سياسة

تواريخ فلسطينية تتلاحق والمطلوب هو الوحدة الوطنية

وتظل الورقة الأكثر مضاءً هي وحدته الوطنية المفقودة بفعل الصراع الفئوي والحسابات الضيقة وتدخلات الخارج، التي لا ترى خطر التهديد والتبديد الوجودي المحيط بمصيره عبر زحف الاستيطان والمستوطنين، مكتفية بحسابات فصائلية تكاد تطيح بما تبقى من نبض في عروق هذا الشعب المعطاء. علماً أن هذا الفلسطيني الذي لم يبخل يوماً بدمه في ساحات الصراع،

ليس لدى الفلسطيني ما يواجه به العدو الاستيطاني الصهيوني سوى صدره العاري… في هذا الوقت تتدافع التواريخ من عمر القضية، وتتكثف إلى الحد الذي يصعب الفصل بينها رغم المسافات الزمنية التي تفاس بالعقود بين تواريخ أحداثها. فمنذ أسابيع قليلة مرت الذكرى الـ 72 للنكبة في العام 1948 وقيام الكيان الاسرائيلي على أرض فلسطين، وتمر هذه الأيام الذكرى الـ 53 لهزيمة الخامس من حزيران عام 1967، وفي الوقت نفسه نستحضر تاريخ الغزو الصهيوني للبنان صيف العام 1982 أي قبل 38 عاماً. كل من هذه الأحداث كان مفصلياً وكان له ما بعده، كما كان له ما قبله.

 لكن الأساس يظل هو خطر المشروع الصهيوني الذي ينتقل من محطة إلى أخرى، مندفعاً بقوة آلته الحربية وقراره الحاسم ببناء كيانه على كل ارض تصل إليها قواته العسكرية، ومعه كل الاحتضان الامبريالي الغربي بدءاً بالاستعمار البريطاني تأسيساً، وصولاً إلى التماهي الاميركي معه راهناً، كما يتجلى ذلك في عهد الرئيس ترامب وفريق إدارته المتصهين. دماء كثيرة سالت على امتداد هذه المراحل الزمنية، وعذابات لا تحصى أو تعد تحمّلها الفلسطيني على أرضه التي يهددها مد الاستيطان الزاحف، أو في دول الشتات سواء أكانت عربية أو غربية. على أن الصراع الوطني الفلسطيني لم يكن منفصلاً عن صراع أوسع على امتداد الأراضي العربية ولاسيما منها المحيطة بفلسطين سواء على جبهات مصر والاردن أو سوريا. أما في لبنان فقد دافع الوطنيون اللبنانيون بدماء شهدائهم وبُنى بلدهم في قراهم والمدن عن حق الفلسطيني في أن يكون له هوية وأرض ودولة مثل شعوب العالم. ودفع الشعبان الغالي دون الرخيص في ظل تراجع إلتزام عربي خبرناه جيداً من خلال اتفاقات كامب ديفيد بين مصر واسرائيل، أو من خلال اعتبار فلسطين وقضية شعبها مجرد ورقة يجري عرضها على طاولة التفاوض مع الراعي الاميركي لتحسين شروط الإنضواء تحت رعايته، أو للقبول بقسمة عمل تحفظ حصة من الهيمنة على المنطقة للاعب إقليمي، حتى لو كان هذا اللاعب قد عبث طويلاً بالمكونات المجتمعية العربية، إلى الحدود التي أدت إلى تمزيقها وتشليعها وتحويلها إلى مجرد مذاهب وطوائف وملل ومناطق تدار تبعاً لتوازنات وصراعات القوى المهيمنة المتدخلة، سواء أكانت اقليمية من وزن ايران وتركيا، أو دولية كاميركا وروسيا، مع بقية اللاعبين الأصغر حجماً وقوى تأثير. ومثل هذا الوضع لم يعد محصوراً بمركز الصراع التاريخي في المنطقة، بل امتد ليصل إلى الشمال العربي الافريقي، ناهيك بجنوب الجزيرة العربية في اليمن والصومال وما جاورهما.

ينظر الفلسطيني إلى الخارطة العربية الممزقة الآن من حواليه، وأقصى طموحه هو الحفاظ على وجوده البشري وصموده على أرضه في الضفة الغربية المحتلة، والتخفيف من الحصار المفروض على قطاع غزة، بينما هو في كل من الاردن وسوريا ولبنان يكافح باللحم الحي لحفظ بقائه في مخيمات الذل، وتجاوز وباء فيروس الكورونا، وتأمين طعامه بالحد الأدنى، والبقاء قريباً من فلسطين التي ناضلت أجيال وأجيال من أجل تحريرها، أو الجزء المحتل عام 1967 منها. تبدو الصورة كالحة، فقد راهن هذا الفلسطيني يوماً على الأنظمة العربية أن تتولى جيوشها مهمة تحرير ارضه المغتصبة، أو إزالة آثار عدوان حزيران،  ثم امتشق سلاحه ووضع دمه على راحته وأشعل المنطقة، لكن ثورته تمّ وأدها بفعل رفض الأنظمة العربية دفع ثمن الصراع، فكان أن حوصرت الثورة في بيروت ونحن معها، ثم تبددت في بلاد العرب الواسعة، وشُرع بالبحث عن حلول سياسية على قاعدة اختلال حاد في ميزان القوى العربية بعد أن انسحبت مصر، وبات هم القيادة السورية كيف تمسك بزمام القرار الفلسطيني المستقل وتقديمه للراعي الاميركي … ثم جاءت الانتفاضات العربية فغابت قضية فلسطين عن هدير الجماهير في الشوارع والساحات، وجرت عملية تحويل تلك التحركات السلمية إلى حروب أهلية، فباتت سوريا قطعاً مفروزة للقوى الممسكة بزمام الأمور. وهكذا ضاعت ثورة هذا الشعب ومعها الجولان المحتل ووحدة البلاد والمجتمع. وفي لبنان قادت أوهام الازدهار المقبل إلى ما نراه راهنا من محاصصة طائفية في كل شيء بدءاً من النفايات إلى الاستثمار في الافلاس العام، وما زال الكل يعمل على زيادة حصته على حساب سواه… بينما البلاد ترزح تحت خطر الجوع. وتراجعت تلك المطالعات التي تتحدث عن القدس وفلسطين مكتفية بالسيطرة على معابر الداخل الشرعية منها وغير الشرعية.. أما مصر فتغرق في الصراع مع القوى التكفيرية في سيناء وغيرها، وكأنها لم تكن يوماً موقع قطب رحى الصراع الرئيسي من أجل خارطة عربية فعلية للمنطقة وبالصراع مع العدو الصهيوني ومن وراءه.

يقف الفلسطيني الآن وظهره إلى الجدار وأمامه مشروع صفقة القرن الذي صاغته الإدارة الاميركية، مضافاً إليه محاولة خنق السلطة ومعها وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين ـ الاونروا والنذر اليسير من تقديماتها لملايين اللاجئين والمشردين… يقف الفلسطيني وقد تشكلت في اسرائيل حكومة وحدة بين نتنياهو و غانتس يتلخص مشروعها في ضم القسم الأكبر من الضفة الغربية وغور الاردن …وتظل الورقة الأكثر مضاءً هي وحدته الوطنية المفقودة بفعل الصراع الفئوي والحسابات الضيقة وتدخلات الخارج، التي لا ترى خطر التهديد والتبديد الوجودي المحيط بمصيره عبر زحف الاستيطان والمستوطنين، مكتفية بحسابات فصائلية تكاد تطيح بما تبقى من نبض في عروق هذا الشعب المعطاء. علماً أن هذا الفلسطيني الذي لم يبخل يوماً بدمه في ساحات الصراع، وهو يرى كل هذا التخلي العربي بأشكاله ومنوعاته بما فيه التطبيع مع العدو، والتنكر الدولي لعدالة قضيته، ليس لديه ما يخسره سوى قيوده، لكنه عبر الارتقاء بإدائه، وانطلاقاً مما راكمه من خبرات في ميادين المواجهة السياسية والنضاليه يستطيع أن يكسر اندفاعة المشروع الصهيوني الذي يتغذى من حليب انقساماته الذاتية.

[author title=”عماد زهير” image=”http://”]كاتب لبناني[/author]