سياسة مجتمع

بعد 4 سنوات على اندلاع انتفاضة تشرين 2019: قراءة في عناصر القوة والضعف وآلية استعادتها

زهير هواري

بيروت 18 تشرين الاول 2023 ـ بيروت الحرية

تطرح الذكرى الرابعة لانتفاضة تشرين الأول 2019 الكثير من الأسئلة على الديمقراطيين واليساريين، وكل من يعنيه وجود دولة تدير الاجتماع اللبناني وتتولى مهمة تنظيمه، بدل أن تترك الحبل على الغارب للطوائف كي تمارس توافقاتها وصراعاتها على قاعدة المحاصصة بين مكوناتها. بالطبع يجب أن نسجل بداية أن تلك الانتفاضة المجيدة كانت تطمح لتأسيس تيار ديمقراطي حقيقي معارض، خصوصاً ونحن جميعاً ندرك مدى قساوة وكارثية الانهيار الذي نعيش فصوله في مختلف القطاعات، وفي مناحي حياتنا اليومية.

كلنا يعلم أن من ساهم في صناعة انتفاضة تشرين 2019 هم أبناء وبنات هذا الوطن من أقصى الشمال إلى قرى ومزارع حدودنا الجنوبية، نتذكر ذلك ونحن ندرك مدى الخطر الذي يتعرض له وطننا عموماً وجنوبه خصوصاً على ضوء الحشود والتهديدات الإسرائيلية، التي تعد بإعادتنا إلى ما قبل العصر الحجري. وللمناسبة نحيي شهداء الجنوب كما نحيي أبطال الانتفاضة، وكل من نال نصيبه منهم شهادة وفاة، أو خسارة عين أو جرح نازف أو اعتقال، جرّاء ما تعرض له من القمع على أيدي الشبيحة، سواء أكانوا من عناصر الميليشيات، أو المنضوين في بعض أجهزة السلطة، لكنهم يأتمرون بأوامر رؤوس المنظومة الحاكمة وتعليماتها.

السؤال الملح علينا كديمقراطيين ووطنيين ومعنيين ببناء دولة الاستقلال والمواطنة والعدالة الاجتماعية على أنقاض دويلات المزارع والنهب هو: ماذا تبقّى من انتفاضة تشرين… وما العمل من أجل استعادة وهجها بعد أن أطبقت الظلمات على أبناء الوطن، نهباً لمدخراتهم وتفجيراً لمرفئهم وعاصمتهم، وبطالة واستحالة في تأمينهم الحدود الدنيا من مقومات العيش لهم ولأبنائهم وبناتهم. ضمن حال الانسداد والعجز عن الشروع في الإنقاذ ومدخله انتخاب رئيس الجمهورية، كأن الطريق الوحيد الذي ما زال مفتوحاً أمامهم ليس سوى الهجرة ومغادرة البلاد وإرسال ما يقيم أود أهلهم للبقاء على قيد الحياة.

وإذا كان البعض يعتبر أن شيئاً لم يتبق من تلك الانتفاضة المجيدة، إلا أننا نعتقد أن ما تبقّى كثير وكبير، وما فقدته الانتفاضة كثير وكبير أيضاً. وهنا تكمن المعادلة المربكة لدى أي عملية تقويم بعد أربع سنوات، وخصوصاً ونحن نحيا وسط هذا الكم من المآسي والكوارث والخسائر التي ندفع، ويدفع معنا الوطن، ثمنها الفادح.

لا شك أن أبرز ما تحقق من إنجازات أنها أظهرت أن اللبنانيين ليسوا أبناء طوائف ومذاهب وملل ونحل، وأن طموحهم الفعلي أن يصبحوا مواطنين يتمتعون بالحقوق والواجبات المتساوية نفسها. خلاف القاعدة التي تقدمهم أنهم بطبيعتهم طائفيون متقاتلون في أغلب الأحيان، متصالحون في أوقات عارضة. لقد ظهر اللبنانيون واللبنانيات أنهم موحدون تحت علم بلادهم، ومن خلال الشعارات والمطالب والاستعداد للانفتاح على الآخر، الذي حاولت أبواق قوى الطوائف تصويرهم اًعدأً  لها.

هذا أولا ً، وثانياً، لقد نزعت الانتفاضة هالة القداسة عن زعمائنا الذين حاولوا طوال عقود طويلة وضع أنفسهم في مقام المعصومين من الأئمة والقديسين والاولياء والصالحين. إن جميع رموز السلطة وأحزابها خرجت من الانتفاضة مدمَّاة، وقد فقدت عبر الشعارات والهتافات تلك الهالة التي حاولت تقديم نفسها للرأي العام، وظهرت على حقيقتها كمنظومة مسؤولة عن الفساد والنهب والخراب العميم الذي تتعرض له البلاد والعباد.

وثالثاً، عبَّر المواطنون عن مطالبهم ومصادر وجعهم في العام والخاص. فالمطالبة باسقاط النظام الطائفي واستقلالية القضاء ومحاسبة المسؤولين عن نهب المال العام ومدخراتهم في المصارف ومنوعات الفساد بعدما آلت إليه الأمور من بطالة وتراجع في الخدمات العامة وغيره…، كل هذا غيض من فيض من دمج مع المطالب الخاصة التي تعبر عن وجع أصحابها للاستشفاء والعمل وبقاء أبنائهم وبناتهم معهم في وطنهم ومكافحة البطالة وغيرها.

ورابعاً التأكيد على أهمية بناء مؤسسات الدولة على قاعدة المواطنة والعدالة الاجتماعية والمساواة، فالقضاء يجب ألا يعمل على خدمة وتغطية المرتكبين من يكونون في بنية وتراتبية النظام، بل من أبسط واجباته احقاق الحقوق وعدم إفلات المرتكبين من العقاب العادل، وتأمين التعليم والطبابة وحق العمل والضمانات الاجتماعية. وهذه يجب أن تكون متاحة للجميع دون تمييز أو زبائنية.

وخامساً أظهرت الانتفاضة أن المغتربين اللبنانيين هم قوة مضافة لقوة أهلهم في طموحهم إلى بناء وطن يقيهم مرارة الغربة الدائمة. فالتظاهرات والاعتصامات التي ملأت الساحات العامة في سائر المحافظات، شهدت مثيلتها كبريات المدن العالمية من كندا حتى استراليا مروراً بباريس وغيرها. تحركات واعتصامات أكدت أن المغتربين ليسوا مصدراً لارسال الأموال لذويهم، بل هم جزء من قوة التغيير المطلوب مشاركتها في تقرير مصير وطنهم.

يمكن إضافة الكثير من الجوانب الإيجابية الباقية رصيداً في ذاكرة اللبنانيين، أما السلبيات فسأعدد خمسة منها باختصار وهي:

  • ظهور وزن وثقل القوى الميليشياوية الممسكة بخناق الدولة والمؤسسات والتي لا تعنيها الديمقراطية بقليل أو كثير. فقد بلغ بها الأمر أن أعربت عن استعدادها أن تدخل البلاد في محرقة الحرب الاهلية مجدداً من خلال الشعارات والممارسات التي شاهدناها بأم العين، حول مواقع القتال وخطوط تماس الاقتتال في الأعوام 1975 – 1990.
  • ممارسة القمع بأشكاله السافرة والمقنعة، عبر تنظيم عمليات التأديب التي انطلقت بقرارات مركزية لفرق الدراجات النارية الجوالة وحملة العصي والمسدسات وفضلاً عن حملات التشويه الإعلامي، وكيل الاتهامات للمشاركين بأنهم جواسيس ومأجورين وعملاء للسفارات الأجنبية وما شابه.
  • اختراق الأحزاب الطائفية للانتفاضة عبر أشكال من التسلل إلى صفوف المتظاهرين والمتظاهرات في المناطق كافة تقريباُ، وتخريبها العمل النضالي من خلال ممارسة أشكال من العنف الفوضوي المستهدف حينا قوى الأمن أو الجيش والمصارف، وأحياناً تخريب الاملاك الخاصة والعامة، وقطع الطرقات العشوائي على انتقال وتحرك المواطنين في المقام الاول.
  • توجيه الاتهامات للانتفاضة أنها تتبع أحد طرفي انشطار البلد، أي 8 أو 14 آذار، بهدف إفقادها مصداقيتها أمام الجمهور في هذه الجهة أو تلك، وتحوير مطالبها بتشكيل حكومة مستقلة عن أطراف السلطة بالمجيء بأسماء مستترة من المحسوبين على فرقاء الانقسام الأهلي، لإيهام الرأي العام باستجابة السلطة للمطالب.
  • إن تضافر الأزمة الاقتصادية وما تركته من تأثيرات على الأسر عموماُ، وعلى فئة الشباب خصوصاً، إضافة الى انتشار وباء كورونا والطقس الشتوي، معطوفاً على منوعات القمع التي أشرنا إليها وفوضى التحركات وتشرذمها وعجزها عن صياغة برنامج مواجهة يتماشى مع مستوى نضالية التجمعات والقطاعات، كل هذا ساهم في انحسار الانتفاضة عن الميادين والساحات.

بعد هذا العرض المجتزأ لما للانتفاضة وما عليها، يطرح سؤال الأسئلة وهو: ما العمل؟ خلال الحديث عن السلبيات أو نقاط الضعف في الانتفاضة ، لم يتم توقف عند نقاط الضعف السياسية التي عانت منها الانتفاضة، وأوصلتها إلى ما وصلت إليه. والتي تحدد العمل المطلوب باختصار شديد وهي ما يلي:

  • غياب التنظيم السياسي والبنية التنظيمية عن الانتفاضة، وبالتالي فقدان الرؤية المشتركة بين مكوناتها لعناصر القوة والضعف في الحراك.
  • عدم وجود اطار قيادي يتولى التخطيط والتنسيق وإدارة الوضع والدفاع عن الكتلة الصلبة، وعزل القوى الهامشية والمدارة من أعداء الانتفاضة.
  • انعدام أي شكل من أشكال التنسيق بين مكونات الانتفاضة. ولعل ما حدث لاحقاً (خلال الانتخابات النيابية) أكد أن القوى والمجموعات ازداد تبعثرها يوما بعد يوم، ما أفقدها زخمها النضالي وطاقتها التمثيلية سياسياً ومجتمعياً.
  • فقدان التمثيل الاجتماعي القطاعي، فالمشاركون في الانتفاضة لم يمثلوا قطاعات عمالية وفلاحية وطلاب وأرباب مهن حرة وموظفي القطاع العام، بل كانوا منخرطين كأفراد في التحركات، بينما النقابات والروابط والاتحادات كانت وما تزال أسيرة لدى القوى الطائفية.
  • وأخيراً غياب الاستراتيجية المدروسة للاحتجاجات، وعجزها عن الارتقاء إلى المستوى السياسي العام، وبالتالي القدرة على تحقيق إنجازات ميدانية ومطلبية محددة. والأهم هو وهم سقوط النظام واستسهال الحلول محله واستخدام العنف العشوائي وغير ذلك الكثير. ومع كل عملية إلقاء قبض على بعض المشاركين، كانت تتمحور المطالب على المطالبة باطلاق سراح المعتقلين، بدل رفع وتيرة المطالب إلى المستوى السياسي والبنيوي وتحقيق منجزات.

إن تجديد الانتفاضة ما يزال يمثل حلماً لكل الذين ساهموا وهم على استعداد متجدد للمساهمة في هذا الحراك. وهو حلم وطني بامتياز باعتباره السبيل الديمقراطي والسلمي الوحيد المتاح للإنقاذ، والخروج من مستنقع المخاطر التي تتهدد المواطنين سويا كشعب ودولة ووطن وحقوق.

Leave a Comment