صحف وآراء مجتمع

جوهر الحراك في إيران:ما الدين

وجيه قانصو

المدن ـ 6 تشرين الثاني 2022   

إصرار المرشد الإيراني علي خامنئي على أبلسة الحراك الأخير في إيران واعتباره نتاج تخطيط وتدبير أمريكيين، يكشف عن إصرار النظام الإيراني بجميع رموزه وأجهزته في تبرئة ذاته بل في تساميه وعصمته وفوق بشريته، وعن عدم جهوزيته بل رفضه القاطع لنقاش وبحث أصل المشكلة الباعثة على التظاهر والاحتجاج.  تجده تارة يعتمد أسلوب التغطية عليها وطمسها بل خنقها من خلال تحريم وتجريم إخراجها إلى الضوء والعلن، وتارة أخرى يستدعي مؤثرات وعناصر من خارجها غير ذات صلة بها، أي أخذ النقاش إلى ملعب النظام وحبائله الأيديولوجية وخدعه الدعائية والترويجية.  .

في العادة لا يعترف أهل السلطة، أية سلطة،  بخطئهم ولا يتنازلون عن مواقفهم ومواقعهم إلا إذا أرغموا على ذلك. أي إن الوازع الذاتي لمن في السلطة، من تقوى أو ضمير أو خلقيات، لا يشكل ضماناً لصلاح السلطة واستقامتها، بحكم أن الفضيلة، دينية أم أخلاقية، ليست داخلة في صميم معنى السلطة أو حقيقتها. فالسلطة تُقصد لذاتها، ولم تصمم في الوجود الإنساني إلا لبقائها وانتشارها وشدة تحكمها، وبحسب ميكيافيللي: السلطة لأجل السلطة.

لهذا السبب لم تكن فكرة الديمقراطية مجرد توصيات أخلاقية أو تعميمات تقوية، بل هي تأطير وتقييد للسلطة نفسها ووضع ضوابط لتداولها وشروط دقيقة لممارستها. بالتالي، إلى جانب اعتبار السلطة في الديمقراطية مستمدة من الشعب، أي سلطة غير مشخصنة ولا تتجسد في شخص معين، فإن حيازتها تكون مؤقتة وقابلة للانتزاع في أي وقت، وممارستها مقيدة وخاضعة لرقابة صارمة فوقها.

بالتالي تم في الديمقراطية تعطيل أي سلطة أمر خارج إقرار المجتمع وإجماعه. فلا شرعية لسلطة تنصيب ذاتي مستمدة من قوة قهر أو إخضاع أو حزب حاكم، ولم يعد بالإمكان ادعاء سلطة يتم توارثها داخل سلالة عائلة مالكة.  بل لم يعد بالإمكان ادعاء سلطة أمر مستمدة من نص ديني، أي لا يعود النص الديني بذاته مداراً أو مرجعاً لأية شرعية سياسية، بحكم أن النص لا يقدم معالم واضحة لقواعد شرعية سياسية، فالنص بحسب قول الخليفة الرابع “لا ينطق إنما ينطق به الرجال”،  وبحكم أن السلطة ومجرياتها وأصولها وفق رأي كبار علماء الإسلام (محمد عبده، علي عبد الرازق، النائيني، شمس الدين) ظلت منطقة فراغ غير منصوص عليها، أي منطقة أخلى النص نفسه منها وترك أمر تدبيرها للبشر، ما يجعل السلطة السياسية خارج مدى النص الديني ومجاله، ليصبح (أي النص الديني) في الديمقراطية بحسب تعبير المناطقة خارج تخصصاً لا تخصيصاً.

لذلك، حين تتأسس السلطة ومؤسساتها على مصدر من خارج تدبير المجتمع أي خارج سيادته ومصدر شرعيته، من قبيل الاستناد إلى سلطة مستنتجة من نص ديني، كما هو حال مبدأ ولاية الفقيه، فإن هكذا سلطة لا تطرح نفسها نقيضاً ومقوضاً للديمقراطية فحسب، رغم الشكليات الانتخابية التي تعتمدها، بل تجعل السلطة شأناً لا مجتمعياً، يكون تدبير المجتمع فيها أمراً مختصاً ومحصوراً بجهة أو شخص يتمتع بمواصفات استثنائية.  هي مقترح، أي ولاية الفقيه، تجعل الوصاية على المجتمع نتيجة منطقية لها، وترسخ ذهنية المجتمع القاصر، أي المجتمع الذي لا يعرف كيف يقرر وإذا قرر فإنه يتعثر ويخطيء باستمرار.

ما يحصل في إيران حالياً ليس ترجمة لديمقراطية قائمة، بل مسعى مجتمعي لإنشاء ديمقراطية مفقودة وغائبة، أي مسعى لاستعادة المجتمع لسيادته التي انتزعها منه نظام ولاية الفقيه بعد أن أخرج السلطة من دائرة المجتمع وأحالها شأنا غيبياً لا إختيارياً.  مقابل سلطة ماهت نفسها مع الحقيقة الدينية إلى حد تقديم نفسها سلطة مقدسة ملهمة معصومة ولا تخطيء. ما جعلها ترى كل شيء خارجها مدنساً وساقطاً، أما المتواجه معها فتعتبره جزءاً من حملة شيطانية، صليبية، وصهيونية منخرطة ضد النظام  في حرب الشر والخير، الضلال والهداية، الكفر والإيمان.

ما يحصل في إيران فتح جدي وتحد غير مسبوق لأساس الشرعية التي يقوم عليها النظام، أي تحد للأساس الايديولوجي الذي يدعيه لنفسه، وهو وصايته على المجتمع والدين معاً. فولاية الفقيه بحسب مؤسس الثورة الإيرانية، بقدر ما تمنح “الولي الفقيه” سلطة سياسية مطلقة لا حدود لها: “للفقيه كل ما للنبي والإمام من سلطة”، فإنها أيضاً تملك صلاحية التصرف في تقرير مساحة واسعة من الحلال والحرام، وتملك أيضاً صلاحية فرض الأحكام الدينية بكافة الوسائل المناسبة، بما فيها التخويف والإكراه والعقاب.

إنه مسعى مجتمعي لتفكيك الملازمة بين الدين والسلطة القائمة، بإحالة الدين حقيقة مجتمعية يُقبِل إليها الأفراد بطواعية واندفاع ذاتي وحرارة باطنية، لا أن يكون حقيقة سلطوية تفرض عليه.  أي مسعى مجتمعي ليكون الدين إلى جانب المجتمع لا عليه، مصدر أمان وطمأنينة لا وسيلة تخويف وتخوين سلطويين. لهذا السبب اتخذ خلع الحجاب وحتى حرقه دلالة رمزية، لا لرفض الحجاب، بل رفض صفتي السلطة والإكراه اللتين باتتا جزءاً من حقيقته ومحركاته. أي ليكون خياراً إيمانياً تكون بواعث الإلتزام به باطنية تقوية طوعية وحرة، لا أن يتأسس على الخوف والرعب اللذين تنشرهما أجهزة استخبارات النظام والغيارى على مصير الفضيلة فيه.

بين مكابرة خاسرة ومحاججة ساذجة للنظام، توحيان بأن عدة البطش البوليسية باتت وسيلة بقائه الوحيدة. وبين المرأة الإيرانية التي قررت أن تخوض معركة حرية لا تكتفي بجرأة التعبير والتحدي والرفض، بل معركة المساءلة والتفكير الجدي في الثوابت والمسلمات، لا السياسية والقيمية فحسب، بل ما تعودنا وتسالمنا على أن يكون بديهيات دينية وحقائق إيمانية.

هو تحريك لنقاش غير مسبوق حول أساس الشرعية السياسية ومن يملك صلاحية تطبيق الأحكام الدينية، وحول طبيعة حضور الدين في زماننا. إنه، باختصار، حراك جوهر سؤاله: ما الدين؟

Leave a Comment