سياسة

خلط الملفات وتشابكها وسراب الحلول

زكـي طـه

يُكثر البعض من ترداد مقولة فشل أهل الحكم، أو عجز أطراف منظومة السلطة.      وفي هذا القول ما يُسهل معه اعفاءها من المسؤولية. في ما الواقع هو خلاف ذلك تماماً. لأن تلك القوى تعرف جيداً مصالحها وكيف تعمل على تحقيقها. وهي في ذلك تختلف عن الآخرين سواء كانوا متضررين من سياساتها أو معارضين لها. كما لديها من الكفاءة والخبرة والاسلحة ما يكفي للتغطية  والتضليل والتعمية على أفعالها  ومسؤوليتها عن نتائجها.  يؤكد ذلك إتقانها لعبة التوظيف السياسي والاستثمار في الأزمات وفي الملفات العائدة لها، واستخدام معطياتها لتبرير أدوارها. كما تعرف أيضاً كيف تجعل منها أوراقاً للتعطيل والتفاوض بشأنها، أو افخاخاً للاحتماء بها وألغاماً لتفجيرها بوجه الآخر ساعة تتطلب مصلحتها ذلك.

وعليه، فإن أي منها باستطاعته أن يستحضر بسهولة ويسر ما يخدم سياساته من ملفات متراكمة حول قضايا البلد المزمنة، أو سحبها بعد انتفاء الحاجة لها. وتلك الملفات جاهزة للاستخدام باعتبارها لا تزال مفتوحة وقابلة للتفريع في آن. وهي على نحو الاجمال موصولة، أو يمكن ربطها بإشكاليات ومشكلات الكيان والنظام منذ التاسيس، أو بشتى ميادين السياسة والاقتصاد وشؤون الحكم والسلطة والإدارة بكل منوعاتها ومستوياتها.

واللحظة الراهنة تشكل نموذجاً سافراً على هذا الصعيد. يُؤكدها إصرار رئيس الجمهورية وسائر اطراف السلطة على خلط ملفات القضايا وفتحها على نحو  يجعلها مترابطة ومتشابكة في آن. مما يبقيها غير قابلة للمعالجة جملة وتفصيلاً.  فملف الانتخابات النيابية  مثلاً موصول ومتصل بالرئاسية. وفي سياقهما تحضر  تباعاً المشكلات التي تؤدي إلى تعطيلها  بدءً من تحديد موعد الأولى، أو الطعن بالتعديلات التي طالت تصويت المغتربين، مروراً بالتلويح بإمكانية تأجيلها جرَّاء عدم تأمين نفقات إجرائها، انتهاءً وعلى نحو مفاجيء باستحضار ملف التصويت في مكان السكن أو الـ “ميغا سنتر” رغم دخول الاستحقاق ضمن المهل القانونية. وهو التصويت الذي غاب الحديث عنه طويلاً، ما يعني احتمال تحوّله لغماً قابلاً للانفجار، أو ذريعة للتأجيل إذا إقتضت مصلحة تيار الرئيس ذلك، وفشلت محاولات التوافق على مخرج آخر.

وكلاهما الانتخابات النيابية والرئاسية، مفتوحتان على ملف التحقيق الجنائي بشأن أداء حاكم المصرف المركزي، المتصل بملف القضاء.  وهو المستباح من أهل السلطة بهدف إخضاعه لمصالح هذا الطرف أو تلك الجهة استنسابياً كما هو الحال، لإقصاء الحاكم كما يرغب رئيس الجمهورية. أو بقوة الأمر الواقع لتعطيل التحقيق العدلي المتعلق بجريمة تفجير المرفأ تنفيذاً لقرار مرجعيات المسؤولين المتهمين المطلوبين للتحقيق.

وما سبق مُشرع النوافذ على ملف إقرار مشروع الموازنة للعام الحالي، وما تتضمنه من سياسات ضريبية ورفع رسوم. والمفاعيل السلبية لهذا الأمر في موسم الانتخاب سرّعت موسم المزايدات الشعبوية التي اندلعت فجأة حول صيغة اقرارها، ومعها التعيينات التي نجح العهد في تمريرها، ليطوى السجال بسرعة عبر تسوية تضمن مصالح الجميع، ويدفع كلفتها المواطن الذي لم يعرف بعد ما ينتظره. ولا يختلف الأمر بالنسبة لملف الكهرباء الذي تم سحبه من مشروع الموازنة باعتباره قضية قائمة بذاتها من اختصاص تيار العهد.

وفي معمعة تشابك الملفات المفتوحة، غاب ملف الاصلاحات المطلوبة عن الموازنة، لأن البحث فيه يتناقض مع مصلحة قوى الحكم والسلطة. رغم أن إقرارها يشكل مدخلاً لإعداد ملف خطة التعافي المالي التي على أساسها يمكن أن تنتظم المفاوضات مع صندوق النقد الدولي تحت عنوان وضع لبنان على سكة الانقاذ الذي يستغرق سنوات بعد الاتفاق على الخطة وبدء تنفيذها.

وليس غريباً في هذا السياق، أن  يبقى حاضر ملف علاقات لبنان مع محيطه العربي. وهي التي خسرها تباعاً جرَّاء سياسات وممارسات الطرف المتحكم بأوضاع البلد والحكومة والقرار والسياسات الخارجية بقوة الأمر الواقع. وأن يرتفع مستوى التحدي بين أهل السلطة، وزارات وأجهزة، في ظل رفض الانصياع إلى قراراتها وتنظيم الأنشطة التي جرى تصنيفها في خانة الإساءة لعلاقات لبنان العربية.

والأمر بمجمله مرتبط بحالة عدم الاستقرار السياسي والاجتماعي والأمني التي يتبادل اهل السلطة تهم المسؤولية عنها. وهي التي يفاقمها أداء الجهة التي تهيمن على الوضع وتصر على ابقاء البلد، بذريعة حمايته، ساحة مرتهنة لدورها وعلاقاتها بمحور الممانعة  الذي تقوده إيران. التي توظف مساهماتها وتدخلاتها الصريحة لتسعير أزمات المنطقة، في ملف المفاوضات الدولية معها حول سياساتها النووية والإقليمية. باعتبارها جميعاً أوراقاً يمكن استخدامها لفرض هيمنتها على تلك البلدان، أو التحكم بأوضاعها بدعمٍ من حلفائها المحليين.

ولا يخرج الملف اللبناني عن هذا السياق، حيث يشكل حزب الله طرفاً جاهزاً على الدوام ليس لفرض سياساته وتوجهات مشروعه المحلي بالارتباط مع السياسات الايرانية فحسب، إنما ايضاً لتبرير دوره خارج الحدود وعلى الصعيد الاقليمي. وفي هذا الاطار يقع الاعلان عن تصنيع الطائرات المسيَّرة والمبادرة لاطلاقها باتجاه فلسطين المحتلة. وفق الأداء الذي لا يستهين بالمصلحة الوطنية فقط، إنما بتعريضها للخطر عندما يريد. وفي سبيل ذلك هو جاهز أيضاً لإعلاء  تُهم الخيانة والعمالة  والتفريط بمصالح البلد بوجه كل من يخالف سياساته وأفعاله. أو بوجه كل من يحمّله ولو جزءً يسيراً من المسؤولية عما آلت إليه أحوال البلد. سواء تعلق الأمر بالحصار الذي اصاب اقتصاد البلد ومؤسساته الماليه، أو ما يهدد العاملين في دول الخليج العربي، أو لجهة العقوبات التي طالت أكثر من جهة، بما  فيه وسط بيئته الحاضنة التي يدّعي الحرص عليها. فيما يبقى ملف السلاح مادة انقسام أهلي بين دُعاة حمايته والمطالبين بنزعه. علماً أن اصحاب الخيارين يستهينان بعقول وكرامة غالبية اللبنانيين ومصالحهم عبر استسهال تعريض البلد للمخاطر الزاحفة، بما فيها خطر تجدد الحرب الاهلية.

وكي تكتمل الصورة حضر ملف ترسيم الحدود البحرية عبر الوسيط الاميركي واستغلال حاجة البلد لاستخراج النفط من ناحية، وحاجة العهد لتسجيل إنجاز ما باسمه. أما الصيغة المقترحة فإنها تذكرنا ببدعة الخط الأزرق المؤقت، بديلاً عن ترسيم الحدود الدولية وإبقائها ملفاً معلقاً، وتحويله ذريعة للاحتفاظ بالسلاح وسط خلافات اهل السلطة حول سبل معالجة مشلكة الحدود الدولية مع فلسطين وسوريا. ما يعني أن البلد مقبل على فضيحة جديدة تأتي بعد سجالات امتدت أعواماً طويلة، حول خط الحدود البحرية ومرجعية المفاوضات وتبادل المزايدات واتهامات التفريط بالمصلحة الوطنية. انتهاءً بالمحطة الاخيرة من المفاوضات و استسهال الرئيس القبول بالصيغة – الصفقة المدانة، التي بدأت تتكشف معطياتها وموجباتها، من التنازل عن الخط 29، إلى قبول التفاوض على الخط 23. ما يضعها في خانة التفريط بالحقوق والمصالح الوطنية، ويجعلها لغماً قابلاً للإنفجار في الآتي من الايام.

خلاصة القول إن قوى السلطة تعرف جيدأ كيف تدير ملفاتها وتدافع عن مصالحها عبر إدامة الازمات وتجديدها والاستثمار فيها. ما يعني أن مصير الانتخابات النيابية والرئاسية لم يزل سؤالاً مفتوحاً على المجهول، ولا يختلف عنها سائر الملفات التي  أنتجتها تلك القوى على مر العهود، وخلال سنوات العهد “القوي” وشركائه  غير المؤهلين جميعاً لأي أدوار انقاذية تتناقض مع مصالحهم ووجودهم.

وعلى وقع التصعيد المتوالي فصولاً والمفاجآت المحفوفة بالمخاطر، وبانتظار معرفة حصتنا من نتائج مفاوضات فيينا وعلى هامشها. تتابع قوى الاعتراض التخبط والدوران في الحلقة المفرغة بحثاً عن مخارج لمأزقها تحت راية التحضير للانتخابات، المشكوك بحصولها، عبر تضخيم ما تتوقعه من نتائج لها. بينما قوى السلطة تُمعن في ما هي عليه مطمئنة على نحو الاجمال رغم ضجيج البعض.  الأمر الذي دفع بقوى الخارج إلى وقف رهاناتها على الانتخابات، والانصراف للبحث عن مخارج انقاذية  للبلد خارجه كما كان دأبها على الدوام. وعليه، ليس مفاجئاً أن يكثُر الحديث  في الكواليس الدولية وتتكاثر التسريبات عن لقاءات وابحاث تدور حول تحضيرات لتسوية تأخذ بنظر الاعتبار الوضع الراهن، وسبل التعامل معه على نحو يضمن مصالح الخارج أولاً، والقبول بمصالح الاطراف المحلية التي يصعب تجاوزها أو القفز فوقها، وهي التي لن تغامر بما لديها بقدر ما تسعى لتكريسه أمراً واقعاً معترفاً به في آن.

Leave a Comment