ثقافة

عوالم في فرد

كمال اللقيس

البقاع 30 أيلول 2023 ـ بيروت الحرية
قراءة في بعض أعمال أمين معلوف

بينما نحن ننتقل من استعصاء إلى آخر في متاهة “الهويات القاتلة”، ها هو  امين معلوف يفوز بمنصب الأمانة العامة الدائمة للاكاديمية الفرنسية(٢٠٢٣/٩/٢٨).

لا يملك المرء من امره شيئًا، عندما يقف مشدوهًا عاجزًا، امام العمارة الروائية التي راكمها امين معلوف، محقِقًا بذلك، فرادة  لم يسبقه اليها احد، في رصد البعد الانساني، للنفس البشرية العالقة، بين براثن العبث،  واحتمالات إبداع معادلات اجتماعية قابلة للحياة.

يأخذك معلوف في سِفر تتلبّسه، مستويات الحياة من الأدنى إلى الاعلى، من البسيط إلى المُركّب، فتترنح ثباتًا كأنك تمتص الحانات ولا تسكر.

أن تُترجم اعمال معلوف إلى أربعين لغة معناه، انّك – في مناقشتك رواياته -، تقتحم حقل الغام، فتحاذر الوطء مع كل خطوة، لأنّك تخوض مغامرة، غير مضمونة النتائج.

يستطيع كل متابع لادب معلوف، ان يسجل ثلاث سمات اساسية في اعماله:

ـ الدعوة الصادقة إلى الحرية، والحب والحوار والتسامح الانساني.

ـ البناء الروائي المتقن، ودفق الثراء الشاعري في اسلوبه السردي.

ـ الشغف بقراءة التاريخ.

والشغف بالتاريخ، جليّ في ادب معلوف عمومًا. وأمام كل عمل ادبي، يقف القارئ متسائلًا: “اهذه رواية متخيَلة؟ ام حكاية تاريخية؟ ام هي درس في التاريخ؟”

يشكل التاريخ في ادب معلوف، الفضاء الحيوي، الذي يستقي منه مادته الروائية، ليقدم لنا درسًا هامًا، في اكتساب الحرية والتسامح، في مواجهة الانغلاق، والاستبداد والقمع والعصبيات وضيق الافق،بشفافية، وسرد روائي ممتع.

بناء على هذا الشغف بالتاريخ، استطيع ان اصنف اعماله – موضوع النقاش وغيرها-، في فترتين زمنيتين تاريخيتين، بقطع النظر عن تاريخ الاصدار:

١-الفترة الاولى، تمتد من القرن الثالث الميلادي، حتى القرن الثالث عشر الميلادي (حدائق النور-سمرقند/في قسمها الاول-الحروب الصليبية كما رآها العرب)

٢-الفترة الثانية، تمتد من اواخر القرن الخامس عشر الميلادي حتى تاريخه (ليون الافريقي-سمرقند/في قسمها الثاني-صخرة طانيوس- سلالم الشرق او موانئ المشرق- بدايات-اختلال العالم-التائهون).

تبدأ رحلتنا في بلاد ما بين النهرين، مع “ماني”، تلك الشخصية السمحة، الفنان والرسام، الداعية المبشر بدين جديد رحب،ي تسع لكلّ معتقدات زمنه، الدينية والدنيوية ولا يلغيها، وكان يحلم ببناء معبد واسع، تتسع الصلاة فيه، وبكلّ الحب والتسامح، لكلّ اتباع تلك الديانات. انّها ببساطة، دعوة شفافة جميلة ونقية لدين الحب، دين الحرية، دين الشمس المشرقة، والأرض الخصبة، والماء والشجر، ودين كلّ المحبين.

اي نضال سلمي عنيد قاده “ماني”؟!

لقد استطاع ان يستقطب اتباعًا، في كلّ مكان حلّ فيه، حتى داخل الأُسر الحاكمة المستبدة، لكنّه في النهاية، يموت ببطء، مصلوبًا، امام انصاره ومحبيه. قتلته السلطة التي خافت على مصالحها، من ديانته السمحة، وافق تفكيره الواسع. لذلك، ف”حدائق النور” التي سار اليها “ماني”، تخصّ من عاشوا متحررين من القيود، قيود العصبية والجهل.

تلك هي خلاصة شخصية “ماني”،  رواها معلوف في رائعته “حدائق النور”، كإرهاص لشخصية كانت تتحقق باستمرار عبر التاريخ، خصوصًا في هذا الشرق المحكوم، بانظمة استبدادية، لم تستطع دائمًا، منع ظهور امكانات انسانية حوارية، بين الحاكم والمحكوم، وبين الشعوب بمختلف اثنياتها.

في القسم الاول من رواية “سمرقند”، يتقمص الفيلسوف، الفلكي، والشاعر عمر الخيّام، دور “ماني” في رواية”حدائق النور”، حيث عشق الحرية والحب والعلم، تحكمه الشروط عينها، شروط القوة والعصبية وضيق الافق، لكنّه، ظلّ يدعو إلى الانعتاق، من كلّ ما يعيق تفتح الروح والجسد والفكر، وتبقى مخطوطة عمر الخيّام بعد موته، إحدى نوادر الشرق النفيسة، التي سيبحث عنها الغرب الحديث لاحقًا، ربما كتعويض عن ماديته المفرطة، وقد عبرت “سمرقند” عن هذا، في قسمها الثاني، بتقنية روائية عالية، وبشفافية مذهلة، عندما يغامر شاب أميركي من اصل فرنسي (لوساج)، بالسفر إلى الشرق (ايران)، اواخر القرن التاسع عشر، للبحث عن مخطوطة عمر الخيام الاصلية المخبأة  هناك، وعبر هذه المغامرة، تبدأ المغامرة الاهم، مغامرة اكتشاف سحر الشرق الغافي منذ زمن، ومحاولة يقظته الحديثة لكنْ الخجولة، فقيامة الشرق لن تكون، الّا بلقائه بالغرب، ومع ذلك، فلقاء الشرق بالغرب لن يتم، إذ تضيع الأميرة الفارسية “شيرين”عن نظر” لوساج”، حظة وصولها ميناء نيويورك، بعد ان ضاعت مخطوطة سمرقند، مخطوطة عمر الخيام منهما، في أعماق المحيط ، اثناء غرق الباخرة”تيتانيك” البطيء، في رحلة العودة، بدون ان يحاول “لوساج”، إنقاذ تلك المخطوطة.

…وكي نتعمق في سبر شخصية معلوف الروائية، اتوقف عند كتابه المفصلي،” الحروب الصليبية كما رآها العرب”، الذي اعتبره وقفة بحثية، عبر قراءة تاريخية موضوعية، مع استنتاجات تحليلية لمرحلة زمنية مفصلية، احدثت قطعًا بين زمنين مختلفين، بالنسبة إلى تاريخ العلاقة بين الشرق والغرب، خصوصًا انّها اسّست، لكلّ الصراعات اللاحقة، وبعد قرنين من انتهاء الحملات الصليبية المتتالية ،على الشرق العربي الاسلامي، تمّ الاجهاز نهائيًا ،على مملكة العرب الاخيرة في الاندلس، على غرناطة.

عشية تلك اللحظة التاريخية بدلالاتها الكثيرة، بدأ معلوف بنسج الملامح الاولى للشخصيات، وحبك خيوط الاحداث، لرائعته”ليون الافريقي”حيث نقلنا فيها، عبر شخصية حسن محمد الوزّان (ليون الافريقي)، ذي الأصل الاندلسي، إلى شخصية انسانية اكثر تعقيدًا، في شرطها الحياتي وتركيبها النفسي، فكانت اكثر وعيًا ورغبة، بضرورة تجاوز هذا الشرط، نحو آفاق انسانية اكثر رحابة.

يلخص ليون الافريقي تجربته وحكمته في الحياة، في وصيته لابنه، اثناء رحلة العودة الاخيرة له عبر البحر، من روما إلى تونس فيقول: “مرة أخرى يا بنيّ، يحملني هذا البحر الشاهد على جميع انواع التيه التي قاسيت منها، وهو الذي يحملك اليوم، إلى منفاك الاول، لقد كنتَ في روما ابن الافريقي، وسوف تكون في أفريقيا ابن الرومي، واينما كنتَ، فسيرغب بعضهم التنقيب في جلدك وصلواتك، فاحذر ان تدغدغ غريزتهم يا بنيّ، وحاذر ان ترضخ لوطأة الجمهور، فمسلمًا كنتَ او يهوديًا او نصرانيًا، عليهم أن يرتضوك كما انت او ان يفقدوك، وعندما يلوح لك ضيق عقول الناس، فقل لنفسك أرض الله واسعة، ورحمة هي ويداه وقلبه، ولا تتردد في الإبتعاد إلى ما وراء جميع البحار، إلى ما وراء جميع التخوم والاوطان والمعتقدات”.

إنّ شخصية حسن محمد الوزّان (ليون)، هي شخصية مركبة وأكثر تقنية وامتاعًا، على مستوى  السرد الروائي، كما الرواية عينها.

لقد ارادت شخصية “ليون الافريقي”، ان تنهض بالتعايش من جديد، بعد قرون من الحروب، وما افرزته من حساسيات بغيضة، على ارضية التواصل الحضاري الثقافي، بين الشرق والغرب، بإتجاه افق اكثر رحابة وتسامحًا، فكلّ اشكال القهر والقمع وسفك الدماء البريئة، اجتاحت الشرق والغرب على السواء، لذا يجب ان تُبنى فرصة اللقاء والحوار والمثاقفة، بإتجاه المساحة الانسانية الاوسع، حسب تشكلها الدائم، وفقًا للظروف، فوطن الانسان الحقيقي، هو تلك المساحة فقط ولا شيء آخر.

لا شكّ انها فكرة شفافة، جميلة، وجذابة، تتناسب مع شفافية ذلك الزمن، حيث لم تكن متاحة، إمكانيات التمرد والثورة والتغيير، وبالتالي لم يكن خطابها السياسي قد تشكل بعد، وكذلك تنظيمها الجماهيري العريض، كما حدث في عصر النهضة الحديثة فيما بعد.

يُدخلنا امين معلوف مع رواية”صخرة طانيوس”، إلى المقدمات التاريخية الاولى، منذ الربع الاول للقرن التاسع عشر، لما آل اليه الوضع اللبناني، في منتصف القرن العشرين، هذا الوضع الذي لم يكن يسمح منذ البدء، بتوفر شرط انساني، لابداع الأفراد فيه، وتحقيق ذاتهم المعرفية، الّا من خلال، حرية الزعامات الاقطاعية المحلية، والفئوية الطائفية المتسلطة، التي كانت تتلاعب بمصائر الناس، من خلال اتباعها المتنفذين، لذلك احرقت صنوبر الجبل كلّه، في ثلاثينات القرن التاسع عشر، كما احرقت لبنان كلّه، على مدى سبعة عشر عامًا، من الحرب الاهلية العبثية المجنونة، في الربع الاخير من القرن العشرين.

“طانيوس” هو الابن الشرعي، لمجمل تلك العلاقات السائدة في قريته، وفي جبل لبنان كلّه آنذاك، لذلك ومنذ طفولته، لم يتصالح مع رموز ذلك الوضع غير الانساني القائم. في أعماق “طانيوس”، طهر ونقاء، وفي رأسه توق للعلم والمعرفة، وكسر منطق العالم المحيط به.

في نهاية الامر، يفرض شرعيته على الجميع، بتسامحه وعلمه ومعرفته وجرأته، لكنّها شرعية محكومة، بأن يرث مكانة السيد الاقطاعي (الشيخ) في القرية، لذلك يرفض، يرفض ان يدور الزمن دورته المغلقة، يرفض ان يتحول إلى ركيزة، من ركائز النظام الاقطاعي، الذي كان يمقته على الدوام، فيختفي فجأة عن عيون الناس، ليجلس وحيدًا على ضخرته الاثيرة على قلبه، المطلة على تلك القطعة الضيقة من البحر، والمتمادية إلى الافق كأنها طريق. يختفي حيث تنتظره حريته وحبيبته، وحياته الحقيقية، في ما وراء البحار. هكذا بدأت على ما يبدو، – وللاسباب نفسها، موجات الهجرة الاولى، من جبل لبنان إلى الشواطئ البعيدة، ويكتب جبران خليل جبران فيما بعد، “الأجنحة المتكسرة”، ضد هذا الضيق الخانق، وضد المرجعية الدينية التي تسببه.

ثمة تقاطع واضح بين روايتَي “ليون الافريقي” و”صخرة طانيوس”، مفاده اعتبار الغرب، التجسيد الواقعي للحلم الانساني القديم، للحكمة الجديدة في الحرية الشخصية والحياة السمحة، وبالتالي فالسفر اليه عبر البحار،ه و الحلم الجديد، هو خشبة الخلاص من الاستبداد وضيق العقول في الشرق، لكنْ من دون أن يفقد الاخير سحره الخاص، بشمسه وجباله وسهوله، بتاريخه القديم العظيم باحداثه، وبتحفه ونوادره التي يبحث عنها الغرب، ربما كتعويض عما ينقصه.

تنداح دعوة معلوف المتكررة في رواياته، فتتكثف في رواية “سلالم الشرق” او”موانئ المشرق”، فيتم لقاء الشرق بالغرب على نحو انساني افضل، على الرغم من الحواجز الكبيرة.

هذه الرواية، بالرغم من مستواها الأدبي الرفيع والممتع، وطموحها الانساني الكبير، إلّا انّ دلالاتها الواضحة، تثير بدون ادنى شكّ، حساسية وتساؤلات القارئ العربي عمومًا، ففيما يخص دعوة معلوف المضمَرة – لكنْ الصادقة-، إلى فكرة التسامح والتعايش، مع الآخر الاسرائيلي، عبر بطلَي الرواية الزوجين: عصيان المسلم وكلارا اليهودية،اقول: “انَّ التطبيع بين الانظمة العربية واسرائيل، يرسم خطًا بيانيًا تصاعديًا، – وإن بوتيرة متفاوتة السرعة – لكنَّ التعايش بين الشعبين العربي والإسرائيلي لن يكون،ا لّا بإقامة دولة فلسطينية مستقلة، واقرار حق عودة اللاجئين، وكلّ ما صيغ واستُهلك من شعارات فضفاضة، حول هوية الصراع الوجودية او القومية او الطبقية او الدينية  مع أسرائيل، لا تعدو كونها قنابل صوتية، وخطابًا ديماغوجيًا تضليليًا.امّا الإجابة عن السؤال: “لماذا حصدت القضية الفلسطينية، تعاطفًا انسانيًا عالميًا غير مسبوق، لا من قبل ولا من بعد؟” فأعتقد بانها تكمن – اي الاجابة- في انّ اغتصاب فلسطين، جاء عكس سياق المنطق العام لعصره، فمع بداية النصف الثاني من القرن الماضي، اخذت المستعمرات القديمة تتحرر، تنجز استقلالها، ترسم  حدودها، وتصبح أعضاء في هيئة الأمم المتحدة، ولأنّ بريطانيا كانت – وفق اتفاقية سايكس-بيكو- الدولة المنتدبَة على فلسطين، رعت وغطّت احتلالها، ومنذ الترانسفير الاول في العام ١٩٤٨، وحتى تاريخه، تشهد فلسطين هولوكوست يومية.

لم تعد معضلة العصر، تتعلق بعلاقة الشرق بالغرب،كما طرحها امين معلوف في رواياته عمومًا، وإنما بعلاقة التبعية الكولونيالية، بين الشمال والجنوب، لصالح الشمال حصرًا، وههنا اختلف مع معلوف في مقاربته لهذه المعضلة.

إلى أين سنهرب، يا “ليون الافريقي”: “فيما وراء جميع البحار، إلى ما وراء جميع التخوم والاوطان والمعتقدات”؟! خصوصًا في زمن العولمة اليوم، بنسختها النيوليبرالية المتوحشة، الذي يكثِّف لحظة تحكم المركز العالمي – تقنيًا واقتصاديًا-باطرافه.

امّا اذا كنّا نريد الهروب فعلًا، من انظمتنا الاستبدادية، وواقع الاستلاب الديني، وضيق الافق العام في مجتمعاتنا وحروبنا الاهلية، واستطعنا إلى ذلك سبيلًا كأفراد، هل باستطاعة مجتمعاتنا الهروب، من الشرط التاريخي العالمي الظالم، الذي وضعها فيه سادة الغرب، او سادة ما يسمى اليوم، النظام العالمي الجديد؟

إنّ محاولة كسر هذا الشرط الظالم، يجب ان تبدأ فعلًا بالحوار، حول فكرة التعايش الانساني، لكنّه الحوار العقلاني الديمقراطي الحقيقي، الذي يعترف بما للآخر من حقوق متساوية، وحده المؤهل لذلك، وليس منطق فرض الأمر الواقع.

Leave a Comment