر مع كل خطاب أن يقول متى ستكون حرب الحسم، والثورة الفلسطينية تحاول أن ترد، والصراع العربي الصهيوني في ذروته، والكل يمهد لحرب تشرين، كيف سيكون لدينا صيغة تقيم سكينة مطلقة وإلى الأبد، المنطقة كلها في حالة حرب. جل ما نستطيع أن نقترحه على الطبقة الحاكمة بالبلد هو كيف تواكب حالة الحرب، وليس كيف يمكن الحكم بأن يبقى لبنان بحالة هدنة وسكينة مطلقة، فيما المنطقة كلها تغلي في حالة حرب لا حدود لها. حتى في العام ١٩٧٣، ارتبك الحكم اللبناني، ليس مع المقاومة الفلسطينية، بل مع سوريا[6]  .

يستند مثل هذا التوجه إلى مسألتين متداخلتين كما هو واضح من النص أولهما يتعلق بالاوضاع العربية في أعقاب هزيمة الخامس من حزيران العام 1967 وما أسفرت عنه من احتلال اسرائيل المزيد من الاراضي العربية. أما المسألة الثانية فتتعلق بنظرة اسرائيل إلى لبنان . وهنا لا داعي لاستذكار الندم الاسرائيلي بعيد نهاية تلك الحرب، لأنها لم تشمل لبنان وتسيطر على مواقعه الاستراتيجية وينابيع مياهه. واسرائيل، كما يعتقد ابراهيم “هي صاحبة خطة اصلية وأصيلة حيال لبنان، الذي يقع ضمن استهدافاتها، وأنها في صياغتها لمستقبلها الشرق أوسطي ليس لبنان بالنسبة لها كسويسرا بالنسبة الى اوروبا، وهي لا تقبله ضمن خانة حياد. وبالتالي لها منه مطالب ، وهذا معطوف على اعلانات تاريخية، على مضمرات، ومعطوف على تجربة فعلية، وبالغة الأهمية تجربة العام ۱۹۸۲ ، التي تبرز أنه لو كانت لدى اسرائيل خطة قوامها فقط تنفيذ ما يحلم به ريمون اده بعزل لبنان عن هذه المشكلة، في اعتقادي وكمعايش لتلك الفترة بموازينها و بتوازناتها ومزاجها بعد طرد المقاومة الفلسطينية من بيروت، كان هناك مجال لدى اسرائيل أن تولد من البنية اللبنانية اضخم واكبر موجة مطالبة بأن يبقى لبنان بمنأى عن أي اشكال يتعلق بالصراع العربي الصهيوني على قاعدة انسحاب اسرائيل من لبنان . تجربة العام ۱۹۸۲ والتي أوصلت إلى ۱۷ ایار۱۹۸۳، والتي رافقها طرد المقاومة الفلسطينية وطرد سوريا، والاشتباك الفوري بيغين – بشير الجميل، ثم الاتفاق الفوري شارون – امين الجميل، ثم ما تبع ذلك، فظهر أن في مسلسل علاقات السيطرة الاسرائيلية العربية للبنان معلن ومكشوف [7] .

الجانب الموازي للمسألة السياسية يتمثل بالقضية الاجتماعية، ولدى الحديث عن الاكثرية والاقليات ضمن القراءة الأصلية للمسألة الطائفية وعلاقتها بالقضية الاجتماعية في البلد، بأشد نسخها عرضة للنقد، كانت دائما هناك محطة اخيرة تقول بأنه إذا كان هناك حرمان مضاعف مقابله حرمان. القاعدة العامة للكتلة القاعدية للطوائف، لم تكن بين امتياز وحرمان، بل أمام لوحة حرمان وحرمان مضاعف. في قمة الطوائف لدينا امتياز وامتياز مضاعف. هذا نصنا الأصلي. في اشد لحظات الاستقطاب وراء المشروع الفاشي وحركات المطالبة بحقوق الطوائف المحرومة، كانت لدينا القدرة على التمييز بأن المستقبل ليس لمزيد من الترابط بين الكتل الشعبية المحشودة طائفيا وبين قياداتها الطائفية، لان مآل المشاريع الطوائفية الاخير مآل تلبية مصالح ومطامع شرائح واقفة على رأس هرم هذه الطوائف، وهو بالتعريف على حساب الكتل الأوسع منها، يستوي في ذلك وهم الخلاص والوفرة والغنى القادم الذي حمله مشروع حزب الكتائب، مع الوهم الذي حمله الامام موسى الصدر القائل أنه بإعادة صياغة التوازنات الطائفية يمكن أخذ كل الحقوق [8].

إذا لم نكن نناقش مشكلة الأكثرية ومستوى ما بلغته من اندماج في هذا العصر، وإشكاليات الأقلية المتولدة عن مشكلة الأكثرية. ولكي نرى الحل في رحاب الديمقراطية العلمانية، فكيف يصير لدينا هذا العجز عن فهم كل الكيانات العربية؟ خاصة وأن الامر لا يختص فقط بمسيحيي لبنان. إشكالية الأقليات الأثنية والدينية هي تقريباً في كل مكان، وهي الان خاصة بمصر، حيث إن إشكالية الاقباط اشكالية باهظة حتى على الكيان المصري. يقول ابراهيم : “ما اردت قوله أنه من كان منكم بلا إثم کیاني فليرم هذا الكيان بحجر. إذا كنا سننظر إلى الإثم الكياني اللبناني بمنظار الآثام الكيانية العربية العامة فنقرأها محطة وسيطة بين العشيرة والقبيلة والاسرة والانتساب الديني السابق والدولة القومية الحديثة، فكل الكيانات العربية خطوات انتقالية على هذا الطريق. ليس لدينا أمة عربية – دولة، ولا يوجد لدينا كيانات تساوي طوائف أو مذاهب أو اثنيات فقط. كل الكيانات العربية مؤلفة من عناصر فيها اكثرية وفيها اقلية. سواء نسبت الأكثرية إلى الأثنية، إلى العرق، إلى الهوية والتي تلخصها اللغة في الأخير، أم نسبتها إلى الدين [9].

يبدو هذا النقاش وكأنه يتمحور حول الماضي، لكنه على الصعيد العملي يستهدف النقاش حول المستقبل، خاصة أننا اليوم سنكون أمام السؤال التالي: الكيان اللبناني إلى أين؟ أي خيار نرتضيه له؟ والكيانات العربية إلى أين مصيرها؟ هل نوافق على ما يجري تحت ابصارنا من تعريب قسري؟ أم أن للكيان اللبناني مشروعية هذه حدودها وهذه حدود الدفاع عنها، وهويته تصاغ وتصان على النحو التالي؟ هذا سؤال لا يتناول الماضي بل يتناول الحاضر والمستقبل. إن قراءة مشكلة الأكثرية العربية وإشكالية الأقليات العربية خاصة وأننا امام صورة عن أمة عربية يكاد يجزم الانسان بأنه لا فرصة تاريخية في المستقبل لوحدة رحبة فيها الا على قاعدة ديمقراطية علمانية تعطي الحل المناسب لمشكلة الأكثرية ولإشكاليات الاقلية[10].

يعتقد ابراهيم أن الغرب أتانا وفي ركابه هذه المؤسسة التي هي الدولة القومية أو الامة – الدولة، أتانا ونحن ورثة تجزئة فيها القبيلة والأسرة والاثنية والعرق والدين والتجزئة الاجتماعية، ونحن ورثة دسائس ومكائد واتفاقات سایكس – بيكو وبروتوكول 1864 وتدخلات غير بريئة اطلاقا، والآن مطروح علينا وفق خطاب حقوق الانسان والديمقراطية في كل مكان أن نقيم وحدة عربية تعالج مشكلة تخلف الأكثرية وخوف الاقليات صاحبة الإشكاليات في آن [11]  .

مطلوب أن يكون هناك إعادة تأسيس لنظرة اخرى للعروبة قيد التطبيق لبنانيا، مطلوب نظرة تعيد الاعتبار لشرعية هذا الكيان اللبناني من ضمن شرعيات الكيانات العربية، بصفته كان من تجليات التجزئة، لكنها التجزئة المعطوفة على عوامل تجزئة فعلية في البنية العربية.  وإذا كان هذا الكيان من تجليات المشروع الاستعماري، فهو ليس الوحيد في بابه، كل هذه الكيانات نشأت بقرارات من سايكس – بيكو إلى سائر القرارات التي أفتت بقيام هذه الكيانات. فلماذا الكيانية لبنانيا تصير إثما خالصاً، ولا يمكن أن نطيقه، فيما الكيانية السورية مقبولة؟ هذا الموضوع جرى تجريع الفلسطينيين كأسه، فلماذا علينا أن نتجرعه؟ هذا هو اساس المراجعة [12].

الكيان اللبناني والمشاريع الفيدرالية

وعليه، يرى ابراهيم أنه مهم جدا أن نقرأ هذا الكيان على أنه کيان مشروع، هو الابن الشرعي لهذه التجزئة العربية، لهذه الحقبة من التطور العربي، وبالتالي يجب أن نمعن النظر في إشکاليته على نحو يقربنا في مشروعنا السياسي الذي سيطرح في الاخير تسوية تاريخية. فمن الواضح أننا نضمر تأسيساً ليسار، ندعو لحركة ديمقراطية باتجاه تجديد يطرح صيغة التسوية التاريخية الحقة التي من شأنها أن تفتح الأبواب أمام تطور هذا الكيان نحو الوحدة، وتطوره نحو الوحدة يحمل تطور روابطه مع الجوار، في ظل الظرف العسير القادم علينا عبر السلام العربي – الاسرائيلي، ويفتح آفاق نظامه نحو استقبال صراع ليس شرطاً أن يحتقن في كل مرة وينفجر في حرب اهلية، وتتوالى التسويات فيه تباعاً. إذا كنا سنخرج بهذا البرنامج، فسوف نقارب نقطة أنه ليس هناك کیان في العالم، أو في التاريخ، ولا هناك نظام الا وعلى رأسه كتلة مهيمنة. لنخرج من المعنى المرذول لكلمة هيمنة. كلمة الهيمنة كانت تستعمل في لبنان بصفتها نقيصة. لا وجود لمجتمع بلا كتلة مهيمنة، سواء استعرت فكر ابن خلدون ام أخذت مارکس صافياً، أم غرامشي معدلاً. هناك فرق بين الهيمنة والسيطرة القمعية، فالهيمنة تنطوي على غلبة طوعية في النهاية، يصبح هناك ثقافة سائدة طوعاً، ايديولوجيا سائدة طوعاً، مصالح ائتلاف معين هو الارجح طوعاً. لان الديمقراطية كما عرفناها ليست علاقات تساوٍ مطلق. الديمقراطية هي الإطار الذي يولد بشكل طوعي ألواناً وكتلاً من الهيمنة المتوالدة من بعضها والمتبدلة التوازنات. فلم يفوتنا أن الكيان اللبناني مستمر والنظام اللبناني مفتوح، لا يعيش من دون كتلة ما مهيمنة؟ [13].

لكن في المقابل هناك نص للحركة الوطنية، يقول ابراهيم:” من جملة برنامج المواجهة، الجهر بالعروبة الوحدوية من بوابتيها: الالتحام مع الثورة الفلسطينية والعلاقة مع سوريا. هذا للقول، عندها يستوي صراع داخلي من طرفيه ضمن شعب واحد، ليس على قاعدة فهم الطرفين أو أحدهما على الاقل لإشكالية تكون هذا الشعب، عندما يستوي الصراع الداخلي وفق تصورات ايديولوجيا قومية من جهة، تقابلها أيديولوجيا قومية من جهة أخرى، يصبح الحديث حديثاً عن عدو، وليس حديثا عن إشكالية بلد”. هذا يفتح على أهمية مستقبل البناء الديمقراطي العلماني منفذ من استمرار الصراع، الذي سيظل محتدماً ما دامت معادلة الوضع الراهن قائمة على قاعدة هيمنة قد ترتدي طابعاً دينياً أو قومياً أو غيره من فائض مقومات السلطة.

ولبنان ليس حال استثناء،علماً أنه قد يكون الدولة الوحيدة التي لا تملك طموحاً خارج حدودها المرسومة. فالنظام السوري الراهن كما يراه ابراهيم وُلد ولادة على اساس أن سوريا الكبرى حدها اللازم الكيان السوري الحالي، ثم فلسطين والأردن ولبنان، والعراق للصراع. هكذا بدأ انطون سعادة محددا مشروعه بأربع دول ثم اضاف إليه دولة خامسة. هناك مضمر فعلي بأن الجديد الذي يستطيع هذا النظام تقديمه اضافة إلى الانفتاحات ومنطقها، هو إعادة الأمور إلى نصابها بتحويل سوريا هذه الى قوة اقليمية عظمی، من خلال اعتناق هذا التوجه الذي نسميه باللغة السياسية الدارجة: الورقة السورية والورقة الفلسطينية والورقة الأردنية، واسمه باللغة العقائدية المضمرة التطلع نحو سوريا كبرى (أو طبيعية)، لا شك أنها عندما ترد في ذهن وعلى لسان عسكري له هذه الممارسة، لا يعود ممكنا أن نتصور أن هناك اقتراحا ديمقراطيا بإقامة وحدة بين اربعة اقطار. هذا أمر يجب أن يحصل وفيه حماية لسوريا وحماية للبنان وللأردن ولفلسطين، وفيه الحجم الذي يجعل من مشكلات سوريا الصغرى الداخلية تصغر أمام هذا المدى الحيوي الأكبر.

هذه خطة، وهذا ليس اتهاماً او تجنياً القول بأن هناك مضمراً الحاقياً حيال لبنان وفلسطين وحيال الأردن. نتساءل عن اسباب هذه التوليفة التي تجعل نظاماً ذا منشأ مذهبي ضيق واقلوي يطرح، بقياس اللحظة الراهنة، أكثر الشعارات الخارجية انفلاشية، هذا ليس غريباً، بل على العكس هذه من الحصانات للنظام، مثلما تموه في الداخل السوري، يمكن له أن يتموه في علاقته بالمحيط، ولسنا الآن في صدد مناقشة حبل السُرة الذي يربط بين المنشأ الاقلوي للنظام، وبين هذا البعد القومي الأوسع [14].

بهذا المعنى ليست المسألة الكيانية اللبنانية فريدة في بابها عربياً، بل هي واحدة من سلسلة مسائل کيانية ، وداعية لرؤية تراكيب الكيانات في كل مكان، ولرؤية أن الكيانات المغلقة حيث تسود الهيمنة الأقلوية عليها بأغلفة عديدة تمويهية اكثر من أن تحصى، وليس لبنان وحيداً في بابه لجهة الخضوع لهيمنة اقلوية، ورغم القول إن المعضلة الكيانية اللبنانية، كما ألمعضلات الكيانية الأخرى التي ولدت من رحم التجزئة الاستعمارية المعطوفة على التجزئة الداخلية، لا حل لها الا في رحاب الحل الديمقراطي العلماني، لأنه لا يمكن أن تحل بدعوة الاقلية إلى أن تحيل نفسها إلى الأكثرية. ما هي الأكثرية اذا لم يكن الرباط الديمقراطي العلماني هو مضمونها؟ الأكثرية تصبح أقلية كبيرة. نحن لسنا أمام تحليل يريد أن يقول : هذا هو الكيان، على أي تسوية يمكن أن يتصلب؟ وهذا الكيان في قلبه مجتمع لنقرأ هذا المجتمع، وهذا الكيان جرت محاولة تركيب دولة له فلنقرأ هذه الدولة، وهذا الكيان له هذا الاقتصاد، فلنقرأ هذا الاقتصاد ولنحدد البدائل، وهذا الكيان مفصل له هذا الدور… مما يقع تحت باب فهم أعمق لإشكالية الكيان اللبناني على أنه کيان معاق الاندماج، محجوز الوحدة، تراوح معضلة الانفصال والاتصال فيه مكانها، وعلى أنه يتطلب تحديداً لحجم من التسوية التاريخية يمكن أن ينتقل البحث معه من مشروع كيان إلى كيان مندرج ضمن إطار عربي معين[15].

انفجار الحرب الاهلية بين 23 نيسان 1969 و13 نيسان 1975 معطوفة على الإشكالية ألاصلية في 1943 التي كانت قد ظهرت عام 1958 على نحو معين، عندما أهتز الوضع الخارجي فاهتزت معه تركيبة الوضع الداخلي، معطوفة على أصل تاريخي لهذه الإشكالية، وذلك من أجل القول بالضبط إن هذه الحرب الأهلية فتحت الإشكالية ولم تقفلها بانسحاب اليسار من المشاركة في معاركها. وهذه مناسبة للحسم في الوهم الذي يتملكنا أحيانا عندما نعتبر أن الحرب الأهلية تنتهي بخروجنا نحن منها، الحرب الأهلية تستمر فينا ومن دوننا، والأرجح أننا عندما نناقش الثمانينيات سنخرج بنتيجة أن الحرب الأهلية اخرجتنا من صفوفها أكثر مما نحن خرجنا، اخرجتنا لأن طبيعتها تغيرت، انتقلت صيغتها إلى مرحلة ثانية.

يتابع ابراهيم قائلاً: لم أقل إننا نحن فتحنا الحرب الأهلية، بل قلت إن هذه الحرب اندلعت تحت وطأة حدث أكبر من كل الأنظمة والكيانات العربية، وهذا الحدث وقعت مفاعيله على وضع لبناني مشدود لوراثته،  لإشكاليته الأصلية، بين برنامج انعزال بامتياز، وبين برنامج قومي عربي بامتياز، والذي افتقد هو القوى الفعلية التي تستطيع أن تحمل من موقعها في المجتمع ومن مراكزها في الدولة، التسوية التي تضع حدوداً للبنانية متقوقعة لا محل لها، ولعروبة مقتحمة لا قبل للبلد بها. إن بشير الجميل يعود إلى الأصل ونحن ايضا نعود إلى الأصل. الحرب الأهلية قامت واستطالت وامتدت وأصابت بنية البلد مما كنا نصطلح على تسميته بلغة سياسية فيها فكر راق: انكشاف البنية الداخلية امام العوامل الخارجية، أي اكتساح الخارج للداخل، صيرورة البلد ساحة على النحو الرسمي مع كل شكليات ذلك [16].

الأعطاب التي أصابت البلد نتيجة لذلك جعلت لبنان ساحة، وصولا إلى أنه تعرض إلى اجتياح اسرائيلي هو الوحيد من نوعه في العالم العربي، فكانت بيروت هي العاصمة التي دخلها الجيش الاسرائيلي. هذا يظهر مدى الانكشاف كما يظهر الموضوع الذي جرى الالحاح عليه أنه في هذه الحرب الأهلية سادت لغة قوميتين متعاديتين.

هناك عالم عربي جزء منه لبنان كله إشكاليات، ويجب أن نعي بوضوح ما هي (يجب تفسير لماذا فتح البرازاني ذات مرة مع اسرائيل، نحن مسؤولون من موقع القومية العربية الغالبة أن نعرف ماذا يفعل الاكراد ، وماذا يفعل جون غارنغ في السودان وحسين آيت احمد في الجزائر، والاقباط في مصر، والمسيحيون في لبنان، وماذا يمكن أن تفعل الطوائف المضطهدة في سوريا ، وماذا يصير بالشركس في الأردن ، وجبهة نجران وعسير في السعودية التي برزت حديثا بصفتها فتح ملف الكيان السعودي …) نحن مسؤولون عن رؤية واقع الأمة المعاقة التكون القومي والاندماج الاجتماعي، وأن مشكلة الأكثرية أنها تولد إشكاليات اقلية، والمعالجات الأقلويات تعزز مشكلات الأكثرية، اذن أين الحل؟ أما أن يفتح باب للغة من هذا النوع أو تعتمد لغة ناسجة على أدبيات تلك اللحظات الحامية في الحرب [17].

قراءة إجمالية        

في مجال الفكر السياسي كما مرَّ معنا لا بد وأن يسجل لمحسن ابراهيم تلك الحيوية الفكرية، التي وإن كانت قد ظهرت طلائعها منذ أيام حركة القوميين العرب و”شباب الثأر”، الا أن هذه كانت مجرد محطة، وخطوة قصيرة على طريق طويل من المجال القومي العربي والحركة الناصرية ومدخله فلسطين وقضيتها، إلى الفكر الشيوعي ماركسيا – لينينياً، مع انفتاح على تجارب الشعوب في الهند الصينية والصين وكوبا وغيرها. بالطبع لم يقف محسن ابراهيم ويحافظ على هذه الرؤيا والتوجهات متكلساً مع انهيار المعسكر الاشتراكي في مركزه واطرافه، بل أنه ربما الوحيد بين قادة الاحزاب الشيوعية العربية والعالمية، من أعمل مبضعه في نقد فلسفة الماركسية، والخيارات التي جرى الالتزام بها خلال تلك العقود الطويلة المنصرمة، وصولاً إلى نقض هذه النظرية وما شابهها من نظريات، بما عبرت عنه من حتميات وأحكام قطعية تنتهي كما قالت، ببناء دولة البروليتاريا، فتتحلل الدولة وتفقد مبررات وجودها، كمحطة نهائية وطريق خلاص وحيد للانسان على هذه الأرض، على صعد الحياة الديمقراطية والاقتصاد والسياسة والثقافة وبناء المجتمعات ومؤسساتها. هذا النقد الصارم للماركسية من منابعها ومصادرها الأصلية كما قال بها صاحبها، لم يغفل معها ابراهيم ، ما في هذا الفكر من فتوحات على صعد صراع الطبقات، وتكوّن رأس المال وآليات سيطرته وصراعاته ونهبه لتعب العمال وللمجتمعات، متقدمة ومتخلفة على حد سواء. هذا النقد الذي عبر عنه في مداخلاته حول الاشتراكية والرأسمالية إنطلق منه نحو بناء نظرية قوامها أهمية النضال من أجل إعادة الاعتبار لدور وأهمية الديمقراطية والحداثة في الصراع من أجل التحرر والتقدم، باعتبارهما سبيلاً لمساهمة المجتمعات في ارتياد مسار التقدم والتسويات التي تفتح تباعاً على تسويات أكثر رسوخاُ وثباتا. إذ البديل عنها ليس سوى الاستبداد والقمع العاري، والصراعات والحروب المنفلتة من عقالها مع ما تقود إليه من مضاعفة المعضلات التي تعانيها المجتمعات البشرية، خصوصاً في الدول التي ما تزال تحمل معها أثقال الماضي، وبُناه الفائتة على إحتمال سلوك سبل التقدم والتطور والحداثة، وبالتالي اللحاق بالعصر والشروع في حل المشكلات التي تعانيه مجتمعاتها.  وكما نقد محسن ابراهيم الاشتراكية نقد أيضاً الرأسمالية ضمن هاجس البحث عن اشتركية مؤنسنة يصفها بأنها” حمّالة أوجه”، خلاف الكثيرين الذين قاموا بتصفية حسابهم مع الاشتراكية متقهقرين عائدين إلى الرأسمالية بصيغها الليبرالية أو النيوليبرالية.

المرحلة الناصرية 

لقد  أوصلت التجربة والممارسة القومية محسن ابراهيم، إلى  مصر عبد الناصر في اعقاب حركة الضباط الاحرار في 23 يوليو تموز من العام 1952، وما شهدته رسوخاً من خطوات تمثلت في فتح أبواب مصر لحركات التحرر الأفرو – آسيوية، والدور الرائد في حركة الحياد الإيجابي وعدم الإنحياز، والقيام بتأميم قناة السويس وبناء السد العالي، وتوزيع الأرض على الفلاحين، والشروع في عملية التصنيع، وفتح أبواب التعليم للفئات الفقيرة وغيرها. وهي المواكبة التي لم تمنعه – رغم علاقته الشخصية بالرئيس عبد الناصر –  من معاينة عناصر الخلل في تلك التجربة، وتبيان أعطابها التي كشفت النقاب عنها هزيمة حزيران العام 1967، التي أظهرت مدى هشاشة المجتمعات العربية في أقوى حلقاتها عن مواجهة الهجمة الاستعمارية العاتية، التي تعرضت لها وأدت إلى هزيمتها. لقد وجه محسن ابراهيم  سهام نقده على مكامن الخلل في هذه التجربة، التي وإن اصابت المؤسسة العسكرية في المقام الأول، الا أن حقيقتها تتجاوزها لتشمل البناء الفكري – السياسي – الاجتماعي الذي أشادته الناصرية خلال سنوات قيادتها لتلك التجربة، وعطلت بموجبها آليات الحياة الديمقراطية وحيوية المجتمع المصري، وقواه الحديثة وحجزتها عن القيام بدورها، حيث هيمنت المخابرات على الحياة السياسية والاجتماعية، وصادرت بموجبه حرية العمل البرلماني والحزبي والاعلامي. وستشهد هذه المرحلة  من محسن ابراهيم لاحقاً، مراجعة لهذه المراجعة بما يضع الشعارات التي نادت بها هي نفسها في” الغربال” لفصل قمحها عن “زؤانها”، والخلوص إلى الدروس الممكنة والمستفادة. نقد الآخر ونقد الذات في الوقت نفسه، لبناء جدلية مختلفة عن المألوف والسائد في ثقافتنا السياسية وغير السياسية.

ومحسن ابراهيم لم يجلس بين كتبه في ما يشبه الصومعة والبرج العاجي، يقرأ ويحلل معفياً نفسه من ضنك التعب في صياغة وقيادة تلك المسيرة، بكل ما تمخضت عنه من إنجازات وترتب عليها من إخفاقات. وما مارسه محسن ابراهيم حينها لم يكن كما زعم البعض قفزاً من سفينة تجنح وتوشك على الغرق، بل كان محاولة منه لمنع السفينة من أن تتعرض ثانية لكارثة الغرق المحدقة، من خلال البحث في الأسباب والعوامل والعناصر المتداخلة، ما هو داخلي بنيوي وخارجي دولي منها، توصلاً إلى تلافي أن تُلدغ شعوبنا ثانية، وتكرار الوصول إلى النتائج نفسها التي وصلت إليها قبلاً، والتي أدت إلى تلك الهزيمة المدوية، والحال المأساوية التي أطبقت عليها، وما تزال تعاني المنطقة من نتائجها إلى الآن على كل صعيد وميدان.

القضية الفلسطينية

وهنا مربط الفرس منذ انتسابه إلى صفوف حركة القوميين العرب مناضلاً وقائداً. فمنذ البداية كان يدرك محسن ابراهيم أن ما تعرضت له فلسطين من مشروع استعماري استيطاني اقتلاعي، لا حدود إدارية له ضمن خارطة البلاد التاريخية. كان دوماً على قناعة أن هذا المشروع بأصوله الاستعمارية القديمة والامبريالية المحدثة أبعد من استهداف أرض وشعب فلسطين. وأن طموحه الفعلي هو إخضاع المنطقة العربية برمتها لسيطرته وشبكة مصالحه. مستعيناً على ذلك بالروابط المتينة التي تجمعه مع أقوى مراكز قرارها وقوتها، بدءاً ببريطانيا وفرنسا، انتهاءاً بالولايات المتحدة الاميركية، بهدف واضح ومحدد هو تفكيك المنطقة وفرض سيطرتها عليها، ونهب ثرواتها النفطية، والحكم عليها بالدوران في حلقة التخلف المفرغة، وبالتالي حجز مسيرتها، وإبقائها في مأزق العجز عن صياغة حداثتها، وبناء دول ومجتمعات قادرة على ردم الفجوة الحضارية التي تعيشها، بفعل قرون متلاحقة من التخلف والاستبداد. ليست وظيفة اسرائيل وجيشها الجرار وآلة حربها، فقط “الدفاع” عن المشروع الاستيطاني الصهيوني العنصري بما انتزعه من مساحات على أرض فلسطين، بل إن وظيفته الفعلية، أن تكون هذه الارض، رأس جسر لاختراق الدواخل العربية، واذلال شعوبها ونهب خيراتها وتفكيك دولها ومجتمعاتها، وتهشيم محاولات التقدم التي تبذلها شعوبها. ولذا وقف محسن ابراهيم دوماً وأبداً إلى جانب أهل فلسطين وثورتهم، وعمل دون كلل أو ملل  في مراحل الصعود، كذلك في حالات الانحسار والتراجع، على المساهمة في دعمها لمواصلة مسيرتها، ودافع عن قرارها الوطني المستقل لدى محاولة مصادرة حقوق شعبها وقيادته في نيل حقوقهم السياسية والانسانية، وتحقيق مطالبهم من خلال حضورهم السياسي والمؤسساتي. بهذا المعنى لم يَحِد محسن ابراهيم قيد أنملة عن رؤية هذا الاصطدام بين المشروعين الصهيوني والمشروع الوطني الفلسطيني والقومي العربي المناضل، سواء من خلال الحدود العربية المحيطة، أو من الداخل وجهاً لوجه ضد الاحتلال والحصار. وأدرك أبداً أن الشخصية الوطنية الفلسطينية التي جرى حفر مجراها بالدماء والسجون والمنافي، يجب الحفاظ عليها، وتعزيزها في مواجهة حال الشتات، ومحاولات التذويب وانتزاع الوكالة من شعبها، لطرح المساومة على مصيره على طاولة الأنظمة العربية وغير العربية ( ايران وتركيا) التي وجدت في تلك القضية استثماراً يمكن توظيفه بالتفاوض مع الولايات المتحدة الاميركية، لتكريس نفوذها في المنطقة، وعلى حساب شعوبها بطبيعة الحال، وفي مقدمهم الشعب الفلسطيني. لكل بعض ما ورد كان محسن ابراهيم فلسطينيياً كما أنه كان لبنانياً صميماً.

لبنان وقضيته:

لم يغادر محسن ابراهيم يوماً قناعته أن لبنان يكاد يضيع تحت “سنابك” صراعاته الداخلية والهجمة الاستعمارية من جانب اسرائيل، ومشاريع الوصاية من الأنظمة الاقليمية قريبة وبعيدة، وتصارع قواه الطائفية على الإمساك بزمام الأمور والهيمنة على مكوناته المجتمعية. وأن مسؤولية بلوغ هذا الخطر الذي يتهدد الكيان والدولة ووحدة المجتمع يتحملها النظام والتركيبة الطائفية، التي تتركه معلقاً على قارعة التطورات الخارجية والتوازنات الطائفية الداخلية. لذلك عقد مع كمال جنبلاط تلك الشراكة التي انتجت برنامج الحركة الوطنية للتغيير الديمقراطي في لبنان، وقاتل مع منظمته وقوى التغييرالعريضة من أجل إقراره ونفاذه. صحيح أن محسن ابراهيم كان الوحيد الذي قدم نقداً قاسياً لتجربة الحركة الوطنية اللبنانية في إباحة لبنان للثورة الفلسطينية وسلاحها، وما حمَّلته فوق طاقته من أعباء، ما أدى إلى انفراط ما تحقق من وحدة مجتمعية. فعندما وقف خطيباً في ذكرى اربعين رفيقه جورج حاوي بعد صمت سنوات استكمل نقده لأخطاء الحركة الوطنية (7 آب 2005)، عندما سجّل خطأين “كان ضررهما عظيماً على الحركة الوطنية اللبنانية وعلى البلد في آن:

الخطأ الأول: إننا في معرض دعم نضال الشعب الفلسطيني ذهبنا بعيداً في تحميل لبنان من الأعباء المسلحة للقضية الفلسطينية فوق ما يحتمل، طاقة وعدالة وانصافاً.

الخطأ الثاني: إننا استسهلنا ركوب سفينة الحرب الأهلية تحت وهم اختصار الطريق إلى التغيير الديمقراطي. فكان ما كان – تحت وطأة هذين الخطأين – من تداعيات سلبية خطيرة طاولت بنية البلد ووجهت ضربة كبرى إلى الحركة الوطنية وفي القلب منها يسارها الذي كان واعداً في يوم من الايام”.[18]

لكنه في الوقت ذاته ظل واعياً ليدرك على نحو حاسم عمق الهزيمة التي لحقت بالمشروع الوطني – القومي في لبنان من خلال الوصاية السورية و الغزوات الاسرائيلية. خصوصاً مع ما يمثله المشروع الصهيوني على حدود لبنان الجنوبية من مخاطر متربصة بالكيان الوطني الذي اراده نقيضاً للمشروع الصهيوني، وقوانين عنصريته ويهوديته التي تفرز المقيمين على أرض فلسطين بين من يحملون الدماء اليهودية الصافية وبين “الأغيار” من خارج هذا الإنتماء. ومن هذه الزواية ومع رفيقه أمين عام الحزب الشيوعي اللبناني جورج حاوي، وفي ذروة الغزو واليأس، أطلقا في 16 أيلول 1982 نداء المقاومة الوطنية الأول، والذي انضوت في مضماره قوى وشخصيات وجموع قدمت شلالات من الدماء والتضحيات تصدياً لجحافل الجيش الصهيوني في العاصمة، وعلى معظم الأنحاء اللبنانية التي طالها الغزو. وكان يراهن أن ينجح مسار التحرير من الاحتلال في طي صفحة الحرب الأهلية وخنادقها الطائفية، ومن خلال ذلك يعاد توحيد لبنان على أنقاض الكانتونات الطائفية، وتكريس الاحتكام إلى الديمقراطية في العلاقات بين مكوناته البشرية. صحيح أن محسن ابراهيم نظَّر بداية للتغيير بقوة السلاح والحرب الأهلية للخلاص من النظام الطائفي، وأفتى بالرافعة الفلسطينية والساحة اللبنانية، لكن الأصح أنه لم يقف عند ذلك ووضع نقطة في آخر السطر، بل أكمل نقد هذه المطالعات الفكرية – السياسية، مؤكداً أن خيار اللبنانيين الوحيد بعد تجربة الحرب هو بناء نظام ديمقراطي علماني يخرجه من الترسيمات الطائفية، التي تهدد وحدة ومؤسسات كيانه ودولته، ناهيك بالمخاطر التي تتكالب عليه، وتدخله بين كل فينة وأخرى في حروب لا تبقي ولا تذر.

بهذا المعنى لم يبقَ محسن ابراهيم منظِّر حرب أهلية بين المكونات والجماعات اللبنانية، بل اختط طريقاً دفعه إلى التأكيد أن هذا الكيان مثيل باقي كيانات المنطقة نشوءاً وأزمات وإشكاليات. وأن اتفاق الطائف ليس سوى تسوية طائفية لمشكلة طائفية يتطلب التحرر من أدرانها الخروج على قوالبها واستعصاءاتها. لذلك لم يجد دورليان بداً من القول ” إن الموقف من اتفاق الطائف هو أبرز تجل لدقة موقف ابراهيم، فقد وصفه بأنه اصلاح طائفي للنظام الطائفي،  دون أن يدعو لاسقاطه. كذلك موقفه من المعارضة السياسية بتلاوينها. والملِفت وصفه لموقع بشير الجميل. ففيما اعتبره يساريون كثر عميلاً اسرائيلياً، رأى ابراهيم في علاقة بشير باسرائيل أشبه ما تكون بعلاقة مقاطعجي بسلطانه، أي تبعية ثقيلة ، وليست عمالة . يدخل في هذا الباب ما شابه من مفاهيم نحتها هو. ولعل هذا ما أعجبني فيه هو اصراره على ممارسة النقد المنهجي لما له وما عليه”.[19]

وهذه الإشكالية الطائفية التي تغرق لبنان كل بضع سنوات في الاحتراب الاهلي لا يمكن أن تواجه إلا بخيار العلمنة والديمقراطية التي تحشد جموع اللبنانيين من مختلف المشارب والمناطق، واجتراح التسويات التي تحافظ على الكيان والدولة والهوية العربية الديمقراطية، وتدفع به إلى حل الإشكاليات والمعضلات التي يعانيها عبر المؤسسات والأطر وصندوقة الاقتراع والنضال الديمقراطي الشعبي السلمي، وهو ما لا يتحقق عفواً ضمن تقاطعات وتناقض مصالح قواه الطائفية، وما تنسجه من علاقات مع الخارج الاميركي والفرنسي والعربي والايراني والتركي تستقوي بكل منها لفرض هيمنتها ونفوذها، وبالطبع مثل هذا التوجه يقود في أصفى حالاته  إلى استبدال هيمنة طائفية بأخرى، وعزله عن محيطه العربي وهويته القومية ومصالحه المكينة مع دول المنطقة العربية، دون أن يعني ذلك قبول وصايتها ومصادرتها حق اللبنانيين بممارسة سيادتهم واعتماد سياسات تتغذى من مصالحهم ، وامتداد انتشارهم على خريطة العالم وداخل دوله ومؤسساته. أو الدعوة إلى الانعزال عن مشكلات البلاد والشعوب العربية وقضاياها[20].

خلاصات سريعة

يمكن تلخيص أبرز ما أكد عليه ابراهيم في المراجعة التي قادها ما يلي:

أولاً – إن الحرب الاهلية التي اندلعت في منتصف السبعينيات لايمكن أن تنفصل عن الإشكالية الاصلية التي حملها الكيان اللبناني منذ نشوئه في العام 1920 واستقلاله في العام 1943.

ثانياً – إن هذا الكيان يحمل في جوفه المعطيات نفسها التي يحملها سواه من الكيانات العربية القريبة والبعيدة ، وهذه لا يمكن أن تعالج كآثام بالقمع والهيمنة. ما يستدعي إعادة تعريف الوطنية والقومية والعلاقة بينهما.

ثالثاً – إن حزب الكتائب وباقي قوى السلطة في لبنان رفضت القبول بأي عملية اصلاحية أو تسوية، واعتمدت خيار دفع الامور إلى ذروتها بما فيه الاحتراب الداخلي، وهو الخيار الذي لاقته الحركة الوطنية باعتبار لبنان مجرد ساحة، بالسلاح أيضاً ظنا أنها من خلاله تسرِّع عملية التغيير الديمقراطي.

رابعاً – دفعت الحرب المجتمع اللبناني إلى زيادة الانكشاف على الخارج العربي والاقليمي والدولي، وشهدت سنواتها موجات من طغيان هذه العوامل الداخلية أو الخارجية على صورة المشهد السياسي ، لكن الأهم أنها فككت النسيج المجتمعي.

خامساً – لم يكن اتفاق الطائف أكثر من وقف للقتال واطلاق النار ولم يقدم حلاً فعلياً، بل  فرض  تسوية طائفية لمعضلة طائفية ، بينما المطلوب هو خروج لبنان من مأزق بنيته السياسية الطائفية التي تتعرض لانفجار عنفي كل عدة سنوات.

سادساً – لا حل للمأزق اللبناني – الطائفي الا بالمشروع الديمقراطي العلماني الذي يختاره اللبنانيون بمحض إرادتهم. أما فرض العلمانية بالقهر فهو أسوأ من الحلول الطائفية المطروحة.

سابعاً – خلال سنوات الاقتتال لم يكن هناك مشروع تسوية بين طرفي الصراع يحفظ لبنان ودولته، وفي الوقت نفسه يكرس حدوداً معينة للمشاركة اللبنانية في الصراع العربي الصهيوني كما حدث في العام 1948 خلال حرب فلسطين.

ثامناً – يجب أن يقف اللبنانيون والعرب عموماً عند حدث قيام الكيان الاسرائيلي في قلب المنطقة العربية كمفصل بالغ الخطورة يتعدى هدفه إقامة دولة عنصرية على أرض فلسطين إلى إخضاع المنطقة برمتها لهيمنة هذه الدولة ورُعاتها في الدول الرأسمالية المتقدمة.

تاسعاً – هناك خطة اسرائيلية أصلية إزاء لبنان تضمر إلحاقه بها، وقد حاولت تحقيقها في اجتياح العام 1982 وبما يتجاوز تحقيق الأمن للمستوطنات الشمالية وإبعاد المقاومة الفلسطينية عن حدودها الشمالية.

عاشراً- كما أن هناك خطة اسرائيلية للبنان، كانت هناك  خطة  سورية ترتقي إلى جذور الموقف البعثي من إقامة الكيان اللبناني، لكنها وجدت ضالتها في الحرب الاهلية عندما انتهجت خلالها سياسة انتهت بوضع لبنان تحت وصايتها.

حادي عشر- يمكن القول إن ما يحتاجه لبنان هو تسوية تحقق تراكماً اصلاحياً يفتح على مزيد من التقدم والحداثة، وتحقيق الاندماج الحقوقي والسياسي والاجتماعي الذي يحول دون بلوغه البناء الطائفي للسلطة والدولة ومؤسساتها.

ثاني عشر-  إن تأسيس وطنية لبنانية ممكن وأقل كلفة من استمرار الصراع على هوية البلاد وخياراتها ووضعها تحت هيمنة طائفية من الطائفيات. ولعل الشرط الأساسي لتحقيق ذلك يكمن في بناء معارضة مستقلة عن قوى ومنظومة الطوائف الحاكمة.

وفي الختام لا بد من القول إن محسن ابراهيم قدم مساهمة كبرى في إغناء فلسفة الفكر السياسي اللبناني من خلال خط النقد الذي اعتمده، وهو  نقد كان موجهاً في المقام الاول نحو الذات الفكرية والفلسفية والسياسية. يقيناً أن لبنان لا يمكن أن يكون مجرد جزيرة معزولة عن محيطه ، دون أن يعني ذلك الإنغماس إلى حدود الذوبان في ما تقرره له من سياسات. لقد أدرك ابراهيم مدى عمق إشكالية هذا الكيان، مثله مثل باقي الكيانات في المنطقة التي تعاني من إعاقات كبرى تضعها تعيش ما قبل مرحلة الدولة الحديثة ، وتدعها نهباً للعوامل الطائفية والإثنية والعشائرية وغيرها. هذا دون أن ننسى العوامل الخارجية الكبرى المؤثرة التي ما تزال تمسك بخناق الشعوب وتنهب ثرواتها وتحرس معضلاتها وتؤبد بقائها أسيرة واقع التخلف الذي ترزح تحت أثقاله. إن محسن ابراهيم الذي رحل قبل أكثرمن ثلاث سنوات قدم قراءة ساطعة لأزمات الكيان اللبناني وكيانات المنطقة العربية بأسرها من موقعه السياسي – النضالي الفكري بوصفه قائداً معارضاً يسارياً وديمقراطياً حقيقياً لا تعنيه المناصب والمراتب والمواقع ، بقدر ما يعنيه أن يقدم مساهمة غنية في الدفاع عن مصالح بلده وشعبه. كان محسن ابراهيم أكبر من مجرد قائد سياسي ، كان أيضاً مفكراً عنيداً ومثقفاً شجاعاً وقف في مفترقات الخطر الصعبة مدافعاً غن خياراته باعتبارها تصب في مصالح المجتمع في حاضره ومستقبله.

المصادر:

  • محسن ابراهيم، الحرب وتجربة الحركة الوطنية اللبنانية (منشورات بيروت المساء، شباط 1983)
  • محسن إبراهيم، قضايا نظرية وسياسية بعد الحرب (منشورات بيروت المساء، أيار 1984
  • محسن إبراهيم، آفاق العمل الوطني (منشورات بيروت المساء، أيلول 1984)
  • محسن ابراهيم ، الحرب الاهلية اللبنانية وأزمة الوضع العربي ، منشورات بيروت المساء، كانون الاول 1985 .

وثائق حزبية

  • في الاشتراكية، نص نقدي، تحليل لمنظمة العمل الشيوعي (أيلول 1993)
  • المؤتمر العام الرابع، منظمة العمل الشيوعي في لبنان، من أجل حزب يساري ديمقراطي علماني، من أجل حركة علمانية ديمقراطية لبنانية وعربية (منشورات بيروت المساء، تشرين الثاني 2018)
  • أوراق يسارية، نصوص حزبية لمنظمة العمل الشيوعي (منشورات بيروت المساء، شباط 2016)
  • موضوعات الوثيقة الفكرية البرنامجية، 10 أجزاء (نصوص غير منشورة)
  • وثائق الحركة الوطنية اللبنانية 19751981 (د.ن ود. ت )

المراجع:      

  • جوزف أبو خليل، قصة الموارنة في الحرب، شركة المطبوعات للتوزيع والنشر ، بيروت ، ط1، 1990 .
  • عبد الرؤوف سنو، حرب لبنان 19751990 تفكك الدولة وتصدع المجتمع ، الدار العربية للعلوم – ناشرون ، المجلد 1 ، ط1 ، 2008 .
  • زهوة مجذوب ، الصراع على السلطة في لبنان، جدل الخاص والعام، شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، ط1 ، 2011
  • حسن الحاف، محسن ابراهيم… مشروع معارضة ديموقراطية لم يكتمل، المدن، 26 حزيران 2020
  • سامي دورليان (بالفرنسية)، محسن ابراهيم من خلال كتاباته، باريس، دار لارماتان، 2023 

مواقع إلكترونية: 

  • موقع المدن الالكتروني
  • موقع بيروت الحرية الالكتروني
  • موقع النهار الالكتروني

[1]  – الحرب وتجربة الحركة الوطنية اللبنانية، ص 39

[2] – الوثيقة البرنامجية – لبنان 1 ص 9.

[3]  –  كتاب الحرب، مصدر سابق  ص 38 – 39.

34  -الوثائق الفكرية البرنامجية، لبنان 2 ، ص 20.

[5] – دورة اللجنة المركزية بتاريخ 18 تشرين الثاني 1994 ،موضوعات الوثيقة الفكرية ، الوضع اللبناني – 5 ص 19

[6] – دورة اللجنة المركزية بتاريخ 10 و11 تشرين الثاني 1994 موضوعات الوثيقة الفكرية البرنامجية الوضع اللبناني ( ص 15)

[7]  – دورة اللجنة المركزية بتاريخ 18 تشرين الثاني 1994  موضوعات الوثيقة الفكرية البرنامجية ، الوضع اللبناني (5)، ( ص8).

[8] – موضوعات الوثيقة الفكرية البرنامجية ، الوضع اللبناني (5)، ( ص6 ).

[9] – المصدر السابق، ص 20 .

[10] – المصدر نفسه ، ص 21

[11] – المصدرنفسه ص 22 .

[12] –  الوثائق الفكرية لبنان – 1 ، ٢٣/٩/١٩٩٤، ص14 .

[13] – الوثائق الفكرية ، لبنان 1 ، ص 15 .

[14] – دورة اللجنة المركزية، بتاريخ 18 تشرين الثاني 1994، موضوعات الوثيقة الفكرية البرنامجية، الوضع اللبناني -5 ص11.

[15] – المصدر نفسه ، ص 10 .

[16] – الوثائق البرنامجية ، لبنان 4 ، ص 12

[17] – المصدرالسابق نفسه ، ص 13

[18] – الصحف اللبنانية الصادرة في 8 آب 2005 واوراق يسارية – نصوص حزبية لمنظمة العمل الشيوعي في لبنان ، ص . 91

[19] – سامي دورليان في حديثه لموقع بيروت الحرية ، 1 حزيران 2023

[20] –  زهيرهواري ، عامان مرا على غياب محسن ابراهيم ، موقع بيروت الحرية ، 1 حزيران 2023

Leave a Comment