ثقافة

رحيل الكاتب والباحث في التاريخ والثقافة الشعبية فرج الله ديب أزعج حراس “أرض الميعاد” وانقلب على مسلمات التاريخ

أحمد بزون  

كأن بسمتك التي كانت تشرق في عيوننا كل صباح أزهرت في عالم آخر! ونظرتك الساخرة من خلف النظارتين حفظناها في القلب والعقل! ثم لماذا انطفأ تمردك المحبب الذي كان يعطينا درساً في الجرأة! وكيف أسلمت الحياة التي أحببت ورودها حتى الرمق الأخير، وارتميت في هذا النعاس الطويل. لمن أهدي كل صباح الوردة تلك التي كانت تتسع لها عيناك، والزهرة التي ترطب أنفاسك.

هذا الرحيل ليس لك يا صديقي، وهذا السكون لم تطقه يوماً، وتلك البرودة في أصابعك كنت تشقها بقلم، ولم يتثاءب الوقت ساعة بين يديك. أسفي عليك، ربما نسيت الكتب خلفك، ونسيت أن تأخذ معك الحبر، وتعجلت قبل أن يصعد الضوء إلى جبينك. واأسفي، باغتك السواد حتى نسيت أن ترفضه، مع أنك كنت صريحاً حتى شرر العينين في رفض ما لا تحب، وقاسياً على من لا يحمله رأسك، تصدّ جيش أفكار لا تعجبك. واأسفي، كيف تحوّلْتَ إلى صورة نستنطقها كي نتذكر قصائدها الحنونة.

لم يكن فرج الله ديب يفلت الزمن يوماً، فهو لم يعايش يومه وحسب، إنما أمسك التاريخ أيضاً، من أول الخليقة حتى ما تراه العين وتسمعه الأذن، أعاد حراثته ببصيرة ثابتة، وسرح فيه أفكاره حتى نعِمَ ملمسه، منذ الجاهلية الأولى والحضارة الأولى، حتى آخر أحلام المستقبل، ومن أول الأديان حتى آخر صيحات التطرف الدموية، لا يتعب من السباحة عكس التيار إذا اقتضت الحاجة، يتلذذ برفض المسلمات إذا استفزته، وبالدفاع عن وجهة نظره عندما يتمكن منها. هذا ما فعله مع إبداع كمال الصليبي في “التوراة جاءت من جزيرة العرب”، الكتاب الزوبعة الذي شغل به الصحافة الأجنبية عندما صدر بالإنكليزية، والصحافة العربية عندما صدر بالعربية عام 1985. ولأن زميلنا فرج الله أعجب بإضاءات الصليبي، دافع عنها بشراسة، فكتب مقالات عدة عنها في مجلة “بيروت المساء” التي تزاملنا فيها سبع سنوات، بل فاض اندفاعه على مجلة “الفكر العربي” أيضاً، وأضاف إلى نظرية الصليبي استعانته بالنص التوراتي، ثم بالثقافة الشعبية المستنبطة من هذا النص. وقد كانت المعركة حينذاك حامية بين رافض بقوة وموافق بانبهار على النظرية الجديدة. وكان فرج الله، أساساً، مقتنعاً بأن التوراة جاءت من جزيرة العرب، بل أصر فيما بعد أنها جاءت من اليمن تحديداً.

ولليمن حكايات أخرى في كتابات صديقنا، وقد سخّر قلمه للكتابة عن تاريخها، فخصها بما لا يقل عن خمسة كتب من أصل 14 كتاباً، هي مجموع إصداراته التي ختمها عام 2012 بكتاب “اليمن وأنبياء التوراة”، كشف فيه عن مسرح أنبياء التوراة في اليمن، ورفض أن تكون آثار فلسطين دالة على ما جاء في التوراة، مستنداً في رفضه على الأدلة التي ترتكز على أسماء الأماكن والعشائر والأشخاص وقواميس اللغات. حتى أورشليم أكّد أنها يمنية، وبهذه وتلك من النظريات التي كتبها فرج الله ديب كان انقلابياً بامتياز، لا لهوى في النفس، إنما لتدفق المعارف المغايرة التي اكتنزها، فكأنما كان بكتاباته يجري جراحة جديدة للتاريخ، وها هو يرى ما يفاجئ القارئ، أن العربية هي اللغة الأصلية لليهود، فالشرقيون منهم تحدثوها إلى جانب الآرامية، أما النص العبري فلم يثبُت إلا بين القرنين التاسع والعاشر الميلاديين. ويرى ديب أن أرض فلسطين خالية من أي اسم لقرية او مدينة او خربة ذات سمة “عبرية” قبل إطلاق التسميات الصهيونية الحديثة، وأن ادعاءات الصهاينة بأن فلسطين هي “أرض الميعاد” باطلة جملة وتفصيلاً.

ورغم ذلك، لا يشطب الكاتب التوراة كمرجع تاريخي ولا هو يرذل نصه. لكنه في المقابل ينتبه الى غياب لفظ عبري او عبراني في القرآن الكريم، ويعتبر لفظتي عبران وكنعان مصطلحين يدلان على التناقض في نحلتي العيش للبدوي الجوال العابر والمزارع الثابت الكانع، لا على الاختلاف في العرق واللغة والدين. كذلك يعتبر الفينيقيين بحارة يمنيين أصلاء، طوروا حضارتهم بالانتشار. وعزا انتشار اللغة العربية في اللغات الأوروبية، إلى أن الحضارة العربية كانت تنتقل عبر الفينيقيين، فالفينيقيون العرب نقلوا، خلال ثلاثة آلاف عام قبل الميلاد، الحضارة واللغة العربيتين الى أوروبا التي كانت وحشية في ذلك الزمن.

يستعين صديقنا في تقديم حججه باللغة مرة وبالأثر الحجري والكتابي واللغوي الأبجدي واللهجي مرة ثانية، وبكتب المؤرخين التي يعمل كثيرا على غربلتها وأخذ ما يتوافق معه منها، وردِّ ما يتعارض مع هدفه على أعقاب المؤرخين المعنيين ثالثة. وهو في مواجهته مع المؤرخين لم يتبع أسلوب “قل كلمتك (أو نظريتك) وامشِ”، إنما تقصّد التوقف عند كل صاحب قول مغاير، بالتعليق والاعتراض وأحيانا بالتقريع، وقد أزعج ذلك خاطر حراس المسلمات التاريخية الآسنة.

كانت كتابة فرج الله ديب، بمعنى ما، مستفزة، بل يكتب أحياناً لأن هناك آراء استفزته، مثل رأي فؤاد أفرام البستاني الذي كان يقول “لا توجد أي قرية أو مدينة على الساحل اللبناني ذات تسمية عربية”. وربما كان كتاب ديب “اليمن هي الأصل” رداً على مثل هذه المقولات التي تزوّر تاريخ المنطقة، إذ أعاد التسميات تلك إلى جذورها اليمنية. ثم كانت كتاباته في التراث الشعبي تؤكد التشابه الثقافي بين بلاد الشام.

كان يعمل على كسر التاريخ السائد، لا لأنه يهوى الكسر، إنما لأنه يدرك أن الكثير من التشوهات ظهرت على وجه التاريخ الذي كُتب لنا. واختار لتصويبه الدخول من باب الثقافة الشعبية لبلاد الشام، معتقدات وطقوساً وآداباً وغناء ولهجات وأزياء، قبل أن ينكشف أمامه اليمن بتاريخه الثري، ويبحر في بحوثه نحوه، وتظهر تحت مياهه كل المسالك والشِّعاب والآثار والثقافات، وتصبح اليمن قبلته في الإجابة عن الأسئلة الصعبة، بل وجد في التنقل بين مضارب ثقافتها متعة. كنا نلتقي كثيراً في تلك الفترة، وفي كل لقاء يسرد عليّ اكتشافاته الجديدة، بعد أن يسلم عليّ قائلاً: “كيفك يا رجل”. حتى أن لقاءاتي به في “بيروت المساء”، وفي المنزل حيث كنا حينها متجاورين، باتت تحفزني على قراءة التاريخ أكثر من ذي قبل، وخصوصاً ما أجده من كتابات عن اليمن تسعفني في النقاش معه، كي أتوازن بعض الشيء، أمام دفق المعلومات التي كان يحصلها بين لقاء وآخر.

كان أبو خلدون يعلم أن عدداً من المستشرقين سبقوا الصليبي في اكتشاف أن الجزيرة العربية أرض التوراة، إلا أنه ذهب مع صدمة الصليبي حتى النهاية، ودافع عنها بصلابة، كما ذكرنا، غير أنه عندما اكتشف ما يعدّل رأيه، بعد قراءته كتاب حمزة علي لقمان “القبائل اليمنية”، لم يبقَ إزاء رأيه، فراح يبحث عن مسرح جديد للتوراة هو اليمن كما قلنا، وأثبت أن أورشليم ما هي إلا مدينة يمنية، وقد أُسقطت على القدس زوراً وبهتاناً، وأن قبور أنبياء التوراة موجودة في اليمن بحسب ما ورد في آخر كتبه الذي سبق ذكره.

كان أبو خلدون (الكنية التي كان يحب أن نناديه بها) مهتمّاً، بعد كتابه “المسيحية والمسيحيون العرب”، البحث في السيرة المحمدية، إذ كان يعتقد أن السير الموجودة فيها الكثير من الأخطاء، كونها كتبت بعد مئتي سنة على النبوة، وبلغت الأحاديث ثلاثمئة ألف حديث، كما قال لي في حوار أجريته معه لجريدة “السفير” عام 1994… لكن ذلك لم يحدث، ربما لتعقيدات الوضع السياسي الذي نعيشه، وغياب الحريات، لاسيما حرية التعبير عن الرأي. وربما لأنه لم يحصد من الإعلام مقدار ما زرع.

ثم إن أبا خلدون لم يكن في السنوات العشر الأخيرة متحمساً لشيء، خصوصاً بعد فقدانه لزوجته التي لم ينقص حبه لها، منذ التقيا على مقاعد الجامعة العربية في بيروت، وبعد خروج ابنيه خلدون وبشار وابنته رشا من منزل العائلة، ليكوّن كل منهم أسرة له في لبنان وخارجه. ناهيك عن انهيار لبنان الاقتصادي والسياسي، بسبب أيدي الزمرة الحاكمة السامة… كل ذلك كأنما فقد حماسته للكتابة. كان يقرأ وحسب، ويتكلم معي كأنه خارج لتوه من حمّام يأس وإيقاع هزيمة. وفي زمن العهر السياسي وتشويه صورة الوطن وتاريخه وحاضره، والشلل الذي أصاب العروبة التي تربى على التمسك بها، بات الكلام في السياسة يستفزه، ويهز أعصابه، فيشتم ويشتم حتى تجف الشتائم في فمه، قبل أن يعود لبسمته المؤنسة وروح النكتة، بل بات ربيع الكلام معه يزهر عندما أسأله عن الأبناء والأحفاد، فينسى السياسة والسياسيين ومزوري التاريخ والجغرافيا، ويتحدث باعتزاز ورضى وحب، هو الحنون حتى تدفق الدمع، المحب حتى الرمق الأخير، المحبوب من كل من عرفه أو قرأ له، المخلص لتاريخه وأصدقائه بلا ريب.

نم يا صديقي، لن يزعجك أحد بعد اليوم، تراب القرية دافئ، وجذور الشجر سوف توشوش يديك المسبلتين، فاحتضنها، وشد عليها، فسوف تسلّم لك على الأغصان وأعراس العصافير فوقها، وترشدك إلى أصدقاء سبقوا وأصدقاء يلحقون.

إنه الجنون أن تزهر في الأرض ثم يصرعك العمر، أن تجري نهر معرفة ثم تجف كورق الصفصاف وتسقط. لكننا سوف نتكئ على اسمك وكتبك وصوتك وورودك الجميلة، ونبتسم كلما تخطر رشيقاً مع نسمة آتية من جهة الجنوب وجنوب الجنوب.

Leave a Comment