اقتصاد

الوضع الاقتصادي والاجتماعي اللبناني وآفاق الخروج من الانهيار الشامل 2 /2

 أحمد مغربي

ت- “مرفأ بيروت لبنان التكاملي الكبير”

يحتاج لبنان إلى مشروع واسع الرؤية في تطوير مرفأ بيروت. إذ يعتمد اقتصاده على تجارة الترانزيت بشكل كبير، ما يفترض وجود بنية متطورة في المرافئ والطرق، إضافة إلى المطار/ المطارات، خصوصاً مع متغيرات دولية ضخمة وضاغطة كـ”مبادرة حزام وطريق” الصينية [لا يتعلق الأمر بالسياسة، فهنالك مروحة ضخمة من الدول التي تهتم بهذا المشروع الذي رُصِدَ له تريليونات الدولارات، بما في ذلك أوروبا وبريطانيا وروسيا]. وعلى المستوى العربي، ثمة ميل متزايد للتعامل اقتصادياً مع إسرائيل [بغض النظر عن الرأي السياسي في ذلك]، ما يطرح تحدياً على لبنان في منافسة الموانئ الإسرائيلية التي تستفيد من الموقع الجغرافي الاستراتيجي الفائق التميز من جهة، والتقدم التقني والعملي والإسناد المالي الضخم من جهة اخرى.

ومع وجود اهتمام دولي بإعادة بناء مرفأ بيروت، من المستطاع وضع ذلك ضمن إطار يمكن تسميته بـ”مرفأ بيروت لبنان التكاملي الكبير”. وبالاختصار، يستند “المرفأ التكاملي” إلى اعتبار مرافئ لبنان [بيروت، طرابلس، صيدا، صور، الناقورة، شكا وآنفة…] كلها مرفأً واحداً يعمل عبر منصة رقمية موحدة، تضمن تكامل العمل. ويسند “المرفأ التكاملي” خط نقل بحري يعمل بأسلوب الإبحار القريب من الشاطئ [يسمّى أحياناً “التسحيل”]، ويصلح ذلك معظم أيام السنة في لبنان، في نقل البضائع، وحتى الركاب. وبالتالي، يجدر أن يُدرج تطوير بقية مرافئ لبنان، ضمن خطة إعادة إعمار مرفأ بيروت.

من المستطاع أيضاً النظر إلى الطريق الساحلي “القديم” كخط مساند لـ”المرفأ التكاملي”، بعد إصلاحه وتجديده وتوسيعه، فتكون حركة نقل الشاحنات مثلاً متمركزة عليه.

ث- مشروع تطوير الصيد البحري وعصرنته

يستند تطوير الصيد البحري وعصرنته إلى إحداث تغيير أساسي في مراكب الصيد، وبالتالي طريقة الصيد ومستوى الانتاج وطبيعة المحصول البحري، وتطوير العنصر البشري المتمثل في الصيادين والبحارة. وعلى العكس من التجربة المعروفة التي سبقت الحرب الأهلية( شركة بروتين)، بل أعطت إحدى شراراتها، يبدأ المشروع من الصياد نفسه. وبالتالي، يجب عدم فرض إلزامية تغيير المراكب بأي حال، إضافة إلى الاهتمام بالرعاية المادية والمالية لمن يختار الاستمرار في الأسلوب التقليدي. وتتقدم الدولة باعتبارها داعمة للتغيير، وليس كداعم لتغيير يأخذ مصلحة طرف معين على آخر، كأن تقدم قروضاً ميسرة لشراء مراكب حديثة، أو دعم تدريب الصياد بشكل ممنهج [بإمكان الأكاديمية البحرية أن تؤدي دوراً مهماً، تحت إشراف الدولة وبمشاركة نقابات الصيادين] أو حتى أن تشتري بنفسها [مع افتراض حوكمة رشيدة] مراكب حديثة ثم تبيعها بشروط ميسرة تماماً إلى الصيادين.

يقصد من ذلك، تمكين الصياد اللبناني من الصيد في المياه العميقة في أعالي البحار، مع الاستعانة بالرادار في رصد أسراب الأسماك وموائل الكائنات البحرية كالسرطانات والقريدس. ويضاف إلى ذلك، إنشاء شبكة تواصل تعمل بموجات الراديو مع تلك المراكب، والاستعانة بتقنية “جي بي أس” في تتبع مسارها، ووجود حد أدنى من المراكب، العسكرية مثلاً، القادرة على التدخل للإنقاذ.

وفي تفصيل مهم، تشمل مروحة الأنواع المطلوبة من المراكب الحديثة، ما صُنِع منها حتى في خمسينيات وستينيات القرن العشرين، حينما وُضِعَتْ تلك التقنيات قيد الاستخدام المدني الواسع. من المستطاع الاستفادة من المخزون الواسع لدى الدول المتقدمة من مراكب حديثة قد تكون مصنوعة قبل عقود.

الأهم أنه يمكن الاستفادة من الخبرات العربية أيضاً، خصوصاً المصرية، في مجال الأكاديميات البحرية التي يعتمد عليها في التطوير التقني والمعرفي للصيادين، وتأهيل شباب كي يكونوا صياديين عصريين.

في البعد البيئي، يجدر التشديد على الابتعاد عن الصيد الجائر، والالتزام بالبروتوكولات الدولية في ذلك الصدد. هنالك مؤسسات دولية تهتم بهذا البعد البيئي، وتعمل على طريقة الجمعيات الأهلية الخاصة، ويمكن أن تشكل مصدراً للخبرة والتمويل.

استكمال المشروع، يكون في نشر المزارع البحرية للأسماك والأصداف. ومن المهم التركيز على تنمية الـ”بلانكتون” الذي يعطي الأوكسجين ويشكل غذاءً يجتذب الأسماك. حدثت في لبنان بعض المبادرات المحدودة في ذلك، على غرار إغراق بعض المركبات في المياه الضحلة، لكن يجدر التوسع في ذلك والاستفادة من تجارب دول في ذلك، خصوصاً اليابان.

ج- الصيد البحري الاستثماري

تجري نشاطات “الصيد البحري الاستثماري” في مرافئ خارج لبنان، لكنها تكون باستثمار لبناني، وبالتالي يكون مردودها عائد إلى لبنان، سواء بنقل محصول الصيد أو/و بيعه. ويكون ذلك مفيداً في المرافئ التي تتمتع بمزايا تفتقدها المرافئ اللبنانية، كتلك التي تطل على المحيطات الكبرى، فيطاول الصيد فيها أنواعاً بحرية لا توجد في البحر المتوسط.

قد يكون لدى لبنان فرصة أكثر من غيره من الدول العربية، بالنظر إلى حجم وفاعلية الاغتراب اللبناني، إضافة إلى وموقعه وعلاقاته العربية، وخبرة رؤوس الأموال فيه أيضاً.

عربياً، ثمة إمكانية للاستثمار في الصيد البحري في دول مستقرة كالمغرب الذي يطل على المحيط الأطلسي، أو دول أقل استقراراً كجيبوتي وجزر القمر وحتى الصومال.

ثمة وضعية استثنائية للساحل الليبي الذي لا يطل على محيط بل يقتصر على البحر المتوسط، لكنه أطول ساحل مفرد فيه، ولا يوجد قطاع صيد بحري واسع فيه أيضاً. يعني ذلك أن العنصر البشري يمكن أن يكون أساساً في ذلك الاستثمار، خصوصاً مع التطوير المشار إليه في مشروع “تطوير الصيد البحري وعصرنته”.

في أميركا اللاتينية، هنالك ما لا يحصى من الفرص، مع وجود أعداد كبيرة من الشتات اللبناني، إضافة إلى رؤوس أموال اغترابية مهمة. ثمة مساحة كبيرة كامنة في ذلك المدى.

ح- الطاقة البديلة والغاز

يعيش العالم انتقالاً نحو الغاز [والطاقة النووية كذلك]، كشكل من الطاقة البديلة الأقل تلويثاً من وقود النفط والفحم الحجري. يتجه لبنان نحو أفق استفادته من مخزوناته من الغاز، ما يعني أن تلك الطاقة تصبح مبدئياً في متناوله، ومصدراً في دخله القومي. من المهم تعزيز مشاريع توليد الكهرباء من الغاز على غرار المشروع المقترح من شركة “سيمينز”، كمجرد مثل على ذلك. ومن المستطاع الاستفادة من خبرات عدة، مثلاً في مصر، في تحويل معامل انتاج الكهرباء التي تعمل على الفيول كمعملي الجية والذوق، إلى الغاز، الأقل كلفة وتلوثاً.

في أفق متصل، من المستطاع نشر شبكة توصيل الغاز إلى البيوت، وهنالك خبرة مصرية في ذلك المجال أيضاً، لكن الخبرة الغربية أوسع كثيراً في ذلك المجال.

خ- النفايات وتدويرها في المدى العربي

هنالك أزمة نفايات متفاقمة في لبنان، ومرشحة لمزيد من التفاقم. ثمة طرح عن محطة حرق مركزية للنفايات، على غرار سنغافورة والدانمارك. يجدر التنبه إلى أن تلك المشاريع تحمل خطورة كبرى على البيئة، وقد لا يستطيع لبنان تحملها. مثلاً، في كوبنهاغن، هنالك محطة ضخمة لحرق النفايات تنتج طاقة حرارية ضخمة، تستعمل في تدفئة المنازل. وينتج عن الحرق غازات ضخمة وسامة، يجري تقطيرها وتكثيفها ثم توضع في حاويات خاصة، وتنقل إلى جزيرة معزولة. وقد وقعت الدانمارك اتفاقاً مع الدول المتشاطئة لقبول تخزين تلك السوائل العالية الكثافة في سميّتها. يصعب تصور حصول ذلك ضمن البحر المتوسط.

قد يتمثل البديل، إضافة إلى تدوير النفايات، في مشروع مشترك مع دول عربية، كسوريا [ تملك ميزة المساحة الكبيرة في الأراضي الصحراوية التي قد تصلح مكاناً لمشروع مشترك في تدوير النفايات]، أو مصر [ تملك ميزة وجود مشاريع كبيرة في تدوير النفايات].

د- مشروع الصندوق السيادي

قد يكون مهماً تأسيس صندوق سيادي للبنان، خصوصاً أن الجائحة أبرزت الدور الكبير التي تستطيع تلك الصناديق أن تؤديه في دعم الاقتصاد أثناء الأزمات. بديهي القول أن المشكلة الفعلية هي في وجود حوكمة رشيدة يعمل الصندوق في ظل سيادتها. لعل الأهم يتمثل في ألا يتحول الصندوق إلى “مغارة علي بابا” جديدة في لبنان، على غرار صناديق الجنوب والمهجرين والإعمار وغيرها. قد يكون باب استيلاء أصحاب السلطة و رؤوس المال على ذلك الصندوق، من تحويله الصندوق إلى أسهم، تحت شعار الاستثمار ووضعه في متناول الناس. وببساطة، سيتحول الأمر بسرعة إلى عكس ذلك، إذ تستطيع الأموال التي راكمها رؤوس أصحاب السلطة والمال على تركيز تلك الأسهم في أيديهم، مع سلب الدولة اللبنانية من أحد آخر مصادرها الاقتصادية والمالية. وستزداد شهيتها إذا أُدرجت حقول الغاز، أو رساميلها، ضمن ذلك الصندوق. [ينطبق وصف مشابه على مسألة تسييل احتياط لبنان من الذهب، الذي قد “يسيل” ليصب في جيوب رؤوس أصحاب السلطة والمال].

وهنالك مساحة للتعاون مع النقابات والجمعيات المدنية [بما فيها الحقوقية] للمتابعة الحثيثة والصارمة لكيفية تصرف السلطة بالصندوق السيادي، في حال إنشائه.    

السياسة والاجتماع

دولة المواطنة الدستورية

من الواضح الحسم في أن النظام الطائفي في لبنان بحد ذاته، يمثل العقبة الأبرز، ليست الوحيدة، أمام الانتقال إلى دولة المواطنة المستندة إلى الدستور والقانون التي يكون فيها كل مواطن لبناني مساوٍ لكل مواطن لبناني آخر، بكون المواطن كياناً دستورياً وقانونياً حراً. تعتبر دولة المواطنة الدستورية أساساً في تطوير مسار الديمقراطية الفعلية، والخروج مما يسمّى “ديمقراطية الطوائف” التي تمارس بوصفها حرباً لا تنتهي، ساخنة وباردة، بين الطوائف والمذاهب، لا تفيد سوى رؤوس زعمائها.

لعله من المجدي التفكير باستعادة تعبير “العروبة الحضارية” الذي ظهر في مراحل سابقة، ولاقى قبولاً بين مثقفين كثيرين، بعضهم يملك خيوطاً تربط تجربته مع “منظمة العمل الشيوعي”، بشكل أو آخر.

الحلقة الثانية والاخيرة

Leave a Comment