سياسة

لا مبالاة السلطة وانتظارية المعارضة واحتدام الصراع في المنطقة

زكي طه

في رسالته الوداعية بعد انتهاء خدمته في لبنان، صارح السفير البريطاني اللبنانيين بالقول: “في لقاءاتي مع السياسيين والمصرفيين، يبدو أن معظمهم لا يريد تقبل أنّ على لبنان القيام بكل ما هو مطلوب من اصلاحات من أجل الحصول على حزمة إنقاذ دولية.. الإصلاح اليوم، هو المفتاح لحل مشاكل لبنان الاقتصادية.. لم يكن اتخاذ قادتكم للقرارات الضروريّة أكثر أهمية من أي وقت مضى، مهما كان ذلك صعباً.. هم مدينون لكم بتقديم حوكمة وشفافية ومساءلة أفضل.. يجب أن تتفوّق المصلحة العامة على المصلحة الشخصية..على لبنان اعتماد القوانين اللازمة، وفتح الدفاتر من دون شروط مسبقة، وإعادة ضبط القطاع المصرفي.. البديل اتخاذ المزيد من التدابير اليائسة من أجل البقاء”.

كرر سفير المملكة المتحدة رأي من سبقه في تمثيلها، وما صرح به الكثيرون من  سفراء وموفدين ومسؤولي الدول الأخرى، عندما حمّلوا الطبقة السياسية الحاكمة كامل المسؤولية عما آلت إليه أوضاع البلاد. وهي الطبقة التي يتصرف أركانها بلا مبالاة باتت مدعاة استغراب واستهجان عالميين، ومقياساً دولياً لتحديد مستويات فساد الحكام والمسؤولين في دول العالم.

ليس مفاجئاً أن تستمر مرحلة إضاعة الوقت والتلهي من قبل حكام البلد بحثاً عن صيغة تأليف الحكومة العتيدة، التي بات مرجحاً وفق كل المؤشرات أنها لن تتشكل في الوقت المتبقي من ولاية عهد “ما خلونا”، الذي يتقاسم مع سائر أركان السلطة ممارسة كل ما هو متاح لهم من منوعات التعطيل وتبادل الشروط، واعتماد كل الممكن من أشكال الابتزاز والاستهانة بمصالح البلد وحقوق اللبنانيين، الذين يغرقون في مستنقع الأزمات والانهيارات التي لم تعد ترحم الغالبية الساحقة منهم. إضافة إلى استغلال سائر الملفات المتفجرة للتغطية على أدائهم وتبرير ممارساتهم في الصراع على السلطة. آخذين بنظر الاعتبار أن تأليف الحكومة ودورها موصولان باستحقاق انتخابات رئاسة الجمهورية بعد اسابيع قليلة.

وبصرف النظر عما يجري وما هو رائج من طروحات وتحليلات بشأن الاستحقاقين، وما هو متبادل من مواقف معلنة من قبل اركان الطبقة  السياسية الحاكمة والمتصارعة في آن. وبغض النظر عما هو مدرج من ملفات وقضايا قيد البحث أو التفاوض، سواء تعلق الأمر بما يروج له من اصلاحات لن ترى النور، أو ملف ترسيم الحدود البحرية واحتدام السجال بشأنه، واستغلال الملابسات المتعلقة بخط الحدود الدولية والموقف من الوساطة الاميركية  المنحازة لاسرائيل، ومرجعية القرار اللبناني حولهما. وتوظيفهما أولاً في الصراع الداخلي حول الحكم والحكومة والرئاسة القادمة وفي مختلف شؤون البلد وأوضاعه، واستعمالهما ثانياً ورقة  في الصراع المحتدم محلياً وإقليمياً حول هوية وموقع لبنان ضمن الاطار الإقليمي والعربي تحديداً.

وفي هذا السياق من الواضح أن موقف الحزب بالوقوف خلف الدولة، يطعن به عدم اعترافه بوجودها أصلاً. وهو ما يشكل مستندا لتبرير وجوده ودوره وسلاحه وتحكمه بأوضاع البلد والحكم. ما يجعله الدولة الفعلية التي تقرر منفردة سياسات البلد ومصالحه بمعزل عن الآخرين. ولذلك كانت مسيّرات حزب الله فوق المياه اللبنانية الاقليمية التي اسقطها  العدو الاسرائيلي باعتبارها تمثل تطوراً نوعياً في الصراع معه، رغم أنها لم تخالف قواعد الاشتباك المعمول بها معه. وهي المسيّرات التي أطلقها الحزب وسط تسارع التطورات المحلية والاقليمية في المنطقة، وتصاعد حدة الصراع  الدولي فيها وعليها، في ظل إدارة أميركية متدخلة  على نحو معلن وصريح في التعبير عن سياساتها وأهدافها لضمان مصالحها. خاصة في أعقاب الحرب الروسية الاوكرانية ومضاعفاتها على صعيد أزمة النفط والغاز  وحاجات الاسواق الاوروبية والاميركية لهما، في مقابل أزمة الغذاء التي يتم تجاهلها باعتبارها تتعلق بحياة ومعيشة مجتمعات البلدان والشعوب الفقيرة.

وفي السياق تأتي جولة الرئيس الاميركي للمنطقة من بوابة الحليف الاسرائيلي دعماً له، ومن أجل معالجة الخلل في العلاقات الاميركية السعودية التي مهد لها ولي عهدها بزيارة كل من مصر والاردن وتركيا. وهي الجولة التي تستهدف استكمال حلقة التطبيع مع اسرائيل بذريعة مواجهة سياسات النظام الايراني في المنطقة، وتصعيد الضغوط عليه في إطار محاولات دفعه لتوقيع الاتفاق النووي وملاحقه المتعلقة بسياساته الاقليمية.

وفي موازاة ذلك أتى الاعلان عن القمة بين رؤساء روسيا وتركيا وايران الاسبوع القادم في طهران، لتنظيم تشابك المصالح ومناطق النفوذ بين الدول الثلاث في الميدان السوري، والحؤول دون الاخلال بالتوازنات القائمة على نحو فادح لمصلحة تركيا، والسعي لاضعاف الدور الاميركي في سوريا، والحد من الضربات الاسرائيلية لمواقع النفوذ الايراني فيها.

وعليه، فإن الاستهدافات المرجوة من التحركات الراهنة تستند إلى مصالح سائر الاطراف. وما إعادة خلط الأوراق فيما بينها سوى انعكاس لمستويات التداخل على نحو مترابط بين المحلي والاقليمي والدولي من الازمات القائمة، ومن ملفات القضايا التي تمس حياة ومصير مجتمعات المنطقة دولاً وكيانات.

ومع احتدام الأزمات والصراعات وتشابك ساحاتها، من المبكر الحديث عن تسويات راهنة حول أي من قضايا المنطقة وفي ساحاتها المتفجرة. لأن الأمر مرهون بما سيؤول إليه ملف العلاقات الاميركية الايرانية، الذي شكل قبل اكثر من اربعة عقود، مع اندلاع الثورة الايرانية، نقطة تحول جذرية في مسارات أوضاع المنطقة، غيرت من طبيعة أزماتها ووجهة صراعاتها الاقليمية والاهلية. لم تنج إيران من مضاعفات الاستبداد الداخلي ومن تداعيات سياساتها الخارجية، ومحاولات الهيمنة وتوسيع نفوذها عبر التدخل في أوضاع بلدان المنطقة وتزخيم مشكلاتها البنيوية، خاصة في سوريا والعراق واليمن ولبنان وغيرها. هذا عدا المفاعيل الخطيرة  لسياساتها، التي شكلت خدمات مجانية لصالح العدو الصهيوني وتسهيل محاصرة القضية الفلسطينية بالتطبيع العربي الاسرائيلي المتسارع، بذريعة مواجهة الخطر الايراني.

استناداً لما ورد، لا شيء يدعو أركان الحكم في لبنان للاستعجال، رغم انفلات الأزمات على غاربها، بدءاً من فقدان الخبز والدواء والكهرباء وارتفاع اسعار المحروقات والاتصالات وانتشار وباء كورونا مجدداً بموازاة انهيار القطاع الصحي.. طويلة هي لائحة معاناة اللبنانيين المغلوبين على أمرهم، وسط تسارع انهيار ما تبقى من مؤسسات الدولة وإجهزتها الادارية التي يحكمها الشلل التام مع استمرار اضراب موظفي القطاع العام للاسبوع الخامس، واستخدامه من قبل أهل الحكم في بازار الضغوط المتبادلة بينهم، بديلاً عن المبادرة لمعالجة مطالب الحد الادنى للموظفين للمحافظة على ما تيسر من مقومات وجود الدولة، من خلال قيام هؤلاء بتنفيذ  الممكن والضروري من المهام وتيسير المعاملات المتراكمة على نحو غير مسبوق في تاريخ الادارة اللبنانية.

أما هدوء وروية المسؤولين اللبنانيين الذي يميز حركة تواصلهم لتبادل الآراء، فمرده اولاً تراجع الضغوط الخارجية التي ووجهوا بها سابقاً  نظراً لتبدل أولويات اصحابها من ناحية، ومن ناحية أخرى، أنها غير قابلة للصرف راهناً في ظل توازنات الوضعين الاقليمي والدولي، وارتباط قضايا الوضع اللبناني برمتها بما فيها تشكيل الحكومة  وانتخابات الرئاسة، وتداخلها جميعاً مع ملفات وأزمات المنطقة ككل. ما يعني أن البلد سيكون أمام  مرحلة مديدة من الفراغ في مؤسسات الحكم، تدار عبره المنازعات بين قواه، بانتظار ما ستؤول إليه أوضاع المنطقة صراعاً أو اتفاقاً لاستكشاف مصير لبنان  في ضوء محصلتها.

أما الثاني فإنه يتعلق  بقدرة أهل السلطة على تغطية سياساتهم ومسؤوليتهم عن انهيار الدولة والاقتصاد والعملة الوطنية، وعن تسعير الانقسامات لتضليل اللبنانيين، والرهان على  قدرتهم في تحمّل آلام ومتاعب مضاعفات البطالة والفقر ومستوياتهما المتسارعة والجوع الزاحف، وجعلهم ينتظرون حلولاً سحرية لن تأتي. ما يعني أن قوى الحكم لا تزال بمنأى عن أي ضغوط داخلية تجبرها على إعادة النظر بسياساتها وأدائها. أما بلورة برنامج الانقاذ المتمثل بإعادة الاعتبار لدور الدولة، فلم يزل يبحث عن حاملة له، وسط انعدام المبادرة لدى مجموعات المعارضة وقواها، لمغادرة الانتظارية القاتلة والاكتفاء بمراقبة أداء نواب التغيير والمستقلين، وكيل الانتقادات لعثرات بعضهم وتركهم فريسة سهلة الوقوع في أفخاخ وشباك قوى السلطة.

Leave a Comment