مجتمع

مسار التغيير في لبنان: مشاكل وحلول

  د. بول طبر

التغيير مسار صعب ومعقّد وعوامله متعدِّدة ومتداخلة، يشتمل على عوامل موضوعية تفتح المجال بطبيعة تكوينها للتغيير، ولا تنفصل في الواقع الملموس عن العوامل الذاتية، اي دور الفاعل الإجتماعي وما يحمله من أفكار ورموز ومعاني تقوم بدفعه للتحرك كعنصر ملازم لصناعة الحدث، أكان تغييرياً ام لاجماً للتغيير ومساهماً في إعادة انتاج النظام السائد.

أقول هذا الكلام كمدخل  للرد على الاعتقاد السائد بأن الناس في لبنان لا يتحركون باتجاه المشاركة في العمل التغييري. بالطبع، هناك اسباب عديدة تقف وراء هذا التصرف. والمجال غير متاح لنقاشها أجمع. ولكن غالباً ما يتردد كلام من نوع: ” لبيْت النداء للمشاركة في اتظاهرة ضد السلطة، ولم أجد احداً ممن لديهم المصلحة في أن يشاركوا معي في هذه التظاهرة”، أو أي كلام من هذا القبيل.

هذا وصف دقيق لما حدث في كثير من الأحيان دون شك، لكنه يفتقد إلى السؤال: ما الذي يؤمّن الدافع المستدام للنضال بوجه السلطة؟ الأزمات السياسية أو المعيشية أو الأثنين معاً تنجح في بعض الاحيان في دفع الناس عموماً للتظاهر، ولكن ليس بصورة منْتظمة. تأمين الدافع المستديم أو المنتظم لتحقيق الهدف المنشود لا يتم إلا عن طريق العمل مع اصحاب المصلحة لشحذ وعيهم بضرورة مواجهتهم لمن يتسبب في استغلالهم وحرمانهم من حقهم في العيش الكريم (أرباب العمل، أصحاب الشركات والمؤسسات التي تستخدمهم، إلخ.)، ومواجهة السلطة السياسية بقدر ما هي مسؤولة عن التدهور الذي يعانون منه. واصحاب المصالح المطالبة في التغيير كثر منهم العمال ومجموعات المزارعين والموظفين اصحاب الاجور المتدنية والمتوسطة، مجموعات المهن الحرة الخ. هؤلاء لديهم مصالح تتأثر سلباً بمصالح أرباب العمل عموماً وبنهج السلطة، وبالتالي لديهم المصلحة في المواجهة المستدامة والمنتظمة لها والفئات الطبقية التي تمثلها.

ولكن في المقابل، ليس صحيحاً ان كل من لديه المصلحة في التغيير يكون مدركاً لهذه المصلحة ويتصرف على هذا الاساس. فبين المصلحة كواقع موضوعي واكتساب الادراك والوعي الملازميْن والمناسبْين لتلك المصلحة، الامر مفتوح لعدة تفسيرات يبرع في تقديمها وتشييعها اصحاب النظام السائد والملحقين به (الاعلام، المثقفون المأجورون، المدارس والجامعات والبرامج التربوية، الخ). وفي الحالة اللبنانية، كما للنظام وأربابه تفسيرات متعددة يسعى كل طرف من أطراف الطبقة الحاكمة أن يبرز سرديته بصفتها السردية الصحيحة لتفسير وتبرير ما يجري ويلقي بالمسؤولية على الطرف الأخر، كذلك يمكن أن نواجه الحالة نفسها عندما تغيب الرؤية والبرنامج الموحد في وسط المعارضين للنظام والمطالبين بتغييره.

من هنا ضرورة خوض المعركة الثقافية والفكرية والسياسية  في وجه كل التفسيرات التبريرية من جهة، والعمل لقيام تحالف بين قوى التغيير حول القواسم المشتركة التي تجمعهم في مواجهة مضطهديهم من جهة ثانية، كمدخل ضروري لكسب الوعي المطابق لدى اصحاب المصلحة في التغيير والتقدم.

وفي هذا السياق، تبرز أيضاً أهمية مختلف الأطراف التي تنتمي إلى المعارضة والقوى المطالبة بتغيير النظام السائد. صحيح أنه لا يجوز إختزال المعارضة وحقها في العمل السياسي بحزب أو قوة سياسية منفردة (تبني هذا الموقف هو أقصر الطرق لبناء سلطة ونظام استبدادي)، لكن الصحيح أيضاً أنه لا يمكن اختزال العمل السياسي المعارض والمطالب بالتغيير بالأحزاب السياسية. فإلى جانب تلك الأحزاب، هناك الهيئات النقابية والمهنية والجمعيات بمختلف صنوفها (حركات بيئوية، نسوية، شبابية، إلخ…)، والمثقفون الذين يتولون مهمة تفسير ما يحدث حاضراً وفي الماضي، ويصيغون المواقف الداعية والمحفزة لتحقيق أهداف التغيير نحو الأفضل.

أي حزب معارض لا يحافظ على حرية المجتمع في أن تتولى فئاته الإجتماعية مهمة الدفاع عن مصالحها وتمثيلها الحر، يكون حزباً استبدادياً عاجزاً أن يحقق مهمة التغيير نحو الأفضل. وأي حزب يعتبر أنه يمتلك حصرياً دون غيره الحل للمشاكل السياسية والإقتصادية، إلخ. في المجتمع الذي يتواجد فيه، وبالتالي يلغي حق الآخرين في الإعتراض والمعارضة عندما يصل إلى الحكم أو خلال عمله السياسي وتعاطيه مع القوى السياسية الأخرى، يكون حزباً غير قادر على خلق وانتاج المجتمع المنشود.  لقد أثبتت التجارب، أكان في المعسكر الإشتراكي الذي انهار منذ نهاية الثمنينات في القرن الماضي أم تجارب الأحزاب القومية والإسلامية في عالمنا العربي (وفي تركيا وإيران) والأحزاب الشيوعية التي لم تصل في الأساس إلى سُدة الحكم، أن الأحزاب التي تحمل هذه الأفكار في التعاطي مع من يتعارض مع طرحها السياسي وتتعاطى معه بهدف الإلغاء والتهميش، سوف تقود مجتمعاتها نحو الفشل والإنهيار بدل تغييرها نحو الأفضل وفق الشعارات التي ترفعها. وغالباً تكون هذه الأحزاب، كما الأنظمة التي تبنيها عند وصول بعضها إلى الحكم، تؤمن أيضاً بشرعية التغيير قسرياً من فوق،  ولا تعتقد بضرورة أن يكون هذا التغيير صادراً عن الخيار الحر لغالبية الشعب.

بكلام موجز، وفي الحالة اللبنانية المحكومة بنظام طائفي متجذر وعريق، ومدعوماً ببنى إجتماعية وثقافة أهلية، أقول إن مسار تغيير المجتمع ونظامه السياسي والسلطة التي تتحكم فيه، ليس مشروطاً فقط بأن تكتسب الفئات والطبقات المستغلة الوعي المطابق لمصلحتها في التغيير، وإنما أيضاً بأن تكون ثقافة التغيير وقواه السياسية تحترم وتؤمن بالنظام الديموقراطي طريقاً لتحقيق أهدافها، أكان في تعاطيها مع القوى المتحالفة معها، أم في مرحلة وصولها إلى السلطة وبناء النظام السياسي المنشود.

Leave a Comment