سياسة مجتمع

الحرب الاميركية الاسرائيلية المفتوحة والتحديات الفلسطينية واللبنانية

زكي طه

 بيروت 26 كانون الأول 2023 ـ بيروت  الحرية

الرئيس الاميركي لم يطلب من رئيس حكومة الحرب الاسرائيلية العمل على وقف اطلاق النار، والأخير ابلغه أن الحرب مستمرة حتى تحقيق أهدافها. جاء ذلك في أعقاب تكرار تأجيل التصويت في مجلس الأمن على مشروع قرار  يتعلق بوقف اطلاق النار، جراء الإصرار الاميركي على رفضه، والاكتفاء بالموافقة على تنظيم وقف مؤقت للعمليات الحربية وادخال المزيد من المساعدات إلى قطاع غزة.  يعني ذلك أن الحرب المفتوحة، التي تدور رحاها في قطاع غزة والضفة الغربية، امتداداً إلى جنوب لبنان منذ السابع من تشرين الاول الماضي، مستمرة وأن أحداً ليس باستطاعته تحديد موعد نهايتها.

كذلك فإن ما يراهن عليه من قبل البعض حول خلافات اميركية اسرائيلية، لا يمت بصلة إلى موقف الإدارة الاميركية الداعم للحرب والمشارك في قيادتها وإدارتها. كما وأن ما يصدر عنها بشأن المدنيين، ورفض تهجير الفلسطينيين أو حول إستمرار احتلال القطاع، وتكرار الحديث حول حل الدولتين، لا يخرج عن إطار التضليل والتعمية على السياسة الاميركية وأهداف الحرب في آن. وأن غايته ملاقاة ردود فعل الرأي العام الغربي على عمليات الابادة والقتل الجماعي التي ينفذها جيش الاحتلال الاسرائيلي بحق الفلسطينيين. بالاضافة إلى احتواء المواقف العربية  المحرجة من الرفض الاميركي لوقف اطلاق النار، ومن النتائج الكارثية التي حلت بالفلسطينيين على الصعيدين الانساني والعمراني في قطاع غزة والضفة الغربية.

في هذا السياق تقرأ مسارات تصعيد الحرب، ومستويات التوحش التي تمارسها اسرائيل، والمجازر البشرية التي تنفذها بكل الوسائل والاسلحة المتاحة دون أي رادع اخلاقي أو انساني،  وفي السياق ذاته يُقرأ التصعيد العسكري والسياسي الاسرائيلي ضد السلطة الفلسطينية وحركة حماس، في سبيل شطبهما من معادلة الوجود، انطلاقاً من رفض اي دور لهما عند نهاية الحرب التي تستهدف قطع كل الطرق المؤدية إلى حل الدولتين، والحق في إقامة دولة فلسطينية في الضفة والقطاع والقدس. وهو التصعيد الذي يستند إلى الدعم الاميركي  والاوروبي ذو الطبيعة الاستعمارية، والمستفيد ومن عدم فعالية الموقفين الروسي والصيني إن لم يكن تواطؤهما. بالاضافة إلى الوضع العربي بكل ما ينطوي عليه من عجز وتطبيع  وأزمات بنيوية متفجرة تهدد مصير العديد من البلدان والدول.

لكن الأهم بالنسبة للقيادتين الاميركية والاسرائيلية، هو الاستثمار في الانقسام السياسي الفلسطيني المستمر رغم الصمود الاسطوري في مواجهة تحديات الحرب وأكلافها الباهظة وغير المسبوقة، وهو الإنقسام الذي لا يشفع للقيادة الفلسطينية عدم معالجته، استمرار اطلاق الصواريخ على المدن والمستوطنات الاسرائيلية، وبطولات المقاومين التي تفوق الخيال  والتي يشارك فيها سائر الفصائل، سواء في قطاع غزة أو الضفة الغربية. الانقسام الذي لا تغطيه اعلانات الانتصار والنفخ الاعلامي حول اضطرار اميركا واسرائيل للتفاوض مع حماس أو التواصل مع السلطة، الأمر الذي لا ينال من اولوية استمرار الحرب بالنسبة لهما مهما بلغت أكلافها وخسائرها، باعتبارها حرب وجودية من وجهة نظرهما، تختلف عن كل ما سبقها من حروب، ولا بد من محاولة تحقيق أهدافها، حيث لامكان لحماس ولا للسلطة الوطنية في تقرير مصير وإدارة شؤون قطاع غزة والضفة الغربية.

معركة المساندة وأكلافها

أما على الجبهة اللبنانيية، فإن معركة المساندة التي قررها حزب الله  من البوابة الجنوبية مخرجاً لعدم الدخول في الحرب التي قررتها اسرائيل ضد الشعب الفلسطيني، تبقى محكومة بالاستمرار بالنظر لطبيعتها وارتباطها بمساراتها وبنتائجها. هذا ما أكدته قيادة الحزب عندما التزمت موجبات الهدنة الانسانية التي وافقت عليها قيادة حماس من أجل تبادل الاسرى والمعتقلين وادخال المساعدات. وهو الالتزام الذي مكن الحزب  من إعادة ترتيب أوضاعه الميدانية، وأتاح الفرصة لأبناء الشريط الحدودي  من أجل لملمة ارزاقهم وترتيب شؤونهم في مواجهة الواقع التهجيري الذي فوجئوا به ولا يعرفون موعداً لنهايته، عدا أنهم متروكون لقدرهم في تأمين حاجاتهم.

صحيح أن الحزب يخوض معركته مع اسرائيل وفق قواعد الاشتباك التي يحتاجها الطرفان ويلتزمان العمل بموجباتها في الطور الراهن من الحرب. الاسرائيلي حيث الأولوية لجبهتي قطاع غزة والضفة الغربية، وحزب الله الذي لا يريد تصعيد المعركة الى مستوى اعلان الحرب، والابقاء عليها  تحت راية المساندة.

والصحيح ايضاً أنه كان بحاجة لاستيعاب ردود الفعل السياسية المعترضة على التفرد في فتح المعركة التي يخوضها في ظل مزاج لبناني عام معترض بأكثريته، حتى المؤيدين له تتملكهم مخاوف فعلية من احتمالات تطورها على نحو مدمر. وما يعزز تلك المخاوف أن هذه المعركة لم تعدل في طبيعة ومسارات الحرب الاسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني في قطاع غزة والضفة الغربية. وأن حدة ووتيرة الدمار والخراب والتهجير وعمليات الابادة والقتل التي تنفذها  اسرائيل لم تتوقف أو تتاثر بما يقوم به الحزب على جبهتها الشمالية. هذا ما جعل معركة الحزب  تبدو بشكل واضح خارج سياق الحرب الاسرائيلية على قطاع غزة، رغم اصراره على الربط بينهما.

 

لذلك لم يكن بالامكان قراءة معركة الحزب مع العدو الاسرائيلي أو التعامل معها خارج اطار التوجه الايراني لتغطية قرار عدم الدخول المباشر  في الحرب القائمة، والاكتفاء بما سميّ “معارك المساندة” التي تقوم بها ميليشيات محور الممانعة من مواقعها المحلية، خلافاً لكل إدعاءات  قادة النظام على امتداد عقود طويلة حول التزام  تحرير فلسطين وتدمير اسرائيل..  لم يخفَ على أحد أن هدف القيادة الايرانية، هو استغلال تلك المعارك والاستثمار فيها من أجل حجز موقع  لها على طاولة البحث في شؤون واوضاع المنطقة اثناء الحرب وفي ضوء نتائجها لاحقاً. وهو الهدف الذي لم يتحقق حتى الآن، في ظل التوجه الاميركي الذي يقضي بالتعامل مع تلك المعارك كل على حدة ومن بواباتها المحلية القابلة للتوسع، بالرغم من تحميل إيران المسؤولية عنها. وهو ما يدفع  بالقيادت الايرانية الى تصعيد لهجة التهديد من انفجار حرب شاملة تتحمل مسؤوليتها الولايات المتحدة بحكم دورها وسياساتها.

في هذا الاطار تقرأ التحذيرات والتهديدات المتكررة التي يطلقها قادة العدو ضد الحزب ولبنان، بالتزامن مع رسائل التهديد التي يحملها الموفدون الدوليون.  وهي التي لم تجدِ نفعاً في وضع حد لعمليات القصف المستمرة، ومثلها محاولات الفصل بين الحزب والاهالي سعياً لتاليبهم ضده والضغط عليه. ولذلك جرى استحضار القرار  ١٧٠١ والمطالبة بتنفيذه على نحو يلبي حاجات إسرائيل الأمنية، ويوفر لها ضمانات الاستقرار على الحدود وفق الضيغة التي تقبل بها ويتبناها المجتمع الدولي. هذا ما استدعى حملة المطالبة الدولية والعربية بتنفيذ القرار المذكور. وهي الحملة المرشحة للاتساع باعتبارها تخدم مصالح اسرائيل وتستجيب لمطالب قيادتها ولهواجس المستوطنين في آن، وسط تجاهل تام لأمن اللبنانيين ومخاوفهم من التهديدات الاسرائيلية، ومن خطر انزلاق المعركة نحو حرب تدميرية شاملة لبلدهم.

لسنا بصدد البحث في اسباب تهديدات العدو الاسرائيلي ومدى جديتها، ولسنا بوارد تبني طروحات اميركا وفرنسا بشأن  تفيذ القرار 1701، باعتبارهما يتطابقان مع المصالح والاهداف الاسرائيلية. لكننا لسنا من دعاة استسهال تعريض لبنان للدمار والخراب، عدا أننا في الأصل لا نرى في ما يجري على جبهة الجنوب مساندة للقضية الفلسطينية. كما وأننا وفي ظل المعركة القائمة لسنا بوارد تجاهل  تهديدات قادة العدو حيال لبنان، والتي يكررها علينا قادة اميركا وفرنسا وسواهم من المؤيدين للحرب الاسرائيلية بما تنطوي عليها من استهدافات. عدا أننا لا نجد أي  مبرر للاستهانة بما يقال للمسؤولين اللبنانيين في الغرف المغلقة بـ “أن قرار تدمير لبنان قد اتخذ، وأن المخرج الوحيد لانقاذه من الدمار الشامل، هو تنفيذ القرار 1701، وأن المسؤولية عما سيحصل لبلدكم تقع على عاتقكم”. كذلك لا فائدة من القول أن الأمر لا يتعدى الضغط والتهويل على اللبنانيين، وأن الهدف منه فقط هو التحريض على حزب الله.

في موازاة ذلك لسنا ممن يحمّلون حزب الله وحده المسؤولية عن حرب تدميرية لا مصلحة للبنان فيها، لأن ذلك ينطوي على تجاهل تام لتاريخ العدوانية الاسرائيلية الحافل ضد لبنان من ناحية، ولأنه يتضمن من ناحية ثانية، استهانة بتاريخ الانقسام اللبناني حول هوية لبنان وموقعه من الصراع العربي والفلسطيني مع اسرائيل. عدا أنه يحصر تهمة الارتهان للخارج والاستقواء به على اللبنانيين بحزب الله. فيما هي تهمة يتشاركها مع سائر أطراف ومكونات الاجتماع اللبناني بمختلف تشكيلاتهم السياسية. وهذا ما يشكل تاريخ لبنان حتى الآن، وهو الواقع الصعب الذي يضع الجميع أمام تحدي تحمّل المسؤولية عن مواجهة كمّ هائل من المخاطر التي تهدد مصير البلد على نحو  يضعه أمام خطر الزوال.

مسؤولية القيادات الفلسطينية واللبنانية

وإذا كانت الحرب التي تنفذها اسرائيل ضد الشعب الفلسطيني في وجوده وحقوقه على ارضه في قطاع غزة والضفة الغربية، مرشحة وفق كل المؤشرات لمزيد من الاستطالة والتصعيد. وهي حرب يستحيل مواجهتها والتعامل مع نتائجها من مواقع الانقسام. فإن التحدي الأكبر اليوم الذي يواجه سائر القيادات الفلسطينية في  معركة الصمود الاشد خطورة في تاريخ الشعب الفلسطيني، هو النجاح في امتحان القدرة على استعادة الوحدة سلاحاً وحيداً لإبقاء القضية حيّة على ارض فلسطين، وليس في اي مكان آخر على أهمية كل الامكنة.

في المقابل فإن ما سمي “معركة المساندة” على الحدود اللبنانية الجنوبية مع فلسطين المحتلة،  تحف بها  احتمالات الاستطالة المفتوحة على كل اشكال التصعيد، وينطوي على خطر الإنزلاق نحو حرب تدميرية لا تبقي ولا تذر. ورغم أن القرار 1701 يشكل هدنة مؤقتة وليس حلاً نهائياً، إلاّ أن استحضاره في سياق الحرب القائمة يجعل منه ذريعة لاعلان الحرب على لبنان وحزب الله في آن.  وما يجعله غير قابل للتنفيذ طبيعة الشروط والاستهدافات الاسرائيلية والاخطار المترتبة عنها، والتي لا يمكن القبول بها.

ولذلك فإن التحدي الذي يواجه سائر المسؤولين وقوى السلطة دون استثناء، وفي طليعتهم حزب الله، التداعي لإنقاذ البلد، والكف عن تعريضه لأشد الاخطار على نحو لا يقيم وزناً لمستقبله ومصيره. والاقلاع عن التهرب من المسؤولية وإدمان تبادل اتهامات الفساد والخيانة، باعتبارهم جميعا شركاء عما آلت إليه أحوال البلد على جميع المستويات. وفي هذا الاطار  يقع خطر الاستثمار في الانقسامات اللبنانية الموروثة لأنه يشكل أقصر الطرق للاطاحة بما راكمته تلك القوى من مواقعها المختلفة، في ظل حرب تهدد مصير لبنان كما سائر بلدان المنطقة.

وإذا كانت قوى السلطة مطالبة بإثبات وطنيتها الجامعة سبيلاً لإنقاذ لبنان، فإن قوى الاعتراض والمعارضات على مختلف مشاربها، معنية أيضاّ بتحمّل مسؤولياتها الوطنية وعدم الاكتفاء بتغطية عجزها المستدام بقوة التبسيط وتكرار الشعارات، والإمعان في المزايدات وإدمان الانتظار  والرهان على الخلافات الدائرة في ساحات الخصوم والاعداء علّها تأتي بترياق الحلول لأزماتهم.

Leave a Comment