ثقافة صحف وآراء

نقاش حول الجمع بين الليبرالية والإشتراكية، وهل من علاقة بينهما؟

بول طبر

 إن هذا المقال كناية عن محاولة “تفكير بصوت عالٍ” في اطار البحث عن معالم هوية جديدة ليسار ديمقراطي يرفض أن يتم حصره بين خيار النظام الرأسمالي بمختلف أشكاله وبين الخيار الاشتراكي وفق النموذج  السوفياتي الذي سقط أو النموذج الصيني القائم بكل التباساته.

ننطلق من اللحظة الراهنة لنجد أن الإنهيار شبه كامل مع غياب الحد الأدنى من شروط الحياة الكريمة لأغلبية الشعب في لبنان. ورغم ذلك توجد عدة عوامل تمنع من الإنزلاق إلى الفوضى والنبذ الحاسم للطبقة الحاكمة بالكامل (معالجة هذه المسالة وتعيين سبل تخطيها يتطلب مقالاً آخراً).

وهناك إتفاق بين غالبية الشعب اللبناني على تعيين المشاكل التي يعانون منها، أكانوا من المؤيدين لحكامهم أم من المعارضين لهم. من جملة هذه المشاكل: غياب دولة القانون وفصل السلطات، تطييف الدولة، تفشي الزبائنية، محاصصة السلطة ومواقع النفوذ وموارد الدولة، إنتشار الفساد، غياب المواطنة وبناء نظام على أساس المساواة في الحقوق والواجبات، ضمور حاد لفرص العمل، إرتفاع مطرد لنسب المهاجرين، لا سيما هجرة الكفاءات والفئات العمرية الشبابية، انهيار البنية التحتية للخدمات العامة من ماء وتعليم وطبابة واستشفاء وطرقات ونقل عام وضمان إجتماعي، تدمير البيئة.

هذا الإتفاق ليس صدفة، وإنما حصيلة متراكمة من الكلفة الباهظة التي دفعتها فئات واسعة من الشعب اللبناني عبر السنوات الماضية، والمتأتية عن نظام سياسي طائفي متداخل ومتحالف في الوقت نفسه، مع نظام رأسمالي يخدم أساساً أصحاب رؤوس الأموال الكبيرة ووكلائهم الخارجيين.

تاريخياً كان الرد على مشاكل النظام في لبنان بالدعوة لإلحاقه بالتيار العروبي الذي تمثَّل بالناصرية والبعث، ولاحقاً بـ “الثورة” الفلسطينية. وكان القاسم المشترك لهذه الأطراف الثلاثة قبل أن يتم تدريجياً تدجين مصر الناصرية وسقوط حكم البعث في العراق وتراجعه في سوريا، ومحاصرة “الثورة الفلسطينية”، هو المطالبة بالإستقلال الوطني للدول العربية ومنها لبنان الذي كان يعتبر تحت السيطرة الغربية بصورة غير مباشرة بعد نيله الإستقلال عام 1943. بالطبع لم يكتب لهذه المعارضة النجاح، وأخذت قواها بالضمور والتراجع في لبنان ليحل مكانها معارضة ذات قاعدة وهوية طائفية ملتبسة بالمطلب الوطني المعارض لشروط العلاقة المنسوجة مع الغرب التي تتبناها القوى الطائفية المواجهة.

هذه المعارضة القومية في لبنان لم تهتم كمثيلاتها في الدول العربية، لا بالمسألة الديموقراطية وتداول السلطة والتعددية السياسية، ولا ببناء المواطنة الحرة والمتساوية في الحقوق والواجبات. لا بل أكثر من ذلك، كانت هذه الأمور منبوذة وتعتبرعديمة الفائدة، وتعود إلى الغطاء الإيديولوجي الذي يستخدمه الغرب لسيطرته على دول “العالم الثالث”.

وكذلك كان الأمر بالنسبة إلى الشيوعيين في لبنان (حزب ومنظمة أساساً)، إذْ كانوا من المطالبين بتحقيق التحرر من السيطرة الغربية على لبنان، ولكن مع الإضافة بأن هذه السيطرة لها قاعدة مادية تتمثل بالفئات الطبقية المهيمنة على الإقتصاد في لبنان، وبالتالي لا تحرر وطني من دون إنجاز التحرر في الوقت نفسه من سيطرة هذه الفئات، وبناء إقتصاد وطني ـ إشتراكي بقيادة الطبقة العاملة وحلفائها. ومن هنا انطلقت الدعوة لدمج مهام تحقيق التحرر الوطني ومهمة بناء الإشتراكية في الوقت نفسه.

أما الإعتقاد السائد في أوساط هذه القوى المعارضة، فكان يتمثَّل بأن الحرية الفردية والديموقراطية والتداول الحر للسلطة والمواطنة، جميعها أدوات سيطرة في يد النظام الغربي الرأسمالي، ولا حاجة لنا لتبنيها ما دام “حزبنا” يقبض على الحقيقة، ويمثل طليعة الطبقات والفئات المستغلة والمقهورة، لأنه يعي مصالحها بالكامل.

على هذا الأساس، يتبين لنا أن القاسم المشترك بين المعارضة القومية العربية والشيوعية للنظام السياسي في لبنان (وبالطبع المعارضة الطائفية الملتبسة وطنياً – بداية الشارع الإسلامي الوطني ولاحقاً، الشيعية السياسية – هي بالتعريف غير ديموقراطية لتكوينها الطائفي) هو تهميشها لقضايا الديموقراطية وحق تداول السلطة وبناء المواطنة (أي مباديء الليبرالية السياسية)، لا بل إعتبار هذه القضايا لا مكان لها في عملية بناء الدولة الوطنية المستقلة والإقتصاد الإشتراكي. هذا مع العلم أن الشيعية السياسية في صيغتها الأخيرة وخصوصاً عبر ذراعها الضاربة، أي حزب الله الذي أصبح في موقع القيادة والهيمنة وإن “غير المسؤولة”، باتت المدافعة الأمينة عن النظام الطائفي والحكم والتراتبية التي وضعتها في رأس هرم النظام. بينما الاطراف المعترضة على هذه الهيمنة تغرد في سرب استعادة آليات النظام بصيغته الطائفية مع الحصول على “أبر” مغذية من مصادر دولية، ما يضع الطبقات المفقرة في مرتبتها الدونية ويضاعف من فقرها وصولاً إلى زيادة جوعها، ومضاعفة أعداد من هم تحت خط الفقر منها.

أهمية انتفاضة 17 تشرين أنها كانت بحكم تكوين المشاركين فيها والمطالب التي رفعتها، تدمج بين المطالبة بالعمل والعدالة الإجتماعية وبين الدعوة لبناء نظام غير طائفي وغير فاسد وديموقراطي. صحيح أن المطالبة بتوفير فرص للعمل وتحقيق العدالة الإجتماعية لا يرتقيان إلى مستوى بناء إقتصاد إشتراكي، إلا أن تحقيق هذه المطالب يبقى مفتوحاً على تحقيق الهدف الإشتراكي الأبعد، شرط أن يتم إعادة تحديد شروط قيام المجتمع الإشتراكي بصورة مغايرة للإشتراكية المحقَّقة، وللنموذج الإشتراكي السوفياتي الذي انهار في أواخر ثمانينيات القرن الماضي.

هل في هذا الكلام ما ينبيء بتبني الليبرالية كأساس لقيام النظام السياسي المنشود؟

إن الكلام الذي نسوقه أعلاه يقوم على ضرورة التمييز الحاد بين الليبرالية بالمعنى الإقتصادي، وبين الليبرالية بصفتها تشير إلى مباديء سياسية وأخلاقية. الليبرالية بالمعنى الأول مرفوضة لأنها توهم بأنها تطالب بالحرية الإقتصادية، في الوقت الذي تكون فيه تؤسس لنظام إقتصادي يقوم على إستغلال المنتجين. إنها ليبرالية السوق الذي تعتمد على العمل المأجور ليتسنى لأرباب العمل الإستحواذ على القيمة الفائضة، اي الأرباح. فينتج عن هذا الأمر ليس فقط تفاوت هائل في توزيع الثروة والفرص لتأمين حياة كريمة، وإنما أيضاً “تسْليع” الإنسان وتجريده من بعده الإنساني وتدمير البيئة وما إلى ذلك.

في الواقع، يصح القول أن ما أنجزته الليبرالية في السياسة ومجال حقوق الإنسان قد عادت وهدمته وتنكرت له على الصعيد الإقتصادي الاجتماعي. فلا وجود للحرية الفردية القائمة على احترام حرية الآخرين في الجانب الإقتصادي لعمل الأفراد، ولا مساواة في حقهم في التمتع بثمار العمل الذي يبذلونه في ظل إقتصاد السوق والعمل المأجور.

في المقابل، نجد من حيث المبدأ أن الليبرالية بالمعنى السياسي والأخلاقي للكلمة تستكمل وتعزِّز تحقيق العدالة الإجتماعية القائمة على منع إستغلال الإنسان للإنسان، وذلك لأنها تسعى من حيث المبدأ لتوفير نظام حكم يمثل إرادة الشعب، أو لنقل الأغلبية دون التفريط بحرية الجميع في مراقبة ومحاسبة السلطة في الفترة الفاصلة بين الإنتخابات العامة التي تجري دورياً. وهذا لا يعني أن تطبيق الليبرالية السياسية قد جرى بدون مشاكل خصوصاً بسبب الأعطاب المتحدرة من الإجراءات التطبيقية لها ومن تطويعها من قبل أصحاب الثروة والنفوذ الذي يمارسونه على السلطة والقوانين. إضافة، ينبغي عدم الإكتفاء بالمستوى الذي توصلت إليه الليبرالية السياسية في المجتمعات المعاصرة، بل السعي الدؤوب لتطويرها لقطع الطريق على الفساد والتسلط باجتراح المزيد من القوانين والإجراءات الكفيلة بتعزيز الحرية وسيادة الشعب في إدارة شؤونه وتأمين حاجاته، أي تطوير وتعزيز النظام السياسي الديموقراطي الليبرالي.

كذلك يمكن القول أن النظام السياسي الديموقراطي الليبرالي يشكل الإطار الأنسب ليس فقط لتطوير وتعزيز مباديء الديموقراطية والليبرالية، وإنما أيضاً لتوفير الشروط السياسية للتنافس الحر واختبار الخيارات، ومراجعتها بطريقة حرة إلى حين إيجاد الخطوات الأفضل لبناء الإشتراكية، أي لبناء نظام إقتصادي يكون فيه المنتجون للثروة هم المالكون الفعليون لها. إن الإنتقال من المبدأ القائل بأن المنتجين المباشرين للثروة (بمختلف أشكالها) هم المالكون لها، إلى مرحلة إيجاد الصيغ العملية لتطبيق هذا المبدأ، هو عملية معقدة غير واضحة المعالم لأسباب عديدة منها سقوط النموذج السوفياتي وهيمنة راس المال المعولم على النموذج الصيني (من تأميم وسائل الانتاج وحُكم الحزب الواحد، إلى الاندماج بين الحزب والطبقة الرأسمالية المالية)، والتطور الدائم في قوى ووسائل الإنتاج، والظروف الاجتماعية والتاريخية للبلد الذي يختبر هذا الانتقال. وتشكِّل الديمقراطية الليبرالية بالمعنى السياسي للكلمة الإطار الضامن لاشتقاق الصيغ العملية المطلوبة لبناء الإقتصاد الإشتراكي. فلا إمكانية للوصول إلى تلك الحلول أولاً، بمعزل عن مشاركة المنتجين المباشرين للثروة في مختلف قطاعات الإنتاج في عملية توزيع ثروتهم، وثانياً، في غياب نظام سياسي ديموقراطي  يعبر عن مصالح المنتجين المباشرين للثروة وتنافسهم الحر على التطبيق الأنسب للإقتصاد الإشتراكي.

Leave a Comment