صحف وآراء مجتمع

“المجتمع العقابي” لفوكو.. نحو استكشاف الوظائف الإنتاجية للعقوبة

محمود شريح*

عن “سلسلة ترجمان” في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات (الدوحة/ بيروت)، صدرَ مؤخرًا كتاب “المجتمع العقابي” لميشيل فوكو (1926 ـ 1984)، وهي دروسٌ ألقاها هذا المفكّر الفرنسي الرائد في الكوليج دو فرانس (1972 ـ 1973)، نقلَها إلى العربية نصير مروّة، وراجعَها وقدّم لها الزواوي بغوره. في الكتاب ثلاثة عشر درسًا هي محاضرات تندرجُ تحت خانة تصفية حسابات أرادَها فوكو مع معاصريه، سيّما مع أُستاذه لوي ألتوسير، ومع كلود ليڤي شتراوس، وجورج باطاي، وإنْ خرجَ فوكو على المألوف في الفلسفة المحضة فالتفتَ إلى المهمّشين والمشرّدين والمهرِّبين واللصوص والمجرمين وقطّاع الطرق والمنبوذين، في عودته إلى نصوصٍ لا تنتمي إلى الفلسفة، وإنما إلى تقارير الشرطة والإداريين والمخبرين وفقهاء القانون.

في درسه الأوّل، يعيدُ فوكو النظر في فكرة الإقصاء التي طرحَها كلود ليڤي شتراوس في أبحاثه الأنثروبولوجية، وكذلك فكرة الاختراق التي اعتمدَها فوكو نفسُه في دراسته فلسفة باطاي، فيما شرعَ في درسه الثاني في نقد مفهوم الحرب الأهليّة عند هوبز، باعتبارها حرب الكلّ ضدّ الكلّ، وفي درسِه الثالث انتقلَ فوكو إلى تصوّرِ المجرم كما ظهر في القرن التاسع عشر بوصفِه عدوًّا للمجتمع، بناءً على المفهوم السياسي الناهض على فكرة العقد الاجتماعي، كما وردتْ عند هوبز، ولوك، وروسّو، فيما حلّل فوكو في درسِه الرابع الظواهر المُرتبطة بالإجرام والتسوّل والتشرّد والبطالة والفقر، مستندًا على دراسات اقتصادية، سيّما تلك الوافدة من المدرسة الفيزيوقراطية.

في درسِه الخامس، بحثَ فوكو في موضوع السجن، بوصفه عقوبة العصر الحديث التي ظهرت في القرن الثامن عشر، مبيِّنًا المبادئ القانونية التي تجعلُ المجرم “عدوًّا للمجتمع”، ثم فسّر في الدرس السادس مفهومَ السجنِ القائم على الأجر ضمن منظومة الاقتصاد الرأسمالي، وفقًا للتحليل الأركيولوجي ـ الجينيالوجي الذي تميّز به. ولذا خصّصَ فوكو درسَه السابع للسجن الإصلاحي الذي وُلد منه السجن بمعناه الحديث والمعاصر، فيما توقّفَ فوكو في درسِه الثامن عند التجربتين الإنكليزية والفرنسية، وعملية صعود النظام الإكراهي الجديد القائم على أساليب التهذيب والأوامر الملكيّة، وكيف تولّتْ الدولة، بعد الثورة الفرنسية، هذا النظام الإكراهي في القرن التاسع عشر، ولكن باسم جديد هو السجن، وما أدّى إليه من ظهور لما سمّاه فوكو “المجتمع العقابي”.

في درسِه التاسع، أعادَ فوكو النظر في ظاهرة الانتفاضات الشعبيّة ومحاولة البرجوازية الصاعدة قمعها، والتركيز على ما سمّاه اللاشرعيّات الشعبيّة، فأعطى فوكو في درسِه العاشر أمثلةً عن أشكالِ الصراع الاجتماعي الذي خاضتْه الطبقات الاجتماعية، بخاصّة الصراع بين اللاشرعيّات الشعبية والطبقة البرجوازيّة، فشخّصَ فوكو في درسِه الحادي عشر طبيعةَ العلاقة التي أجرتها السُّلطة بين الطبقتيْن المتناحرتيْن، الشعبية والبرجوازية، والخوف الاجتماعي الذي رافقَ تنظيمَ النظامِ العقابي، وعبّرت عنه كتابات تاريخية وأدبية، فاستكملَ تحليلَه في الدرس الثاني عشر مبيّنًا العيوبَ التي تشكو منها الطبقة العاملة. وعمّم في درسه الثالث عشر والأخير نموذجَ السجن على المجتمع من خلال مؤسّسة الدير والثكنة والمصنع، كما اتّضح له ذلك من البرنامج اليومي للعامل المقيم في المصنع، والذي لا يختلف عن نزيل السجن أو الراهب في ديره، أي ما عزّز أطروحة فوكو عن السُّلطة التأديبيّة القائمة على نموذج السجن، وعن السُّلطة بوجه عام، والتي تتّسم بجملةٍ من السِّمات الأساسية، ومنها: إنّ السُّلطة لا تمتلكُ وإنما تُمارسُ، ولا تسكنُ في أجهزة الدولة، وإنما تنتشرُ في نسيج المجتمع.

دروسُ فوكو هذه التي تحمل اسم “المجتمع العقابي” تقعُ في خطّ انطلاق مشروع البحث الذي وضعَه فوكو خلال سنته الأُولى في الكوليج دو فرانس، والمتمحور على التحليل التاريخي للأشكال القانونيّة والسياسيّة التي تُنتجُ مفاعيلَ الحقيقة، التي تأتي أيضًا ضمن امتدادات اهتمامِه القديم العهد بالمعارف المقترنة بالتقنيات “التقسيميّة”؛ تقدّم هذه الدروس محاولةً أُولى لرسم الخطوط العريضة لنظام الحقيقة المُقترن بالشكل القانوني والسياسي للمجتمع المعاصر، فالواقع أن المسألة هنا هي مسألة دراسة شكل قانوني وسياسي أكثر مما هي دراسةٌ للسجن نفسه، إذ يصرُّ فوكو على القول إن هذا الشكل ـ سجن هو أكثرُ من شكلٍ معماري، إنه شكل اجتماعي وقبل ذلك بسنتين، أي في دروسه حول إرادة المعرفة شرع فوكو في تحليل العلاقة بين الحقيقة والأشكال القانونية، وذلك بدراسة اختبار القوّة بوصفه نمطًا للتحقّق من الحقيقة والصدقية في المعركة اللاأدرية في “إلياذة” هوميروس، ودراسة التحقيق أو الاستقصاء في حالة “أوديب ملكًا” لسوفوكليس، وأخيرًا مسألة النقد، أي العِمْلة، بوصفها مقياسًا للحقيقة.

وتدلّ دروس فوكو هذه في “المجتمع العقابي” على حدوثِ قطيعةٍ مع بعض التحليلات السابقة، ومنعطفٍ نحو استكشاف الوظائف الإنتاجية للعقوبة. جاءت دروس 1972 ـ 1973 تتويجًا لحقبة من أكثر الحِقَب النضالية التي عاشَها فوكو نشاطًا وحيويّة، ولا سيّما في مجال العقوبة والسجن، وهي إلى ذلك حقبة يرى فوكو أنّها كانت حقبة قمعيّة في فرنسا.

ترجمة نصير مروّة لدروس فوكو (1972 ـ 1973) في “المجتمع العقابي” دقيقة ومُحكمة، وإسهام مهم للغاية في نقل الثقافة الفرنسية إلى العربية، مع ثبت بالمراجع الفرنسيّة اللازمة، إضافةً إلى مراجع بالعربية أوردَها مُراجع الترجمة، الزواوي بغوره، فجاء “المجتمع العقابي” ترجمة كاملة الأوصاف، محتوى وأسلوبًا ومرجعية.

*نشرت في العربي الجديد في 27 / 11/ 2022

Leave a Comment