صحف وآراء مجتمع

حرب متعمدة ضد الأطفال

*يوسف بزي

قتل الأطفال شرط الرغبة الإسرائيلية العميقة باختفاء الفلسطينيين.

الصور الكثيفة المتلاحقة لجثث الأطفال والرضع، المنتشلون من تحت الأنقاض الإسمنتية، والجرحى منهم المغبرين والمدّمين المرتجفين المذعورين في أروقة المستشفيات في غزة.. هي الصور عينها إلى حد التماثل الفظيع التي كنا نشاهدها آتية من المدن والبلدات السورية ومستشفياتها طوال سنوات الثورة المسحوقة. الغارات الروسية-الأسدية وهليكوبترات البراميل المتفجرة والقصف الهستيري بالراجمات والمدفعية، التي أحالت العمران السوري إلى خرائب، وقتلت أكثر من نصف مليون رجل وامرأة وطفل، وشردت أكثر من عشرة ملايين إنسان (على أمل التمعن بالأرقام لا تلفّظها فقط)، تبدو كأنها “مثال” تقتدي به إسرائيل في حربها المجنونة للتخلص من غزة. التوحش في مجازر الأطفال في الحالتين هو نفسه، متعمّد وقصدي، ويكثف على نحو شيطاني فكرة “الإبادة”. قطع نسل المستقبل. تنصيب الانقراض والموت على مجتمع بأكمله. هذا هو معنى التخلص من غزة، وهذا هو الحلم الإسرائيلي: لماذا لا يختفي الفلسطينيون؟! بالضبط كما حلم (وربما حقق) آل الأسد بما أسموه “المجتمع المنسجم” في حملة التطهير السكاني التي اعتبرت الأكثر هولاً منذ الحرب العالمية الثانية.

ما تفعله إسرائيل يقارنه البعض عسكرياً بالحملة الأميركية على الفلوجة، التي تحصن فيها إرهابيو “القاعدة”. وآخرون يشبّهونه بمعركة الموصل الرهيبة، حين تحولت معقلاً لـ”داعش”. والقصد من ذلك، إقران حركة حماس بالتنظيمين الإرهابيين، بما ينزع أي تعاطف معها ومع “البيئة الحاضنة”، تماماً كما حدث في الفلوجة والموصل.

هذه المقارنة باطلة وخبيثة إلى حد كبير. فرغم تنديدنا بحماس وبكل ما يشبهها من حركات مسلحة وميليشيات في هذا المشرق التعس، ورفضنا التام لمشروعها السياسي والعقائدي، إلا أن حركة حماس تبقى هي التي انتصرت بانتخابات ديموقراطية لا شبهة فيها، وشرعيتها منبثقة أولاً وأخيراً من مقاومة احتلال لا جدال حقوقياً وإنسانياً في توصيفه. فالعطب الأساسي والمحرض الأول على الشرور وصانعها هو الاحتلال الاستيطاني والعنصري، بوصفه علة العلل. هو منبع “قوة” حماس وقدرتها على التعبئة والحشد. فالاحتلال عبر عشرات السنين لم يقدم أي بديل عن العنف والمقاومة. لم يتح للفلسطيني أي أمل ولا أي خيار آخر (انظروا إلى بؤس “السلطة الفلسطينية” وخوائها). من يطالب بمانديلا فلسطيني فليتذكر مصير رابين، الذي بالكاد يمكن وصفه بمانديلا إسرائيل.

على أي حال، ومقابل تلك المقارنة الباطلة، لوحظت مقارنة أخرى أتت من الإسرائيليين أنفسهم، هي تطوير لما سُمي “عقيدة الضاحية” إبان حرب تموز 2006. تطوير مستلهم إلى حد كبير من التجربة السورية خصوصاً، تحت تسمية “عقيدة حماة”. أي ما فعله حافظ الأسد عام 1982 بالمدينة المتمردة: حصار خانق وإفناء البشر والحجر. وهو ما فعله وريثه على نطاق واسع وممنهج إلى حد الإبادة الكيماوية.

تطور الأسلوب الإسرائيلي بعد حصار بيروت 1982 (شهران من القصف براً بحراً جواً)، واحتلالها. لم يعد يلجأ إلى الغزو البري الفوري. اعتمد القصف والغارات ومعاقبة السكان وترويعهم وتدمير البنى التحتية. وحده “تفاهم نيسان” عام 1996، في جنوب لبنان، أجبر الإسرائيليين على تحييد السكان، مقابل حصر عمل المقاومة بالأهداف العسكرية، فخسر المعركة بعدما فقد القدرة على الانتقام من المدنيين. والأهم أنه خسر سردية الإرهاب وتحول إلى مجرد محتل وغاصب.

كابوس “تفاهم نيسان” هو بالضبط ما يؤرق الإسرائيليين في حربهم المفتوحة مع الفلسطينيين، الذين يجب فقط أن يبقوا في خانة الإرهاب. لذا، ليس صدفة أن يكثر الإسرائيليون -في معرض ردهم على منتقديهم- من الإحالة إلى التجربة السورية: لماذا تستكثرون علينا وتستفظعون ما نقترفه.. وهو عينه ما سكتم عنه في سوريا؟

بمعنى آخر، إسرائيل تبنت “عقيدة حماة”، بكل ما تحمله من مواصفات الجريمة ضد الإنسانية. وشرط نجاحها يبدو متلازماً مع القتل الجماعي للأطفال. هم ثلث الضحايا في غزة، بما يدل عن انعدام أي محاولة لتجنيب المدنيين، بل العكس. الفلسطينيون جميعهم “هدف مشروع”. إفناء العائلات هو سمة أولى لهذه الحرب. الكلام الإسرائيلي المعلن، بالغ الوضوح: إنها حرب وجود. ترجمتها الفورية: إبادة العدو.

الفظاعة هنا هي أن إسرائيل الحالية المعتنقة “عقيدة حماة” محتضَنة بلا أي تحفظ ولا أي خجل من الغرب. هذا ما سيغير الكثير في مسار العالم. تغيير ابتدأ في العالم العربي أولاً. فأول المهزومين والخاسرين هم من كانوا يصنفون بتلك الكلمة الركيكة “الاعتدال”. تلك النخب والشرائح الاجتماعية التي بالكاد بدأت تستعيد حضورها منذ التسعينيات (والتي ضمرت ابتداء من الخمسينيات)، وتوسعت حاملة قيماً ليبرالية وديموقراطية وعلمانية ويساراً إنسانياً، وظهرت كعاصفة مليئة بالوعود في أثناء الربيع العربي.. وكانت طامحة إلى حد كبير بتكريس مصالحة كبرى مع العالم ومع الغرب تحديداً.

“الخيانة” التي يرتكبها الغرب الآن، المرتد إلى نعرة الرجل الأبيض الاستعمارية، ستكون نتائجها الكارثية، ليست في التمادي الجنوني بقتل الأطفال وإبادة السكان وإخفاء فلسطين من الوجود، بل في تدشين حروب مئوية، تماماً كما تشتهي الأنظمة المعادية للغرب، التي تتاجر الآن بدماء الفلسطينيين كرصيد في “انتصاراتها” المجانية.

*نشرت في المدن الالكترونية في  2023/10/26         

Leave a Comment