سياسة

السلطة السياسية وصناعة الطائفية ومأزق الانتفاضة

كتب الدكتور بول طبر


    أهمية السلطة السياسية في صناعة الطائفية تعود إلى الدور الضابط والعمومي الذي تلعبه الدولة والممارسات السياسية المرتبطة بها في تحديد “السعر التبادلي” للرساميل الموجودة في المجتمع (أساساً الرساميل الاقتصادية والثقافية والاجتماعية والرمزية حسب بورديو)، وبالتالي الدور الذي تلعبه السلطة في إضفاء القيمة (الشرعية) النسبية لكل رأسمال والرساميل التي تتفرع منه.
   عمومية دور السلطة ووظائف الدولة المتعددة وقيامها بالدور الضابط أعلاه، كل ذلك يعطي الدولة الدور الاساسي في “صناعة” الطائفية.

   بالطبع العناصر التي تعيّن طائفة مجموعة من الافراد لا تصنعها السياسة، بل تعود إلى الحقل الديني المعني. أما تحويل هذه العناصر إلى “مواد” لصناعة الطائفية فانه يستند إلى مدى اكتساب تلك المواد (والمعنيين في انتاجها في الحقل المخصص لها) لدور سياسي نافذ أو/   وتنامي “رأسمالها الاقتصادي”.

    هذه المقاربة تجنبنا اختزال الطائفية إلى السياسة أو غيرها من العلاقات والحقول، وفي الوقت نفسه تقر بأهمية تفعيلها وتنامي دورها في انتظام باقي الحقول الاجتماعية بالعودة إلى علاقتها بالحقل السياسي والدولة والاقتصاد.

   كيف يمكن فهم الطائفية كمكون من مكونات العلاقات المعنية بالمُعاش؟ أي العلاقات والنظم التي تنظم وتضبط النشاط الاقتصادي؟ وإذا كانت هذه العلاقات والنظم هي رأسمالية بالأساس، أي أنها تقوم أساساً على العمل المأجور والملكية الخاصة لوسائل الانتاج، وتدخل في الوقت نفسه الاعتبارات الطائفية في صياغة بعض الجوانب المتعلقة بمسار عملها، فكيف يمكن ان نقوم بتحديد أدق لتلك العلاقات أو ما يطلق عليه “النظام الرأسمالي”؟
  فالرأسمالية التي تفرض منطق السوق والربحية والتعاقد الحر بين أفراد يتواجهون ويتفاعلون في الشأن الاقتصادي بصفتهم متساوين في الحقوق والواجبات، هي غير الرأسمالية المحكومة بدولة الرعاية الاجتماعية ومقتضياتها المالية والقانونية والخدماتية الخ..
    وهي أيضاً غير الرأسمالية المضبوطة بنظام سياسي فاشي عنصري أو استبدادي، هذا عدا عن الصفة البطريركية التي تسمو جميع هذه الرأسماليات. فكيف بالأحرى عندما نواجه نظاماً رأسمالياً كالنظام الاقتصادي في لبنان الذي تدخل في صياغته العلاقات الاهلية وعلى رأسها العلاقات الطائفية؟ فهل يصح وصفه عندئذ بانه نظام رأسمالي طائفي؟ وهل يسمح الاقرار بذلك بأن نقول إن الطائفة والطائفية هما صنعة ليس فقط سياسية (مهدي عامل وياسين الحاج صالح) وإنما أيضاً هما صنعة اقتصادية؟هذا امر له علاقة بفهم النظام الرأسمالي في تجلياته التاريخية الملموسة، وله علاقة أيضاً  في الحالة اللبنانية، بفهم الطائفة والطائفية، ليس فقط بصفتهما علاقة اجتماعية أهلية وسياسية، بل أيضاً بصفتهما علاقة اقتصادية.

    ما الذي يمنع تشكيل رؤية سياسية- فكرية للمشاركين في انتفاضة ١٧ تشرين تتجسد في برنامج سياسي موحد يرشدهم في عملية تغيير النظام السياسي والاقتصادي في لبنان؟
سؤال يكتسب اهميته لأسباب عديدة منها تعثر الانتفاضة، لا بل تراجع الاندفاعة التي طبعتْ الأسابيع الأولى من تاريخ انطلاقتها، في الوقت الذي لم يحدث فيه أي تغيير فعلي، لا في السلطة ولا في تركيبة القوى السياسية التي تمسك بمفاصلها ومفاصل الدولة (هذا الكلام لا ينتقص أبداً من أهمية الانتصارات التي تحققت لغاية اليوم وآخرها نتائج الانتخابات الطلابية في الجامعات، ولا من أهمية ما يقوم به للآن العديد من المجموعات والأفراد في المواجهة المستمرة مع السلطة ورموزها وأدواتها القمعية).

  جواباً على هذا السؤال، لابد من التركيز على النقاط التالية: أولها التراجع العام للنماذج التاريخية للمعارضة في لبنان، وللمشاريع السياسية التي كانت تحملها تلك المعارضة (الشيوعية والقومية بفرعيها الناصري والبعثي والليبرالية). وقد ترافق ذلك مع تعميق وتعزيز تطييف العمل السياسي بعد انتهاء الحرب الأهلية عام 1989، من خلال تعميم نموذج “المارونية السياسية” كمبدأ عام للانتظام والعمل السياسي لدى القوى السياسية الفاعلة في لبنان. بذلك أصبح لدينا “سنية سياسية” و”شيعية سياسية”، هذا عدا “الدرزية السياسية” التي تشكلت بالتزامن والصراع مع “المارونية السياسية” إياها منذ منتصف القرن التاسع عشر.تراجع المعارضة التقليدية وتعميم الطائفية مدخلاً للفعل والتفكير السياسي، دون تشكل معارضة سياسية جديدة مستفيدة من أخطاء وقصور نظيرتها التقليدية، يعتبر من أهم العوامل البنيوية لتعثر انتفاضة 17 تشرين  2019، وعجزها عن استيلاد رؤية سياسية- فكرية خاصة بها وبرنامج سياسي موحد.
    والأهم في هذا السياق هو احتكام العديد من مجموعات الانتفاضة إلى هذا الطرف أو ذاك من مجموع القوى الحاكمة والمسيطرة في لبنان. وتجلى ذلك في المواقف المتضاربة التي تتخذها المجموعات المشاركة في الانتفاضة: منهم من يريد بصدق إسقاط جميع القوى والأحزاب الممسكة بالسلطة ويرفع شعار “كلن يعني كلن” تعبيراً صريحاً عن هذا الموقف. ومنهم من يرفع هذا الشعار ويستثي منه زعيم أو حزب الطائفة التي ينتمي إليها. ونجد أيضاً من بين المجموعات المشاركة في الانتفاضة أطرافاً توزِّع المسؤولية عن أزمة النظام بصورة متفاوتة على قوى السلطة، كما لو أن تعيين النسب المئوية للمسؤولية السياسية ممكن، مع إغفال تام للصفة التكاملية لتلك المسؤولية في ظل نظام المحاصصة الطائفية (أي نظام المناهبة كما وصفه أحمد بيضون… حكّلّي لحكّلّك). أضف إلى ذلك بعض المجموعات اليسارية التي تريد أن تؤيد حزب الله كمقاومة وتدعو إلى نقده في السياسة الداخلية، وذلك باستخدام القاعدة اللاجدلية التي تقوم على الفصل التعسفي بينهما.

    إن استمرار الأزمة العميقة والمركبة التي يعاني منها النظام والشعب اللبناني، وتمادي عجز قوى الانتفاضة عن إنجاز الحد الأدنى من الوحدة التنظيمية والسياسية في مواجهة السلطة وقواها السياسية يشيران إلى ضرورة تحقيق الخروج التام من تحت السقوف “الطائفية” والقطع الجذري مع خطابها وقيمها السياسية، ومن ثم صياغة الخطاب الوطني الديموقراطي العلماني بوصفه خطاباً يؤمن العدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية والحقوق المتساوية لجميع أبنائه وبناته.  انطلاقاً من كون “الطائفيات السياسية” في لبنان متساوية في مسؤوليتها عن أزمة النظام السياسي والاقتصادي والجفاف الثقافي، وعن قصور الدولة في انتهاج سياسة دفاعية تؤمن استقلاله وتضمن سيادته على كامل الأراضي اللبنانية وحماية ثرواته الطبيعية.

Leave a Comment