اقتصاد مجتمع

عيد العمال في الاول من أيار 2023 وتهاوى الاجور والمداخيل: زيادة رواتب القطاعين لحس دم عن مبرد الانهيار وعجز الحكومة

زهير هواري

 بيروت 2 أيار 2023

استقبل عمال وعاملات لبنان عيدهم السنوي في الاول من أيار هذا العام وهم يزدادون معاناة عما سبقه وعاشوه من أعوام. ومن المتوقع أن تكون الأشهر والاعوام المقبلة تصاعدية لجهة حدة الأزمة، طالما أن لا معارضة سياسية ديمقراطية شعبية حقيقية تفرض على الطبقة الحاكمة بشتى مواقعها الرسمية والحزبية والاقتصادية التخلي عن سياسة الترقيع، والشروع في ايجاد حلول فعلية تلجم الانهيار وتفتح الباب أمام معالجات مدروسة. وهو أمر غير متوافر القوى حتى اللحظة، باعتبار أن ما يجري هو مجرد ردود فعل آنية على أفعال أصلية تمارسها الحكومة ومعها المصرف المركزي والمصارف، يضاف إليهم كبار المحتكرين والمهربين.

ولعل آخر ما تفتقت عنه الحكومة هو أقرّارها في 18 من الشهر الماضي زيادة على رواتب موظفي القطاع العام أربع مرات، إضافة إلى الراتبَين المقرّين سابقاً، وعدلت بدل النقل إلى 450 ألف ليرة. كذلك أقرت رفع  الحد الأدنى للأجور في القطاع الخاص إلى 9 ملايين ليرة، وبدل النقل إلى 250 ألف ليرة في اليوم. جاء ذلك على إيقاع حركات احتجاج وتظاهرات قام بها المتقاعدون من الجيش وقوى الامن الداخلي ومعلمي وأساتذة وموظفي القطاع العام. وهي الزيادة التي لم تقنع المحتجين، بدليل مواصلة المتقاعدين تحركاتهم، ومتابعة موظفي القطاع العام اضرابهم المعلن، مطالبين بمعالجات تقي مداخيلهم عواقب الانهيار الذي تشهده منذ سنوات، والذي لا تنفع فيه مثل هذه “التمائم” والتعاويذ، طالما أن سعر صرف الدولار وأسعار السلع يتابعان صعودهما دون حسيب أو رقيب.

وبعيد جلسة الحكومة أعلن وزير الإعلام في حكومة تصريف الأعمال، زياد المكاري، أن تأمين الزيادات على الرواتب سيتم بالاستناد إلى رفع قيمة الدولار الجمركي وعودة عمل مؤسسات الدولة، لا سيما “النافعة”. وترافق ذلك مع معلومات انتشرت عن رفع سعر الدولار الجمركي إلى ستين ألف ليرة ً، على أن تتم مطابقته مع سعر صيرفة في مطلع شهر أيار الجاري.، أي 90 ألف ليرة.

أما وزير العمل في حكومة تصريف الأعمال، مصطفى بيرم فقال إنه “سيعمل على رفع بدل النقل للقطاع الخاص من 250 ألف ليرة لبنانية ليُصبح 450 ألفاً على غرار القطاع العام”. كما أنه تمت مضاعفة المنح التعليمية 3 مرات، و زيادة التعويضات العائلية أيضاً.

الانهيار والعلاج الوهمي

وتثير السياسة التي تعتمدها الحكومة من خلال زيادة الرواتب على هذا النحو علامات استفهام كبيرة حول قدرتها على معالجة الانهيار المعيشي، الذي يعانيه أكثر من 80 % من العمال والمستخدمين خصوصاً والمواطنين عموماً، طالما أنه يترافق دوما مع ارتفاعات صاروخية في أسعار الخدمات والسلع والحاجيات. وهنا نتحدث عن أساسيات، وليس عن كماليات، أو سلع، بات ومنذ سنوات استهلاكها محصوراً بأصحاب الدخول بالدولار الاميركي، أو أولئك الذين أفادوا من الانهيار، وراكموا ثروات كبرى من خلال التلاعب بالنقد بين الاسعار المتعددة في السوق، وبين ما تفرضه المصارف على المودعين من سعر صرف، وسعر منصة صيرفة، وسعر السوق الموازية أو السوداء. وهذه الفروقات التي تأكل من حقوق المودعين تتحول إلى ملايين الدولارات في خزائن كبار المتمولين الذين يديرون العملية برمتها. يضاف إلى ذلك ما تفرضه الدولة والشركات وأصحاب المولدات والتجار من رسوم وزيادات حتى بالدولار. وهذه المرة لم يكن لذلك علاقة بسعر صرف الدولار الذي يشهد جموداً منذ حوالي الشهر والنصف عند حدود الـ 97 ألف ليرة للدولار الواحد. واذا بدأنا مما أقدمت عليه الدولة ومؤسساتها يتبين أن نسبة رفع الضرائب والرسوم خلال الأشهر الأخيرة تجاوزت كل تقدير سابق، فقد إزدادت تعرفة الكهرباء 15 ضعفاً، و تعرفة الخليوي من 15 الى 25 ضعفاً، وتعرفة الإتصالات 10 أضعاف واشتراكات المياه و… وأسعار الأدوية والخبز والمحروقات وغيرها، وهذه كانت مدعومة سابقاً، بما لا يقل عن 20 ضعفاً، وإزدادت الرسوم الجمركية أيضاً بحدود العشرة أضعاف، وهي مرشحة للمزيد، بعد أن بات من المؤكد أن الدولار الجمركي سيتبع سعر منصة صيرفة مع مطلع الشهر الجاري. كل هذا ولم نتحدث عن الاستشفاء الذي ارتفعت أكلافه ليس أقل من 1500% ، ويشمل ذلك الإقامة في المستشفيات والعمليات الجراحية والمستلزمات البديلة وما شابه، مما جعلها خارج قدرة معظم اللبنانيين، الذين باتوا عاجزين حتى عن زيارة الطبيب، والحصول على الادوية الملائمة لأبسط المشكلات الصحية من نوع الكريب وارتفاع الحرارة، وما شابه مما يتعرض له الناس يومياً في حياتهم العادية.

لبنان الاول في أسعار الغذاء عالمياً

وعلى الرغم من تطمينات نقابة مستوردي المواد الغذائية والقول إنه ليست كل السلع المستوردة تخضع للدولار الجمركي كالالبان والاجبان والحبوب والسكر والارز و… ، إلا أن المؤكد بحسب اعترافهم أن أسعار الكثير من المواد سترتفع ما بين 5- 10 % مع هذا التطور، وقد يتجاوز ذلك إلى 15 % ضمن الآليات المسيطرة على الأسعار في السوق . ولا شك أن فلتان السوق وانعدام الرقابة يتكفل برفع أسعار ما لا يتكفل به الدولار الجمركي. وقد بادرت محال السوبر ماركت وغيرها إلى احتساب ما لديها من سلع على أسعار الدولار الجمركي بصيغته الأخيرة. ومثل هذا الرفع المستمرّ للدولار الجمركي، من شأنه أن يؤدّي تلقائيّاً إلى زيادة نسبة التضخّم في أسعار السلع. إذ كشف آخر تقرير صادر عن البنك الدولي أن لبنان يتصدر قائمة الدول العشر التي تعاني من تضخم أسعار المواد الغذائية. لا بل جاء لبنان في المرتبة الأولى عالمياً، بعد أن بلغت نسبة التضخم السنوية 261% كنسبة سنوية للفترة بين نهاية شباط الماضي والشهر ذاته من عام 2022 وبقارق مضاعف عن عما وصل إليه في زيمبابوي التي حلت في المرتبة الثانية بنسبة 128% في أسعار الغذاء (من تشرين الثاني2022 ولغاية شباط 2023) متجاوزاً زيمبابوي، التي جاءت في المرتبة الثانية بمعدل تضخم سنوي بلغ 138%. ورصد التقرير نسبة التضخم في الارتفاع السنوي لجهة التغير في أسعار الغذاء بنسبة 71 % في لبنان تبعته زيمبابوي بنسبة 40% ورواندا بنسبة 32 % ومصر بنسبة 30 % .

وحسب التقرير الذي جاء بعنوان “تزايد إنعدام الأمن الغذائي في العالم”، فإن “لبنان من الدول القليلة حول العالم التي ارتفع فيها معدل تضخم أسعار الغذاء بوتيرة شهرية وبنسب تزيد عن30% في الفترة الممتدة من آذار2022 ولغاية شباط 2023”. أما معدلات اسعار السلع الصادرة عن دائرة الاحصاء المركزي في لبنان ضمن مؤشر غلاء المعيشة، فقد أكدت ما ذهب إليه تقرير البنك الدولي بعد أن تبين لها أنه خلال شهر آذار المنصرم ارتفعت أسعار المواد الغذائية بنسبة تتجاوز الـ 33 % بالمقارنة مع شهر شباط الذي سبقه، وهكذا دواليك.

وبناءً على هذه المقدمات يصبح من المؤكد أن تشهد أسعار مختلف السلع والخدمات مباشرة أرتفاعاً صاروخياً جديداً لم تعرفه البلاد قبلاً، بما يشمل المواد المنتجة محلياً كالخضار والفواكه وبعض الحبوب، ما دامت هذه تعتمد في مراحل إنتاجها على عناصر ومواد مستوردة كالأسمدة والادوية والبذور وقطع الغيار وما شابه من مستلزمات، مع كلفة المحروقات وما تطلقه من ارتفاعات نقل وانتقال وخلافه. بالطبع جاء هذا على قاعدة رفع حكومة ميقاتي الدولار الجمركي للمرة الرابعة على التوالي في أقلّ من 4 أشهر، من 15 ألفاً إلى 90 ألف ليرة، مع ربطه بسعر منصّة صيرفة. ما  يعني أنه قابل للارتفاع تبعاً لوضع سعر صرف الدولار في السوق الموازية. فقد ارتفع الدولار الجمركي من 1500 ليرة إلى 15 ألف ليرة، كمسعى حكومي لرفع إيراداتها لتأمين تمويل موازنة العام 2022، ومن ثمّ إلى 45 ألف ليرة في شهر شبا ط 2023، وهذه المرة بذريعة تأمين التمويل اللازم لزيادة بدل النقل اليومي إلى موظفي القطاع العام والعسكريين والمعلمين، ثم عادت لترفعه  إلى 60 ألف ليرة في شهر نيسان، على أن يُعمل به في الفترة الممتدة من 18 نيسان الى 30 منه. ويربط القرار الحكومي بين سعر الدولار بسعر منصة صيرفة ابتداءً من شهر أيّار الذي دخلنا فيه، في محاولة لتمويل زيادة سلسلة الرتب والرواتب الثانية لموظفي القطاع العام، بعد فشلها في تأمين ايرادات لتمويل الزيادة الأولى، فضلاً عما تبين من تقديرات عشوائية للمداخيل. وهو ما يفتح على أسئلة حول جدوى مثل هذه السياسة، طالما أنها عجزت قبلاً عن اللحاق بقطار التضخم السريع الذي يلتهم الرواتب والاجور والمداخيل.

الرواتب وسياسة لحس المبرد

لاشك أن حكومة تصريف الاعمال من خلال رفع الدولار الجمركي ومضاعفة أكلاف ما تقدمه من خدمات، تعتمد سياسة أخذ أضعاف ما تقدمه من زيادات على الرواتب والاجور. ما يعني الاستمرار بالدوران في حلقة التضخم المفرط.  ومثل هذا الحكم يجمع عليه الخبراء الاقتصاديون ويلمسه العمال والمواطنون الذين يعيشون على رواتبهم.

وزيادة رواتب العاملين في القطاع العام بنسبة 3 أو 4 أضعاف لا يغني عن القول إنها تراجعت بنسبة لا تقل عن 90% أي بنسبة 10 أضعاف على الأقل. من هنا يتساءل العمال والموظفون والأجراء عن الفوائد من الحصول على زيادات وهمية، مقابل خسارة أكثر من ثلاثة أضعاف ما حصلوا عليه. وبالعلاقة مع التجربة السابقة التي حدثت في العام 2017 عندما أقرت سلسلة الرتب والرواتب للقطاع العام يبدو احتمال المزيد من الخسائر في القدرات الشرائية أمراً مؤكداً. وسيقود التضخم المتصاعد إلى امتصاص هذه الزيادة في غضون فترة قصيرة، خصوصاً مع ارتفاع الكلفة الاجمالية لرواتب العاملين في القطاع العام من 12 ألف مليار إلى 26 مليار ليرة ثم إلى أكثر من 80 مليار ليرة، بينما الواردات لا تزيد عن 65 مليار ليرة، هذا في أفضل التقديرات. وهو أمر مشكوك فيه بفعل عمليات التهريب القائمة على قدم وساق حتى من المرافيء الشرعية. إذن ما نشهده قريباً هو المزيد من طباعة الاوراق النقدية التي تفقد قيمتها يومياً إن لم يكن تبعاً لسعر الصرف، فعلى صعيد أسعار الحاجيات التي يشتريها المواطن من السوق، ناهيك بالخدمات العامة. ومن المعروف أن عدد موظفي القطاع العام والعسكريين نحو 270 ألفاً، يضاف إلى رواتبهم بدلات النقل والانتاجية وغيرها من متممات للرواتب والمعاشات التقاعدية. ومن باب الذكر نشير إلى أن وزارة المالية لم تنجز حتى الآن موازنة العام 2023 ما يدفع إلى الانفاق على القاعدة الإثني عشرية التي تُعتمد بموجب القانون النافذ الرّقم 10/2022، وتحديداً المادة 111 منه، والتي تنص على إعطاء زيادة للعاملين في القطاع العام وللمتقاعدين اعتباراً من 1/10/2022، ضعفي أساس الراتب الشهري او أساس الأجر، سواء كان يومياً أو بالساعة أو أساس المعاش التقاعدي من دون أية زيادة مهما كان نوعها أو تسميتها، على ألا يقلّ إجمالي ما يتقاضاه المستفيد، بما فيه راتبه الاساسي، عن خمسة ملايين ليرة، وعلى ألا تزيد قيمة هذه الزيادة مهما بلغ أساس الراتب عن 12 مليون ليرة لبنانية، وهي لا تدخل ضمن المبالغ الخاضعة لاحتساب تعويض نهاية الخدمة.

ولعل الموقف السلبي الذي أعلنه الموظفون والمتقاعدون من هذه الزيادة لا ينبع من مقولة “من جرّب المجرّب كان عقله مخرَّب” فقط، بل باعتبارها مجرد ملهاة عن المعضلة الحقيقية التي تتطلب معالجات في العمق بدل سياسة الإلهاء، والأخذ باليد اليمنى أضعاف ما يعطى باليسرى. إذ إن كل ذوي الدخول المحدودة يلمسون لمس اليد زحف التردي المستمر على أوضاعهم المعيشية، ما ينعكس نقصاً في الحصول على حاجات ضرورية لا يستطيعون تلبيتها في بيوتهم ونفقاتهم الأسرية ومتطلباتهم اليومية، حتى باتت القاعدة المعتمدة في الانفاق اليومي تختصر وجبات الغذاء اليومية إلى وجبتين أو وجبة واحدة.

تراهن الحكومة أن تغطي الاموال التي تحصل عليها من الدولار الجمركي والنافعة والدوائر العقارية وما شابه، المطلوب لدفع الرواتب والاجور، وهو وهم ثبت بطلانه في ظل التهريب والفوضى الادارية والمالية التي تنهش الإدارة العامة. ما يؤكد أن ما أقدمت عليه الحكومة عبارة عن تعمية على عجزها عن القيام بعمليات اصلاح فعلية تطال ذوي الدخول العالية، وأولئك الذين أفادوا من الانهيار لمركمة الثروات من خلال تركز الثروة في أيديهم كقلة قليلة، على أن يترافق ذلك مع ضبط مداخيلها واعتماد سياسة متدرجة تصل في المحصلة إلى وقف انهيار النقد الوطني، كمدخل للدخول في مسار العلاج اللازم للوضع، وتحميل المسؤولين عن هذه الكارثة أعباء ما تسببوا به من خسائر وكوارث للبلاد وللقطعات وللعاملين على مختلف أنواع عملهم.

في عيد العمال لا يملك العاملون وذوو المهن الحرة وكل أصحاب المداخيل المحدودة سوى صلابتهم للتصدي لهذا الاحتيال الذي تمارسه السلطتان التشريعية والتنفيذية ومعهما القطاع المصرفي، والذي يستنزف ما تبقى من دماء في عروقهم.

Leave a Comment