اقتصاد

رفع سعر صرف الليرة من سحوبات المودعين: “مورفين” مهديء يفتح على مزيد من الانهيار

عماد زهير

رفع المصرف المركزي سعر صرف الدولار الاميركي من 3900 ليرة إلى 8000 ليرة بموجب تعميم أصدره الأسبوع الماضي. وما إن أعلن المصرف قرراه هذا محدداً سقف السحوبات بـ 3000 دولار اميركي للحساب الواحد، حتى قفز سعر صرف الدولار في السوق الموازية إلى حوالي الـ 26 ألف ليرة، متخطياً السعر الذي كان عليه قبلاً. ويبدو أن مثل هذا القرار جرى اعتماده لتحريك الأسواق التجارية على عتبة عيدي الميلاد ورأس السنة، معطوفاً على ما سبق وصارت إليه سحوبات المودعين التي باتت حوالي سدس قيمتها الفعلية في السوق. أي إن المواطن الذي يحصل على معادل دولاراته يخسر حوالي 5/6 من قيمتها الفعلية. ما أدى إلى ضائقة معيشية طالت في المقام الأول صغار المودعين الذين “آمنوا” بالنظام المصرفي الذي عمل جاهداً مدعوماً من المصرف المركزي والسلطات السياسية على تعويض الخسائر التي أصيب بها من حساباتهم وتعبهم. ومع أن القرار أدى إلى ارتفاع قيمة معادل الدولار بالليرة إلى حوالي الثلث من قيمته الفعلية الا أن بيت القصيد في مكان آخر.

يكمن الخطر في موضوع رفع سعر صرف الليرة بالتوازي مع الدولار المصرفي في العديد من المسائل التي ستنقلب عكس ما أريد لها. ومن أوليات الامور المطروحة هو زيادة نسبة التضخم في البلاد من خلال زيادة حجم الكتلة النقدية. ومن المعلوم أن هذه الكتلة كانت قبل تمادي الانهيار حوالي خمس مليارات ليرة لترتفع في غضونها إلى حوالي 40 مليار ليرة. وقد اعتمدت السلطات السياسية والمالية و المصرف المركزي سياسة طبع المزيد من الأوراق المالية، ودفعها إلى السوق من دون أي تغطية بالانتاج الخدماتي والصناعي والزراعي والتحويلات المالية التي ترد من اللبنانيين المهاجرين، الذين خسروا على الأغلب ثرواتهم خلال سنوات هجرتهم إلى ديار الاغتراب، وفقدوا الثقة بالنظام المصرفي والمالي. ولا شك أن قذف كتلة إضافية من الأموال تقدر على الأقل بضعفي ما هو متوافرالآن إلى السوق سيضاعف من إلتهاب الأسعار، ليس فقط على صعيد أسعار المحروقات (مازوت وبنزين وفيول أويل وغاز منزلي)، بل على مختلف السلع وبالأخص الأساسية كالأدوية والمستلزمات الطبية والمواد الغذائية وما شابه.

ومن المعروف أن سعر دولار السوق السوداء مرتبط بعلاقة وطيدة مع دولار المصارف، فما إن يرتفع الأخير، حتى تقفز أسعار السوق، وهو ما يؤكّده الخبير الاقتصادي لويس حبيقة، خصوصاً وأن “مشكلتنا حالياً ليست بين ليرة ودولار، وإنما المشكلة سياسية واقتصادية وفساد”.

ويرجّح حبيقة أن يكون قرار سلامة متماشياً مع الرغبة السياسية في تجميل الصورة قبل موسم الأعياد. وبالتالي “السماح للمودعين بالاستفادة من بعض الزيادات لشراء الحاجيات، خاصة وأن أسعار السوق لن ترتفع فجأة. ما يزيد من القدرة الشرائية للمودعين”، فأسعار السلع ما زالت تدور في فلك سعر صرف السوق السوداء، أي بنحو 25 ألف ليرة، وما قد يشتريه المودع في حال سحب مبلغاً مالياً على سعر 3900 ليرة، سيتضاعف فيما لو سحب المبلغ نفسه على سعر 8000 ليرة.

لكن هذا التجميل آني ومجرد أبرة مورفين مهدئة. ويتوقع حبيقة ارتفاع سعر صرف الدولار في السوق السوداء إلى 40 ألف ليرة بعد الأعياد، أي مع بداية العام المقبل “إلاّ إذا حصلت متغيّرات إيجابية في لبنان، على صعيد السياسة والاتفاق مع صندوق النقد، وهذا أمر غير واضح”. لكن خبراءً آخرين يتوقعون تصاعداً مضاعفاً عما أشار إليه حبيقة، دفع ببعضهم للقول إن سعر صرف الدولار قد يتجه قريباً نحو المائة ألف ليرة لبنانية للدولار الواحد. في ما ذكر أحدهم أن سقف صعود سعر الدولار هو السماء.

الخطورة الموازية تتمثل في خسارة الأجور والرواتب المزيد من قيمتها، بفعل هذا التضخم. وهو أمر مؤكد باعتبار أن الأجور التي تدهورت قيمتها الفعلية، وبلغ الحد الأدنى منها أقل من 30 دولاراً ستتابع رحلة تراجعها، ما ينعكس مزيداً من الضائقة على ذوي االأجور المحدودة. والذين لم تنفع “الهدايا” وزيادة بدلات النقل في إنقاذ أوضاعهم الكارثية. وهو ما ينعكس على مجمل قطاعات الاستهلاك بما فيه المنتجات الزراعية كالفواكه والخضار التي باتت كل أكلافها مدولرة ( بذور، أسمدة، أدوية زراعية وصناديق وتمديدات للري والآت نقل وفلاحة). لكن الكارثة الأفدح هي التي ستطال العاطلين عن العمل. ومع أن التقديرات تتباين بشأن عدد ونسبة هؤلاء الا  أنها تقدر بحوالي 40 % من عديد الأيدي العاملة اللبنانية التي تتعرض للصرف، نتيجة تراجع الإنتاج الصناعي وانهيار قطاع الخدمات برمته. وخلافاً للسائد عن استبدال العمال اللبنانيين بعمال غير لبنانيين، فالواقع أن الطاقة الإنتاجية للمؤسسات تتراجع بفعل الجمود الذي يسيطر على الأسواق، وعجز المواطنين عن الحصول على حاجياتهم بسعر يتلاءم مع قدراتهم الشرائية. وهو ما ينطبق على المتعيشين من عمل يومي كالسائقين وباعة المفرق والعاملين على القطعة ومن ينضوي ضمن هذه الفئة.

لا يمكن وصف قرار المصرف المركزي بأنه خطوة على طريق استعادة العافية الاقتصادية. فالواقع أن الطبقة السياسية – المالية لا تقدم بإجراء من هذا النوع أي رؤية متنورة لمدى عمق الأزمة التي تتخبط بها البلاد، والتي لا يمكن أن تعالج على هذا النحو. إذ إن عمق الانهيار وشموله لا يبدأ من زيادة كمية الكتلة النقدية في السوق، بل من خلال البحث الجدي في الأسباب والعوامل التي قادت البلاد إلى المصير الأسود الذي تتخبط فيه. ومع أن معظم العناصر المقرِّرة هي سياسية، وتتطلب معالجات على هذا المستوى، الا أن رفض أي من أطراف سلطة المحاصصة تقديم ولو حداً أدنى من التنازلات يقود إلى خلاصة تعب الخبراء والمحللون الاقتصاديون من تردادها. والتي تقول إن سياسات من النوع المعتمد من شأنها تعميق الهوة التي ينحدر إليها الوضع الاقتصادي – المالي، ومعه الأوضاع الاجتماعية – المعيشية. واذا كانت الحكومة لا تجتمع ولا تتخذ أي قرار من شأنه مقاربة مدروسة للاوضاع المتفاقمة لأسباب معروفة بعد اصرار الثنائي الشيعي على موقفه من قاضي التحقيق في جريمة المرفأ، ورهن عودتها إلى مجلس الوزراء بـ” قبعه”، ودون أن تظهر معالم حلحلة في الأفق. وهو ما يسقط في يد رئيسها وبطانته الذين يعمدون إلى نشر إدعاءات التفاؤل بالفرج على كل مفترق.  ولا يقل المجلس النيابي انعدام القيام بمسؤولياته عما آلت أوضاع السلطة التنفيذية وعجزها هن إدارة شؤون البلاد نتيجة المتاريس السياسية المنتصبة على كل قارعة طريق. والدليل الأبرز على مثل هذا القول هو ما شهدته جلسة المجلس النيابي الأسبوع الماضي لمناقشة مسوَّدات مشاريع الكابيتال كونترول. والواقع أن المجلس عقد جلسته الثلاثاء الماضي وأمامه ثلاث مسوَّدات للكابيتال كونترول. أحدها دفعت به أمامه الحكومة مصحوباً بإدعائها أن ما تقدمه يحظى بموافقة وتأييد صندوق النقد الدولي. وهو ما تبين خلافه تماماً لدى التدقيق في تفاصيله. لجان الإدارة والعدل بدورها كانت قد أعدت مسودة هي الأخرى. أما الثالثة والأخيرة فمن وضع لجنة المال والموازنة النيابية. واذا كان من البديهي القول إن السلطتين التشريعية والتنفيذية قد تأخرتا في دراسة موضوع الكابيتال كونترول من أساسه، بعد أن “ضرب من ضرب وهرب من هرب” فالمؤكد أن المشاريع الثلاثة تبدو معلقة في الهواء. أما سبب ذلك فلأنها منفصلة عما هو أهم، بما هو خارطة طريق فعلية لعودة القطاع المالي للإنتظام، ورفع القيود عن السحوبات والتحويلات بشكل متدرج بعد التدقيق في أوضاع ميزانيات المصارف والمصرف المركزي وديون القطاع العام،  كضرورة للقيام بعملية إعادة الهيكلة المطلوبة من جهة. ومن جهة ثانية ربط القيود على حركة الأموال بعمليّة توحيد أسعار الصرف ومن ثم تعويم السعر الموحّد الجديد. أي أن المسوَّدات الثلاث لم تأت ضمن منطق القيام بخطوات متتابعة للخروج من مسار الأوضاع السائدة، ما يسمح بالخروج من القيود المصرفيّة أولاً، ومن ثمّ التحكّم بشكل مدروس بعمليّة توحيد أسعار الصرف وتعويمها من خلال أدوات التحكّم بالسيولة التي ينص عليها القانون الجديد من جهة ثانية، وبالتوازي مع استعادة النظام المالي لقدرته على جذب التحويلات بالاستفادة من الضمانات والتدابير التنظيميّة التي سينص عليها القانون بخصوص الأموال الجديدة والقديمة.

عليه، لا يمكن وصف تعدد المشاريع هذا بأنه مصادفة، أو مجرد نتيجة لتعدد المرجعيات المعنية ، بقدر ما هو نتيجة الحرص على تقديم المزيد من التغطية للقطاع المصرفي الذي تواطأ مع أصحاب القرار التنفيذي والتشريعي على تهريب أموالهم إلى الخارج. وسعى جهده للتعمية على المتسبب الفعلي بالأزمة بما هو الإدارات المتعاقبة التي أنفقت بسخاء على مشاريع صبت في جيوب كبار المستثمرين والمقاولين المرتبطين بهم. وعند وقوع الواقعة لم تجد سوى أموال المودعين لنهبها وإعطائهم” أذن الجمل” والحصول على كامل جسمه لخدمة مصالح شراكاتهم . وهنا نتحدث عن حوالي 800 ألف مودع وليس حفنة صغيرة تعد بالمئات فقط . أما المعضلة التي حالت دون القدرة على الوصول إلى مشروع واحد أو مسوَّدة موحدة،  فتتعلق بنوعيّة القيود المفروضة على الاحتياطي الإلزامي، وحجم الصلاحيّات التي يملكها مصرف لبنان في تحديد سقوف السحب، وصلاحيّات القضاء في ملاحقة المصارف، بالإضافة إلى سقوف التحويلات الاستثنائيّة بالعملة الأجنبيّة. ويظل الأهم هو كيفية الخروج من المأزق العام المتداخلة أسبابه بين السياسية والاقتصادية، طالما إدارة طبقة المحاصصة السياسية تتابع عملية استخفافها بمصالح اللبنانيين ومصير اقتصادهم ومعاشهم.

 

Leave a Comment