مجتمع

فوضى التحركات تطيح بالطموح إلى تحقيق التغيير السياسي

كتب محسن زين الدين

 
1 ـ ما دفعني إلى كتابة ما يلي، تحت العنوان أعلاه، هو ما شاهدته منذ بضعة أيام عندما كنت ماراً في شارع الحمراء، حيث استوقفتني جمهرة من الناس لا يتعدى تعدادها العشرين، أقل أو أكثر بقليل، أمام فرع أحد المصارف، وقد انبرى احدهم خطيبا في “الجموع”، مندداً بحكم المصرف، ثم استدار نحو مدخل الفرع موجهاً كلامه إلى من في الداخل طالباً منهم بلهجة الآمر، ان يخرجوا من المصرف: “الآن وبسرعة والا سوف نقوم  بتكسير الفرع على رؤوسكم” قالها بالحرف . للوهلة الأولى ظننت، أن من في الداخل هم أصحاب المصرف وأعضاء مجلس الإدارة وبعض كبار المساهمين، وبالتالي فالتهديد يطالهم اجمعين. لكن اتضح أن من كان في الداخل، هم بضعة موظفين لا يتعدى عددهم أصابع اليدين. وكان هؤلاء موضوع التهديد والوعيد من الخطيب المفوَّه، باعتبارهم سجّاني الودائع وحرّاس الأموال المنهوبة.


2 ـ عودّ على بدء انتفاضة ١٧ تشرين، التي ارتفعت خلالها جملة من المطالب والشعارات، التي لامست صميم حياة الناس اليومية من ناحية، وقاربت بوضوح آمال الناس في التغيير السياسي لمنظومة سلطوية نخرت بنيان الوطن بالفساد والهدر والسرقات والسمسرات، واحتكار الوظائف الرسمية من كبيرها وحتى صغيرها غير المنتج عبر حشو الأزلام والمحاسيب في إدارات الدولة خدمة لمآرب انتخابية  دون حسيب ورقيب.
كان واضحاً أن ما رُفع من المطالب والشعارات يشكل أساساً لبرنامج تغيير لا يستقيم الا بعنوانه ” مطالبنا حقوقنا لا تستقيم الا بالتغيير السياسي ” .


3 ـ حين اشتعلت ساحات وسط بيروت بجماهير المواطنين من بيروت، والوافدين إليها بحماس شديد من المدن الأخرى، وحتى من الأطراف التي تشعر بمرارة الحرمان أكثر من غيرها، تفاءلنا جميعاً، بعودة الحركة والنشاط إلى كل شرائح المجتمع اللبناني التي عانت وتعاني من سوء أداء السلطة السياسية في إدارة شؤون البلاد في مختلف الحقول والمستويات، مما أوصل البلد إلى الانهيار وأوصل الشعب إلى إمكانية الانفجار غضباً واعتراضاً على هذا الأداء المسيء للوطن والمواطن. وتفاءلنا أيضا أن سكة التغيير قد نفض عنها غبار الإستكانة، وصدأ الرضوخ واستسهال اللامبالاة في سير الأمور كما تشاؤها السلطة.
لكن منذ البدء توزعت خارطة الساحات إلى مساحات تستضيف خيماً لمجموعات وجمعيات وهيئات مدنية وأهلية، بدا جلياً أن غايتها تعريف الناس على مطالبهم وتعليمهم كيفية المطالبة بها. وهكذا بادرت إدارات هذه الخيم إلى عقد الندوات وإقامة المحاضرات ورفع بعض الشعارات وإسقاطها على فضاء الانتفاضة. ظهر المشهد كله وكأنه منافسة بين الخيم وإداراتها على استقطاب أكبر قدر من أعداد المواطنين.


4 ـ لكن اللافت جداً انعدام وجود خيم لقوى الإنتاج والعمل في شتى المجالات من نقابات عمال ومزارعين إلى اتحادات عمالية، حتى أن الاتحاد العمالي العام بدا وكأن الحراك الشعبي لا يعبر عن قضايا ومطالب من المفترض به أن يحملها مدافعاً عن حقوق الطبقات العاملة والشعبية التي يدعي أنه اتحادها والمعبر عن تمثيلها. كما افتقدنا لحضور فاعل لموظفي قطاعات واسعة في القطاع الخاص “موظفو قطاعات المصارف والاستشفاء وشركات التأمين وقطاع التعليم الخاص الذي يعاني العاملون فيه من استغلال وإجحاف، وبشكل أساسي اساتذة الجامعات الخاصة “. حتى أن الوجود الطلابي بشكل عام لم يكن على مستوى التحرك الفاعل، خصوصاً وأن هؤلاء يعانون من أزمة بنيوية تطال مستقبلهم، لكن أبرز مظهر لها هو ارتفاع الاقساط في مدارسهم وجامعاتهم. أما موظفو القطاع العام فلم يكن وجودهم في التحرك بالمستوى المطلوب، حيث لم يكن لهيئة التنسيق ذلك الوجود الهادر، كما كان لها ما قبل إقرار سلسلة الرتب والرواتب.
رغم ذلك كان الحضور الشعبي الكثيف يعبر عن تكتلات شعبية اجتماعية مناطقية تحمل مطالبها القطاعية والمعيشية التي تعاني منها في مدنها ومناطقها القريبة والبعيدة عن المدن. اذ كان واضحاً من المطالب المرفوعة ما يستدل على أنها مطالب المناطق التي يحملها سكانها. فقد كانت تعبر جميعها عن الحرمان الذي أنتجه عدم وجود إنماء متوازن بين المناطق من ناحية، وبالتالي إنماء غير متكامل فيما بينها جميعاً.

أما من ناحية الشعارات العامة التي رُفعت، فقد تراوحت بين إسقاط النظام ومحاسبة الفاسدين تحت شعار “كُلن يعني كُلن”، إلى استرجاع الأموال المنهوبة والمهربة، إلى انتخابات مبكرة، وتأليف حكومة اختصاصيين مستقلة عن احزاب السلطة الخ…. واستمرت تحركات المجموعات بعيداً عن مجموعات أخرى. حتى أن بعض التحركات كانت تقتصر في أغلب الأيام والإحيان على مجموعات قليلة وفي مناطق متفرقة. وفي أغلب الأحيان كان يكفي أن يتحرك بضع عشرات أمام احدى المؤسسات الرسمية أو أحد المصارف حتى نعتبر أن الحراك لا زال مستمراً وان بوتيرة متقطعة وبأعداد لا تصل في احيان كثيرة الى المئة. بدا واضحاً من تراجع الأعداد وتراجع التحركات وغياب التنسيق فيما بين المجموعات التي كانت تعلن عن نفسها بصفتها إدارة الحراك على الارض وفي الساحات، كما غابت كل اللقاءات والندوات والحوارات التي كانت تشهدها الساحات العامة.
كما تراجعت الشعارات واحتل الحراك ضد المصارف صدارة التحركات لما له من صلة مباشرة بودائع المواطنين التي حتى الآن لم يقم أحد، إن من السلطة الرسمية أو جمعية المصارف بإعلان أن الودائع لا زالت في المصارف لكنها محجوزة، أم أنها باتت في خبر كان، حيث لم يجزم كلا الطرفين الرسمي والخاص حول مصيرها.


5 ـ إن تفكك الحراك إلى مجموعة تحركات مناطقية، أفقده ذلك الزخم الذي انطلق فيه، والذي أشاع فسحة أمل في إمكانية احداث تغيير في إدارة شؤون البلاد. وهكذا أصبحنا نشهد تحركات منفصلة في كل منطقة ومدينة ترفع شعارات خاصة بها، وقد تراجعت إلى حد ما شعارات التغيير والانتخابات المبكرة ومحاسبة الفاسدين وإستعادة الأموال المنهوبة. وراح كل تحرك يقطع الشوارع الرئيسية في منطقته، ولم يعد هناك أي تنسيق لا في التحركات ولا في الشعارات، مما أضفى على كل التحركات هذه حالاً من الفوضى، رافقها بعض أعمال التخريب التي طالت ممتلكات عامة وخاصة، ولا سيما مراكز وفروع المصارف، تعبيراً عن حالة غضب واعتراض لما آلت اليه الحالة المعيشية للمواطنين في ظل الارتفاع الجنوني للأسعار، ارتباطاً بالارتفاع المضطرد صعوداً لسعر صرف الدولار.

إن الغضب العارم الذي انفجر حضوراً كثيفاً، في وسط بيروت في ١٧ تشرين، لبسته الفوضى وتشتت إلى تحركات وتجمعات. مما أفقد الحراك مكمن قوته التي تمثلت بحضور كثيف لجمهور متنوع عريض. لكن أحداً لم يبادر إلى تأطير هذا الحراك، وأخذ المبادرة الجدية واللازمة لتأطيره وصوغ برنامجه التغييري على أساس أولويات واضحة نحو إحداث تغيير في بنية السلطة السياسية. لكن الأصوات العالية ضد العمل السياسي واستقلالية الحراك ومجموعاته عن الأحزاب السياسية  وما شجع هذه الأصوات هو عمل الأحزاب القائمة، وخاصة ما يسمى منها بالأحزاب “الوطنية”، والتي توسلت كل الطرق ليس للتغيير، وإنما لوهم حجز مكان لها في عداد السلطة السياسية الحاكمة. وعلى هذا بات العمل السياسي تهمة وإدانة لكل من يقول بها، حتى وإن كان مؤيداً ومشاركاً في الحراك ككل أو في أي من مجموعاته. لكننا اذا نظرنا إلى الشعارات الرئيسية للحراك نجدها شعارات سياسية. فمن شعار إسقاط النظام إلى إجراء انتخابات نيابية مبكرة، إلى استقلال القضاء ومحاكمة الفاسدين  واسترداد الأموال المنهوبة والمهربة، حتى المطالبة بتشكيل حكومة مستقلة ؟ عن السلطة السياسية،  اختصاصيين، وذات صلاحيات استثنائية. كل هذه هي مطالب وشعارات سياسية، ولا يمكن ان تأخذ طريقا للفرض أو التنفيذ الا بإجراء تغيير في بُينة السلطة السياسية الحاكمة. أكثر من ذلك فان الحراك وقع في الحفرة التي حفرتها له أطراف السلطة وأحزابها، والتي دخلت على خط الحراك في مناطق عدة.
نعود لنسأل كيف يمكن لحراك ضد السلطة السياسية أن يطلب من هذه السلطة نفسها تشكيل حكومة مستقلة عنها، وتقصير عمر مجلسها ليصار الى انتخابات نيابية مبكرة، وكيف نسأل هذه السلطة أن تحاسب نفسها، وأن تعيد الأموال التي نهبتها من المال العام، وأن تعلن أنها سلطة فاسدة وأن تخلي مكانها إلى قوى معارضة جديدة لم تتشكل جدياً، ولم تبادر إلى تنظيم حراكها بما يسمح بأن تكون قوة معارضة تحمل برنامجاً وطنياً للتغيير.


6 ـ إن حالة الفوضى في التحركات في المدن والمناطق والتي لم يربطها أي تنسيق أو تواصل، كما وأن ما صبغ المطالب والشعارات هو العمومية وعدم تحديد أولوياتها، وهذا شكَّل حالة تردٍ وضعف لمجمل الحالة الاعتراضية التي نشأت عن ثورة ١٧ تشرين الشعبية. وهو جلّ ما كانت السلطة السياسية القائمة تنتظره، حتى أنها عملت علي إنشائه من خلال التدخل عبر مجموعات منها في الحراك أحياناً، أو بالاعتداء على مجموعاتها، ورفع الشعارات الميليشياوية المذهبية لاعتداءاتها في عملية استدراج تهدف لاستعادة خطوط التماس الطائفية وإغراق البلاد في وحول الفوضى الأهلية.
وهذا ما زاد في تشرذم الحراك، وافتراق مطالب المجموعات إلى درجة عدم الإلتقاء بينها، وضبابية البعض منها. وحتى اختزال المطالب بمطلب إسقاط حكم المصرف وهو ما أثلج ولا يزال يثلج صدر الطبقة السياسية القائمة، فقد بدا منه أنها قد حُيدت وحَيدت نفسها عن كل إمكانية تغيير أو استبدال .
إن التغيير كلياً أو جزئياً لا يمكن أن يجد طريقه الا عبر قوى معارضة ديمقراطية تحمل برنامجاً للتغيير السياسي، ذلك أن المطروح ليس قضايا مطلبية متفرقة للتحقيق أو التعديل، إنما تطور الحراك باتجاه التغيير السياسي الديمقراطي هو الهدف الفعلي.
إن الفوضى التي اجتاحت الحراك وجعلته عبارة عن تحركات وتجمعات وشعارات ضبابية المطالب وإلشعارات… إن هذه وتلك اذا ما استمرت، وإذا لم يتم تداركها بالعودة إلى تنظيم التحركات وإعادتها إلى حراك شامل، بقيادة جماعية ديمقراطية. وإذا لم يتم صياغة برنامج موحد للتغيير السياسي، فان الفوضى وضبابية الشعارات سوف تطيح بأمآل التغيير السياسي الذي وُلد مع حراك ١٧ تشرين، لكنه حتى الآن لم يقوَ عوده، ولم يصبح فتياً وبالتالي قادراً على فرض التغيير المنشود.

Leave a Comment