سياسة

إدارة الفراغ بين أحزاب الطوائف ومصالح الخارج والمعارضة المفقودة

زكـي طـه

بيروت 30 أيلول 2023 ـ بيروت الحرية

بانتظار التسوية التي ستقرر نهاية الأزمة الرئاسية المستدامة، تستمر حركة الموفدين إلى لبنان وتتكرر الاجتماعات مع قيادات احزاب الطوائف التي تتحكم بالبلد وتتشارك إدارة الفرغ مع الجهات الخارجية، ويتواصل تحليل ما يصدر ويتسرب على نحو لا يساهم سوى في تضليل اللبنانيين.

وإدامة الأزمة مرده رفض أطراف السلطة المفككة والمتصارعة، تحمّل مسؤولياتها المشتركة، وعدم تقديم أية تنازلات لمصلحة البلد والانخراط في البحث الجاد عن تسوية رئاسية تشكل مدخلاً  للمعالجات الصعبة والممكنة في آن، لسائر أزماته الكارثية التي ساهمت في انتاجها. ولذلك نجدها تمعن في تبادل إتهامات التعطيل، وفي إحالة المسؤولية على الجهات الخارجية، باعتبارها مصدر استقواء لتحصين أدوارها وحماية مواقع نفوذها. وهي الجهات التي تتعامل مع الأزمة اللبنانية، كما مع أزمات المنطقة انطلاقاً من مصالحها أولاً وقبل أي شيء آخر. يؤكد ذلك التقارير والبيانات والمواقف الصادرة عنها. ويعززه أداؤها وممارساتها المختلفة حول مقاربة الفراغ الرئاسي وسائر أزمات البلد والمنطقة على السواء.

ليس مستغرباً أن تستمر أطراف الداخل أو الخارج، في استغلال أزمات البلد وملء وإدامة فراغ السلطة فيه، ودفع اللبنانيين للتكيّف مع مضاعفات الانهيار، والتعايش مع الوضع السائد، بانتظار تبدّل موازين القوى في الداخل أو الخارج على نحو يسمح بولادة تسوية تشكل مخرجاً للجميع. وليس مفاجئاً أيضاً أن يتشارك الثنائي الشيعي وقوى المسيحية السياسية كل من موقعه  تعطيل إمكانية التوصل لتسوية رئاسية، عبر دعوات الحوار الملغوم  والشروط التعجيزية التي يتحصن بها سائر الاطراف.

لا يختلف الأمر  لدى أعضاء اللجنة الخماسية الدولية المعنية بالشأن اللبناني،  بصرف النظر عن بياناتها أو حركة موفديها، وما يصدر عنهم من اقتراحات أو صيغ للحوار أو ما يرشح من اسماء مرشحين. لأن الجميع يدرك أن دور اللجنة محكوم للموقف الاميركي الذي يقتصر راهناً على تمرير الوقت عبر مطالبة المسؤولين اللبنانيين تنفيذ الاصلاحات المطلوبة وانتخاب رئيس. لأن التسوية الرئاسية القابلة للنفاذ مشروطة بموافقة إيران عليها،  وبانتظار ذلك  تدار الأزمة من خلال حركة الموفدين والسفراء، وعبر استطلاع المواقف وإجراء الاختبارات حول ما يطرح من مبادرات أو اقتراحات سواء أتت من الموفد الفرنسي أو القطري. في المقابل يتماهى الموقف السعودي مع توجه الادارة الاميركية. ورغم تعدد قنوات الحوار المفتوحة مع أيران، إلا أن لبنان ليس من أولوياته، ما يعني أن الطرفين الأميركي والسعودي وفي المدى المنظور ليسا بوارد تقديم أي تنازلات لها تكرس نفوذ ودور حزب الله فيه.

وعليه فإن الفراغ الرئاسي وما يقع في امتداده من أزمات، أمام طريق مسدود في الداخل ومقفل من الخارج إلى أمد غير منظور. وما يزيد من خطورة ذلك، ورغم مخاطره الكارثية، أنه بات واقعاً مسلماً به من قبل الغالبية الساحقة من اللبنانيين، التي انكفأت إلى اولوياتها اليومية الخاصة، وتخلت عن مسؤوليتها في الدفاع عن حقوقها المستباحة، وعن السعي لتحقيق مطالبها المشروعة، وفي مقدمتها استعادة الدولة لدورها في معالجة المشكلات وتطبيق القوانين مدخلاً وحيداً لمحاصرة الأزمات القائمة والحد من مفاعيلها السلبية.

لقد شكَّل تكيّف غالبية اللبنانيين مع الواقع القائم، عامل اطمئنان لقوى السلطة وللجهات الخارجية، التي تمتهن بشكل بارع إدارة الأزمة، وادمان تبادل الاتهامات وتقاذف المسؤوليات عن الانهيار بكل أوجهه، وعن استمرارالفراغ والتهرب من تنفيذ الاصلاحات، على نحو لا يساهم سوى في تكريس البلد ساحة مشرعة للمناورات ولتبادل الرسائل في شتى الاتجاهات، ولخوض المغامرات المدمرة. والتنافس على التبشير بها  بالمخاطر الزاحفة وإدعاء البراءة من المسؤولية عنها في آن.

وبانتظار التسوية المنشودة ليس بمقدور أحد معرفة حجم الاضرار البنيوية العميقة والجوهرية التي اصابت اوضاع البلد في شتى ميادين السياسة والاقتصاد وعلى صعيد الاجتماع اللبناني. وفي هذا السياق يتجدد طرح السؤال حول ما تبقى من عوامل وحدة لبنانية مفترضة اصلاً منذ التأسيس، أو ما بقي صالحاً منها للبناء عليه، مما كان قد تراكم على امتداد مائة عام ولم تتم الاطاحة به أو تدميره. والجواب على السؤال مدخل، لكمٍّ هائل من الأسئلة الصعبة حول وجهة معالجة أزمات البلد الموروثة والمستجدة راهناً، وحول مسؤولية اللبنانيين عنها، وسبل استنهاضهم لتنكب مسؤولية انقاذ البلد، بديلاً عن التكيف مع الانهيار والفوضى وانتظار التسويات التي ستُقرر مستقبلهم في نهاية المطاف خلافاً لطموحاتهم.

وما يزيد الأسئلة صعوبة، أن مشاريع الأجوبة عنها سرعان ما تصبح قاصرة عن الاحاطة بها، امام تراكم التطورات والمستجدات وتبدل الاولويات، جرَّاء استمرار التلاعب بالدستور والنظام والقانون، من قبل قوى المحاصصة الطائفية التي تتابع بلا كلل استكمال تجويف كل مؤسسات الدولة وأجهزتها وإداراتها وقطاعاتها، لتغطية وتبرير إحالة وظائفها إلى المافيات التابعة لها، وضمان استمرار دوران اللبنانيين وسط حلقات مفرغة، مع الأزمات التي تتناسل على غير انقطاع، وتساهم في تكريس خضوعهم لسلطان الأمر الواقع الطائفي والفئوي.

لقد نجحت قوى السلطة في ربط مستقبل شؤون الدولة والنظام والدستور وتنفيذ القوانين، بقضايا هوية البلد ودوره ومبررات وصيغة وجوده وتكوينه الاجتماعي. وهي القضايا العالقة على مسرح صراعاتها، تحت راية حقوق الطوائف وطموحات أحزابها التي ساهمت ولا تزال في تعميق الانقسام الاهلي، لتبرير أدوارها، وفي استحضار المشاريع الانتحارية تحت راية الفدرالية، ورسم وتسويق خرائط الفرز والضم، وإعداد صيغ  خيالية لتقسيم اللبنانيين وإعادة تشكيلهم في معازل طائفية. وسط تجاهل تام لأكلافها التدميرية، التي تفوق بما لا يقاس أكلاف وصعوبات البناء على الحقوق والمصالح المشتركة للغالبية الساحقة من اللبنانيين، لإعادة تكوين المجتمع وتنمية عوامل الوحدة من خلال تنفيذ القوانين بالاستناد إلى مبادىء المواطنة والعدالة والمساواة، مدخلاً للمساهمة في إنقاذ البلد وإعادة الاعتبار لدولة القانون والمؤسسات.

ولذلك لم يكن مفاجئاً أن تتعمد بعض القوى التي ترفع شعار وحدة الساحات لتحرير فلسطين، استغلال أوضاع المخيمات الفلسطينية الصعبة ومشكلة السلاح في ايدي فصائلها ومجموعاتها المُدارة، والدفع بها نحو الاقتتال، خدمة لسياسات مرجعياتها الاقليمية،. أما الهدف فهو تعزيز هيمنتها الطائفية وتغطية طروحاتها وممارساتها في مواجهة خصومها، خلافاً للمصلحة الوطنية الفلسطينية واللبنانية في آن.  ولا يختلف حال سائر الاطراف التي تحاول الاستثمار في مخاطر أزمة النزوح السوري إلى لبنان، لطمس مسؤولياتها عن الانهيار  وعن مشاركتها  في الأزمة السورية ورهاناتها عليها وتدخلها فيها، ورفضها تنظيم أوضاع النازحين، بما يتناسب مع مصلحتهم كمواطنين سوريين أو يتلاءم مع المصلحة الوطنية اللبنانية في ظل الأزمات المحتدمة. ما جعل قضيتهم معضلة كبرى وميداناً فسيحاً لكل أشكال التوظيف والاستغلال على نحو يهدد بالانفجار، في ظل استمرار تقاذف المسؤولية عنها بين المجتمع الدولي والجهات المانحة والنظام السوري وقوى السلطة المحلية التي ترفض التعامل معها بمسؤولية، في موازاة انقسام اللبنانيين بشأنها بين من هو مستفيد أو متضرر منها.

لا شك في أن تشابك أزمات البلد ومشكلاته، وتداخل عوامل الانقسام الاهلي مع مصالح الجهات الخارجية المتدخلة، قد ساهم في ترابطها مع أزمات بلدان المنطقة  ومجتمعاتها، التي لا تزال تتلقى نتائج الحروب والنزاعات المدمرة، التي تبقيها في دوائر انتظار موسم التسويات التي ستقرر مصيرها خلافاً لإرادتها ومصالحها الوطنية التي تفتقد من يحملها ويعبر عنها.

وبانتظار التسوية التي تنهي الفراغ الرئاسي، تتابع قوى السلطة خلافاتها من مواقعها الطائفية والفئوية، مطمئنة إلى أن مواقعها وحصصها مكفولة بحده الأدنى، فيما يواصل غالبية اللبنانيين في البحث عن حلول أنية لحاجاتهم ومشكلاتهم اليومية. في المقابل يواصل دعاة التغيير وقوى المعارضة المستقلة،  تغطية عجزهم عن توحيد قراءتهم لأزمة البلد وسبل معالجتها، وعن تشكيل صيغة الحد الادنى للتنسيق فيما بينهم لإستنهاض قوى المجتمع المتضررة من أجل استعادة دورها وإحياء مؤسساتها مدخلاً وحيداً للانقاذ. وذلك من خلال متابعة تحليل وقراءة حركة الموفدين والسفراء القابلة دوماً لشتى التأويلات.

Leave a Comment