ثقافة سياسة مجتمع

الحياة المستحيلة تحت قمع الاحتلال الإسرائيلي والمستوطنين2/2: القطاع والضفة تتشاركان المجزرة وإبادة الحاضر والمستقبل

زهير هواري

بيروت 25 كانون الاول 2023 ـ بيروت الحرية

أرقام من لحم ودم

تشير التقديرات إلى أن نحو 1.9 مليون من سكان قطاع غزة البالغ عددهم 2.3 مليون نسمة فروا من منازلهم ونزحوا داخل القطاع. ويقول مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية، إن أكثر من مليون منهم يحتمون في مبان تديرها وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا). وعدد تلك الملاجئ 156 على الأقل. لكن هذه الملاجيء ليست ملاجىء، بل هي مدارس يتعلم فيها أبناء الغزاويين خلال أوقات السلم، ويلجأون للإحتماء بغرفها وساحاتها أوقات الحرب. يجمعون الطاولات والالواح والكراسي والدفاتر والكتب والاقلام في الزوايا ويقيمون فيما تبقى من فراغات. يظنون أن علم الوكالة الدولية يقيهم شر القصف.  فالعلم مرفوع على ساريته في أعلى المباني وواضح. والإسرائيليون يعرفون ذلك وصورته طائراتهم صبح مساء . ولكن تبعاً لما بات معروفاً في غزة لا مكان آمنا في المدينة الأصلية والمدن الفرعية والمخيمات. لا علم الأمم المتحدة يحمي ولا شعار الصليب الأحمر الدولي ومنظمة الصحة العالمية. الغزاويون الذين لم يجدوا أماكن اختباء في تلك المدارس لجأوا إلى محيط المستشفيات أو إلى المراكز الصحية والدينية من جوامع وكنائس وغيرها. كانوا يتكدسون في الساحات والمباني والقاعات غير المشغولة بالمصابين والجرحى. وهذه وسواها تعرضت أجزاءها للتدمير. قدمت إسرائيل قصفها بأنه من أجل كشف الانفاق وأماكن اختباء قادة حماس أو الاسرى أو إدارة العمليات العسكرية. واقتحمت ما اقتحمته منها. حتى أنه لم تنج مستشفى من المستشفيات من التنكيل بالجهاز البشري من أطباء وممرضين ومسعفين وطال التدمير التجهيزات والأدوية التي تكلفت ملايين الدولارات. وهكذا خرجت هذه المؤسسات من الخدمة تباعاً في وقت كان الناس أحوج ما يكونون لخدماتها. وما لم يدمر جرت سرقته التي طالت حتى جثث البشر بقصد استعمالها “قطع غيار” آدمية لمصابي جيش الاحتلال والمستوطنين. قالت اسرائيل بموجب قصاصات ألقتها من الجو إن على الغزاويين أن ينجوا بأنفسهم ويغادروا الشمال إلى الجنوب، وفعلوا بكل ما أمكنهم. مشياً على الأقدام، ركوبا في الطنابر، بالتراكتورات والشاحنات الزراعية والسيارات إن وجدت. وعلى الطريق جرى قصفهم ، ووصل منهم من وصل في رحلتهم الملحمية ، ونجح بعضهم في نصب خيم مرتجلة وبعضهم الآخر إلتحف السماء وافترش الأرض، ثم جاءهم المطر فأغرقهم وبعض ما حملوه من ألبسة وضرورات.

ومنذ أن أعلنت إسرائيل حربها على القطاع قطعت كل ما يحفظ البقاء البشري: لا ماء ، لا كهرباء ، لا طعام ، لا دواء  ولا علاج وأمن ولا ولا ولا .. قالت إسرائيل بالفم الملآن أن من لم يمت بالقصف “مات بغيره”، وفعلت وواصلت قصفها دون تمييز. وهي  تعرف أن الملاجيء مكتظة للغاية، بما يفوق طاقتها بأكثر من أربعة أو خمسة أمثال سعتها، بعد أن فر عشرات الآلاف من المدنيين إلى جنوب القطاع هرباً من وطأة القصف الإسرائيلي في الآونة الأخيرة. في هذا الوقت كان برنامج الغذاء العالمي التابع للأمم المتحدة يحذر من أن سكان قطاع غزة على شفا المجاعة بعد أن نفذ منهم الغذاء والماء والوقود والدواء.

هذا ولم نتحدث بعد عن الخسائر البشرية. والأرقام والاعداد ليست مجرد رموز كتابية، بل هي أناس من لحم ودم قضت على حياتهم واحلامهم، العدوانية الصهيونية. كل ساعة، ويوميا، يتصاعد عدد الضحايا. والعارفون بما عليه القطاع من كثافة سكانية، يدركون أن الرقم المتداول هو أقل بنسبة 50% عن العدد الفعلي للضحايا والمفقودين على حد سواء. الرقم الذي تذكره الدوائر الصحية محلية أو دولية الآن، يصبح قليلا بعد ساعة أو أقل. فعداد الموت لا يتوقف. المهم أن 75 % من هؤلاء هم من النساء والأطفال. ألوف مذبوحة تتلاحق ولم يعد الوصول إلى المقابر متاحا لمواراتها التراب. ضاقت مساحات غزة بالقبور الجماعية، وباتت كل بقعة متوافرة بمثابة مقبرة جماعية للآلاف. أرض غير مبنية أمام مستشفى أو حافة طريق وما شابه احتضنت المئات بعد أن تعذر نقل جثامينهم إلى أماكن بعيدة. يحفر خندق طولي بالجرافات أو بالمعاول ثم ترصف الجثث بأكفانها البيضاء ويهال عليها الرمل. بعضهم له أسماء وبعضهم لا أسماء لهم. ولم نتحدث عن المفقودين. ويعادل هؤلاء تقريباً نصف عدد الضحايا، والأرجح أن يكونوا قد طمرتهم أكوام الأنقاض وتعذر انتشالهم. فماذا باستطاعة الايدي العارية أن تفعل في موازاة أطنان الأنقاض. أما الجرحى وفي ظل فقدان الأدوية وما تعرض له الجهاز الطبي من نقص فمعظمهم منذورون للموت. شهداء من كل فئات المجتمع: أطباء، ممرضون، مسعفون ودفاع مدني وقس على ذلك. موت لا يعفي أحداً من أحكامه القاهرة. وللمرة الأولى في تاريخ الأمم المتحدة تفقد العدد الذي فقدته من موظفيها وإدارييها ما أثار غضب وحنق الامين العام للأمم المتحدة على هذه المذبحة العبثية. أحزمة النار كانت تزنر أحياء بكاملها وتدمرها بالصواريخ في رمشة عين، والحصيلة عشرات الألوف من المساكن دمرت بشكل كامل أو على نحو جزئي. صورة غزة المدمرة تُرى الآن من الأقمار الاصطناعية التي تجوب السماء. ويقال إن حجم الدمار العمراني فاق الـ 65% من المساكن والمدارس والمستشفيات والمرافق العامة والإدارات الحكومية والمتاجر والمحترفات والمساجد والكنائس، وهي جميعاً لم تعد صالحة للسكن والاستعمال. قبل اعلان هدنة الأيام الخمسة أصاب الدمار ٢٥ مستشفى و ٥٢ مركزاً صحياً و٥٥ سيارة اسعاف و٢٦٢ مدرسة وعشرات الكنائس والمساجد والمقرات الحكومية واكثر من ٦٠٪‏ من المنازل والوحدات السكنية التي طالها الدمار الكلي او الجزئي في قطاع غزة والعديد غيرها من الخسائر في الضفة الغربية. وما زال دمار القصف متواصلاً دون توقف. وخصوصاً تجريف البيوت، إما بحجة أن أبناء أصحابها من المقاومين ما يستوجب عقاب ذويهم، أو أنها تخالف شروط البناء .

لم يمارس ما يسمى جيش الدفاع الإسرائيلي قصفاً عشوائياً. صحيح أنه كان يبحث عما هو في جوف الأرض من أنفاق، لكن الاصح أنه كان يقضي على معالم الحياة فوقها. استعمل الكثير من الذرائع لتبرير ما يفعله. قال إن المستشفيات والمساجد والكنائس والمدارس وما شابه هي غرف عمليات أو ملاجيء للمقاتلين، أو مخابيء للأسرى والمخطوفين. الفعلي لا هذا ولا ذاك. الصحيح أن هذه الأماكن تعبر عن حياة يجب إجتثاثها من جذورها، والا لماذا لم يجد هذا الجيش وأجهزة الامن ما يبحثون عنه في واحدة من هذه الاماكن. المهم كان ألا يعثر الجريح على مكان يضمد له جراحه والتلميذ وأهله على مدرسة تحمل علم الأمم المتحدة يتفيأون ظلالها ظنا أنها تحميهم. أو مستشفى ينقذهم  ويفترض الاهالي أن له حرمة تحميهم من الرعب المسلط عليهم من السماء أو من على الأرض. أو مسجد وكنيسة يلوذون داخله برحمة الله السماوي. بجب أن يتم إزهاق روح كل معالم الحياة، ولتنسف كل مواثيق وقوانين الحروب من حمورابي والنبي العربي إلى مواثيق جنيف. يجب أن يقضى على الفلسطيني الذي تجرأ ورفع السلاح في وجه الاسرائيلي، أي فلسطيني صغيرا أو صغيرة، مراهقا أو مراهقة، شابا وفتاة، رجلا او امرأة.. يجب القضاء عليه، كي يرتاح الإسرائيلي أن جريمته الاصلية باتت مقيدة ضد مجهول ولا أحد يطالب بحقوقه. ولكن كان للعالم عيون ترى من خلال الصحافة. خلال الفترة الفاصلة بين اندلاع القتال ومطلع الشهر الجاري قتل من الصحافيين ما يفوق من قتل في حروب تحرير الجزائر وفيتنام وأوكرانيا وروسيا والسودان. فقد كان الصحافيون بمثابة أهداف “مشروعة” تستوجب القتل نظراً لأن عدساتها ضبطتهم بالجرم المشهود، ولا بد من التخلص من صورها وكلماتها وأصواتها المزعجة. وهكذا كان، فمن لم يمت بقذيفة دبابة مصوبة بدقة تزهق روحه، قتل بغارة طيران أو قصف مدفعي.  وقد توزع الصحافيون بين شهيد ومعتقل، وقد بلغ عدد الشهداء من الصحافيين والعاملين في مؤسسات الاعلام بموجب الأرقام التي أوردتها نقابة الصحافيين الفلسطينيين حوالي الـ 90 صحافياً، اذا ما أضفنا إليهم الصحافيون الاربعة الذين تم استهدافهم في جنوب لبنان. أما الجرحى فقد فاق عددهم الـ 80 صحافيا، مع صحافيين اثنين مفقودين. كما قصف الاحتلال منازل عائلات 60 صحافيا وأباد عائلاتهم ، قضية الصحافي في الجزيرة اياد الدحدوح   نموذج عن هؤلاء المحاربين، فقد فقد معظم أفراد أسرته بغارة اسرائيلية. كابر على جراحه واستمر في العمل فأصيب هو وقتل المصور معه. ودمرت مقار 63 مؤسسة إعلامية وعطل 25 إذاعة محلية ( 24 في غزة وواحدة في الضفة الغربية)، وأغلق وقيد عمل 3 وسائل اعلامية. ومع اعتقال الزميل ضياء الكحلوت من أسرة “العربي الجديد” ووضعه مع الاسرى المدنيين الذين جرى تجريدهم من ثيابهم في بيت لاهيا، واعتبارهم من المقاتلين الذين تم أسرهم كما أدعى الناطق العسكري الاسرائيلي، يرتفع عدد الصحافيين الأسرى إلى 44 صحافياً، بينهم 41 في الضفة الغربية، وثلاثة في غزة.

المتحدث باسم الاونروا عدنان أبو حسنة، قال إنّ وكالة أونروا هي الجسم الوحيد المتماسك في قطاع غزة، والذي يقوم بتوزيع المساعدات على النازحين، مضيفاً أنّ 108 موظفين لدى الوكالة، استشهدوا منذ بدء العدوان الإسرائيلي على القطاع، وهو الرقم الأكبر في تاريخ الأمم المتحدة، إذ لم يحدث أن فقدت مثل هذا العدد خلال هذه الفترة. لكن ما كان يصل الاونروا من مؤن ومواد غذائية كان أقل من أن يلبي حاجة اللاجئين والذين فروا من بيوتهم أشباه عراة ودون حد أدنى من ضرورات العيش. وباتوا بحاجة إلى كل شيء من ماء وغذا ودواء وثياب و.. أحدهم ذكر أنه عانى من تهجير لـ 7 مرات منذ 7 أكتوبر / تشرين الأول. عائلات ممتدة فقدت بالكامل، لم يتبقَ من أفرادها أحد. لا الجد ظل حيا ولا الجدة والآباء والأبناء والاحفاد. تجمعوا على بعضهم بعضاَ فرصدتهم الطائرات ودمرت منازلهم عليهم ولم يخرج منهم مخبر كما يقال.

المشهد من الضفة   

بالانتقال إلى الضفة الغربية، هناك ما يشبه الحرب التي يشهدها قطاع غزة، باعتبار أن الهدف الاسرائيلي واحد فيهما، وهو تهجير الفلسطينيين بالموت، أو دفعهم للرحيل إلى مصر بالنسبة للقطاع، وإلى الضفة الشرقية في الأردن بالنسبة لأهالي الضفة الغربية. بالطبع لم تقف مدن وقرى الضفة الغربية مكتوفة الايدي بينما كانت تنطلق آلة الحرب الاسرائيلية في دك القطاع بكل ما قدمته لها ترسانة اميركا من أسلحة وذخائر. على أي حال ما تعانيه الضفة ليس بعيداً عما تشهده غزة. بدأ أهالي الضفة بتحركات سلمية من خلال التظاهر في الساحات العامة وتقاطعات الطرقات إدانة للحرب التي تشنها آلة الحرب الإسرائيلية على غزة وأهلها وتأكيداً على وجود الشعب الفلسطيني وحقه بالحياة والحصول على حقوقه السياسية في إقامة دولته المستقلة على تراب بلاده . . لكن إسرائيل سرعان ما حولت المواجهة إلى مواجهة عسكرية، وأخذت تشن الغارات يوميا على مخيمات ومدن وقرى الضفة تحت ذريعة مواجهة المتطرفين من الفلسطينيين. لم تنج مدينة أو قرية أو مخيم من غارة تشنها قوى نظامية أو ميليشياوية. وهنا علينا ألا ننسى ما أقدمت عليه حكومة اليمين المتطرف والوزير بن غافير تحديداً عندما أخذ بتوزيع الأسلحة الفردية على المستوطنين، وكأن الجيش وأفرع الأمن ليست كافية. لذا ثابر المستوطنون على شن الهجمات على كل من وما هو فلسطيني في القرى والمدن والطرقات. والملفت أن الهجمات الصهيونية لم تقف عند حدود مشاركة الآليات والمدرعات والفرق الأمنية والعسكرية المدربة، بل أضافت إليها الطائرات الحربية والمسيَّرات. وعملت عبر هذه الوحدات على قتل كل من يتصدى لاستباحتها. وهكذا كان عدَّاد القتل يتصاعد هو الآخر يومياً. يترافق ذلك القتل مع إلقاء القبض على كل من تصادفه قوات الاحتلال. وهكذا سجلت الأرقام حوالي ثلاثماية شهيد من شبان الضفة، وألوف المعتقلين الذين زجت بهم في سجونها ( قد يصل الرقم إلى 4 الآف أسير) . بالطبع لم تقف الامور عند هذه الحدود بل أضافت إليها عمليات تجريف الطرقات العامة والبنية التحتية وهدم البيوت وتخريب الممتلكات الخاصة والعامة. أما على المستوى السياسي فقد طالع الأهالي التهديد اليومي التي دأب كل من رئيس حكومة الاحتلال ووزراء حكومة الحرب على اطلاقه، ومن خلاله على التلويح برفع وتيرة العنف إلى ما يشابه ما تعيشه غزة والقطاع من قصف تدميري لا يبقي ولا يذر، والتأكيد على التخلي عن اتفاق أوسلو الذي أتاح رجعة العامل الفلسطيني من الشتات فاعلاً في قلب بلاده والمعادلة. وبلغ من عنف الهجمات أن قادت إلى تهجير أكثر من 15 قرية غادرها سكانها بعد التهديدات اليومية التي تعرضوا لها من جانب المستوطنين، من دون أن تتوافر لهم أي نوع من الحماية التي يتوجب على قوى الاحتلال تقديمها. ما حدث هو العكس من مرافقة الجيش المستوطنين في هجماتهم وتزويدهم بالالبسة النظامية وما يحتاجونه من معدات، ما يعني أن ما يمارسه المستوطنون يحظى بالاحتضان النظامي من المؤسسات الرسمية.  وفي طريقها كانت القوات والمستوطنين الغزاة يدمرون كلما يصادفونه من معالم حياة يومية من مراكز صحية وأسواق وأبواب ونوافذ بيوت ومركبات وطرقات وما شابه.

قصص الاحتلال والمستوطنين سواء في القطاع أو الضفة الغربية تحتاج إلى مجلدات كي تروى للأجيال المقبلة… وبالتأكيد سيأتي يوم تروى فيه، لكن ما يهم الآن أن ما حدث كان أكبر من مجرد انتقام من هجوم مباغت على القوات النظامية والوحدات والمستوطنات في غلاف غزة… ما حدث كان عبارة عن مخطط لاقتلاع الواقع الفلسطيني راهنا ومستقبلاً، ظنا أن هذا هو السبيل الوحيد لتكريس وجود الاحتلال الآن وغداً.. وإلى دهر الداهرين كما يقول الكهنة في صلواتهم الكنسية.

Leave a Comment