صحف وآراء مجتمع

الكيان الصهيوني وخرافة القوّة

*عبد الجبار عكيدي

منذ بداية تأسيس الكيان الصهيوني على أرض فلسطين عام 1948، روّج قادته عدة خرافاتٍ تحدّث عنها بعض من يُطلق عليهم عادة باحثين إسرائيليين، من أبرزهم إيلان بابيه، صاحب كتاب “التطهير العرقي في فلسطين”، وتحدّث عن عشر خرافات إسرائيلية رئيسية، جرى ترويجها للعالم عن أسطورة الجيش الإسرائيلي الذي لا يُقهر.

ومن أهم ما روّجته إسرائيل زعمها أنها خاضت حرب 1948 أمام ستة جيوش عربية مدجّجة بالسلاح والعتاد والرجال، فيما هي لا تمتلك سوى عدد محدود من الضباط والجنود، استطاعت أن تهزم بهم كل تلك الجيوش، في تكريس لإحدى أكبر الأكاذيب والخرافات بأن أقلية يهودية شجاعة تفوّقت على أكثرية عربية. فالوثائق التاريخية التي كشف عنها باحثون وكتّاب إسرائيليون وبعض ضباط الجيش الإسرائيلي الذين شاركوا في تلك الحرب، ومنهم الباحث مردخاي بار أون الذي شارك في حرب 1948 ضابطاً، وفنّد تلك الأكاذيب في دراسة بعنوان “داود مقابل جوليات” أكد فيها أن عدد الجيش الإسرائيلي كان حينها ثلاثة أضعاف الجيوش العربية المحاربة، حيث كان يقدّر عدد الجيوش العربية آنذاك بـ35000، فيما كان عدد جيش الاحتلال المتمثل في عصابات الهاغانا ما يقارب 107 آلاف جندي، كان جزء منهم ضمن الفيلق اليهودي الذي شارك في الحرب العالمية الثانية، وهم متمرّسون وأصحاب خبرة قتالية عالية ومزوّدون بأحدث الأسلحة التي استخدمتها الجيوش الأوروبية في تلك الحرب، وبالتالي، لم يكن يوجد حينها أي توازن في القوى بين جيش الاحتلال والجيوش العربية التي دخلت الحرب، وبوجود خذلان وتواطؤ وخيانة من كثير من القيادات السياسية والأنظمة والحكام وتبعيّتهم وولائهم للغرب.

تؤكّد هذه الكذبة الكبيرة اليوم أن هذا الجيش الذي بنى نفسه على أسطورة أنه لا يُقهر، وخاض حروباً أخرى، مثل حرب 1967 التي كرّست هذه الخرافة، وأنه قادرٌ على أن يتوسّع ويهزم كل الجيوش العربية أمامه، وهذه أيضاً كانت إحدى المغالطات الكبيرة التي جرى ترويجها، إلى درجة أن جزءاً كبيراً من النخب العربية والمثقفين العرب انطلت عليهم، وأصبحوا مقتنعين بها، وبأن هذا الجيش لا يمكن مواجهته، وهذه القناعة أسست لفكر الهزيمة الذي تمحورت ردّات الفعل حوله باتجاهين: يدعو الأول إلى مقاومة هذا الكيان ومواجهته، ودعمت هذا الاتجاه جهات ودول عربية، وأفضى إلى ولادة حركة فتح التي تبنّت، مع فصائل فلسطينية أخرى، العمل العسكري ضد إسرائيل. الاتجاه الثاني الذي كان أيضاً مدعوماً عربياً يقول إن إسرائيل لا يمكن مواجهتها عسكرياً، وبدأ يروّج فكر التسوية والاستسلام وإيجاد حلول غير عسكرية معها.

أما حرب 1973 فقد اتضح أنه لم يكن الغاية منها حرب إسرائيل، باعتبارها خطراً وجودياً، بل كانت حرباً استخدمها النظامان السوري والمصري باعتبارها حرب تحريك المياه السياسية وتحسين مواقع الطرفين في المفاوضات مع إسرائيل. ورغم بسالة الجندي، السوري والمصري والعراقي والمغربي والفدائيين الفلسطينيين المشاركين فيها، إلا أنه فعلياً، وبسبب الاعتبارات السياسية لم يتم استثمار بعض التقدّم والانتصارات العسكرية فيها، فقد جاءت اتفاقيات فصل القوات لمصلحة إسرائيل في هذه الحرب بصورة قاطعة، فكانت هي المستفيد الأكبر منها ميدانيا، بل وضمّت أراضي جديدة إلى كيانها.

أما الحروب الأخرى، ففي ذروة الحرب الأهلية اللبنانية عام 1978، اجتاحت إسرائيل الجنوب اللبناني، وفي 1982 سرعان ما وصلت إلى العاصمة بيروت، وخلال أيام قليلة حاصرتها أكثر من ثلاثة أشهر لتجبر قوات المقاومة الفلسطينية على الخروج منها باتجاه تونس واليمن وأماكن أخرى.

إذاً، الفكرة الرئيسية بُنيت على خداع الرأي العام العربي والعقول العربية، بأنه لا يمكن مقاومة إسرائيل، وهذا ما اتضح أنه غير صحيح، فقد جاءت أحداث 7 أكتوبر لتؤكد أن فصائل المقاومة الفلسطينية المحاصرة منذ 16 عاماً استطاعت أن تنفذ عملاً عسكرياً عجزت عنه الجيوش العربية، وهذا ليس لأن الجندي العربي أقل شجاعة وذكاء من تلك الفصائل، بل لوجود من لعب دوراً  دائماً في محاولة تحطيم إرادة القتال لدى المقاتل العربي في مواجهة إسرائيل، وفي الوقت نفسه، تعزيز أغلب قدرات الجيوش العربية وتجهيزها لهدف أساسي، حماية عروش الأنظمة والحكام من الشعوب، وهذه هي  المعادلة التي حكمت الصراع، وعملت عليها بعض تلك الأنظمة.

ومن أكبر الأكاذيب التي تكفل النظام السوري بترويجها عن أسطورة الجيش الإسرائيلي الذي لا يقهر ما تلقيناه في الكليات العسكرية من علوم التكتيك ومادة الجيوش الأجنبية (الجيش الإسرائيلي)، وما علّمناه للجنود عن التحصينات الخرافية لخطوط الدفاع وجهاز الحواجز الهندسية للعدو، التي لا يمكن لأي جيشٍ مهما عظمت قوته اختراقها. وهنا أتذكر أني سألت الضابط مدرب التكتيك: اذاً ليس أمامنا سوى الإنزال المظلي خلف خطوط العدو… فجاءني الجواب صادماً ومحبطاً، بأن الخوازيق المزروعة حول نقاط الاستناد المعادية ستكون حينها بانتظارنا، وليتبيّن أيضا زيف تلك الخرافة، حين فتح النظام الحدود مع إسرائيل في بداية انطلاق الثورة السورية، في رسالة تهديد أطلقها أحد مسؤوليه “أمن إسرائيل من أمن سورية”.

جاءت عملية طوفان الأقصى لتبني معادلة جديدة نسفت كل ما سبق من دعاية (بروباغندا) وخرافة إسرائيل التي تم ترويجها واقتنع بها كثيرون، ولتعيد خلط كل الأوراق والحسابات، ولتكشف عن قضيتين: أن الجيش الإسرائيلي، رغم وجود الإمكانات الكبيرة وتجهيزه بأفضل أنواع الأسلحة وأكثرها تطوّرا وفتكا، ثبت أن إرادة القتال عند الجندي الإسرائيلي ضعيفة إلى درجة هروب كثيرين منهم من المعارك، وانسحاب كتائب بقضّها وقضيضها من المعارك بقياداتها وجنودها، والحديث عن آلاف من الجنود الذين رفضوا الأوامر العسكرية بالقتال في غزة، فقد شكّل حجم الخسائر الكبيرة لقوات الاحتلال في مواجهة مقاتلين حفاة الأقدام لا يملكون سوى أسلحة بدائية، ضربة كبيرة للفكرة التي جرى ترويجها عن هذا الجيش الأسطوري الذي لا يُقهر.

القضية الثانية أن إسرائيل باستخدامها فائض القوة التي تمتلكها في إيذاء المدنيين وقتلهم بدليل حرب الإبادة الجماعية التي يتعرّض لها سكان غزّة، تحاول تعزيز الوهم أنها قوة لا يمكن لأحد أن يجرؤ على مواجهتها، إلا أن هذا السلوك الإجرامي أعطى نتائج فاضحة لهذا الجيش أنه لا يمتلك أية أخلاق عسكرية أو ضوابط ومعايير ما يُعرف بتعاطي السلاح، وهذا يشكل عاملاً إضافياً لفضح طبيعته وعقلية قياداته الإجرامية المتوحّشة.

وهكذا نرى أن ترويج أسطورة القوة الإسرائيلية التي لا تُهزم لم تأت لتخدم الكيان الصهيوني فقط، بل جاءت أيضاً خادمة لمصالح الأنظمة العربية الحاكمة التي تتحاشى مواجهة إسرائيل، حرصاً على مصالحها الأمنية والسلطوية، وكذلك حرصاً على استرضاء الكيان الإسرائيلي للحفاظ على استمرارية أنظمة الحكم الفاسدة.

*نشرت في العربي الجديد يوم 01 نيسان / ابريل 2024

Leave a Comment