سياسة

كي لا تغرق القضية الفلسطينية في مستنقع التفاوض والتطبيع

كتب محرر الشؤون العربية

أثارت خطوة عودة التنسيق و”العلاقات” بين السلطة الفلسطينية ودولة الاحتلال الاسرائيلي حالة استياء واسعة في الوسط الفلسطيني بما فيه داخل حركة فتح نفسها، وخصوصاً بين قيادات اللجنة المركزية للحركة، وكذلك في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، وقد فوجئا بالخطوة، فضلاً عن باقي الفصائل ومجمل الشعب الفلسطيني. وما زاد من وقع المفاجأة محاولة البعض تصوير هذه العودة للتنسيق الأمني بمثابة انتصار فلسطيني، على جاري ما قامت وتقوم به الدول العربية، وفي مقدمها محور الممانعة من تصوير كل هزيمة بوصفها انتصاراً، علماً أنه كان من الممكن تقديمها بالعوامل التي فرضتها بما هي عوامل سياسية في المقام الأول، تشهد عليها مجريات ما يحدث من عمليات التطبيع المتصاعدة في ضوء ما أقدمت عليه كل من دولة الامارات العربية والبحرين والسودان والسعودية قريباُ.

أكثر من ذلك تحمل الخطوة مزيداً من الأوهام حول ملاقاة رحيل ترامب ومجئ بايدن، وتصور أن الأخير يحمل معه نهاية صفقة القرن مع كل ما رافقها من اعتراف بالقدس عاصمة أبدية لدولة الاحتلال ونقل السفارة الاميركية إليها وضم أجزاء من الضفة الغربية وغور الاردن للكيان الاسرائيلي، وحصار منظمة التحرير والشعب الفلسطيني سياسياً ومالياً. وينبع مصدر الوهم من تصور قوامه أن السياسة الاميركية يرسمها شخص الرئيس بمعزل عن مؤسسات الدولة العميقة ممثلة بمجلسي النواب والشيوخ والمجمعات العسكرية والأمنية والاقتصادية الكبرى في دولة متشعبة كالولايات المتحدة الاميركية، يكون القرار فيها محصلة تقاطعات مصالح هذه القوى ونفوذها. وعليه يمكن القول، من المتوقع أن يتابع بايدن من المكان الذي انتهى إليه سلفه من “انجازات” على صعيد المنطقة العربية التي باتت مخترقة حتى العظم بالهيمنة والفعل الاميركي ـ الاسرائيلي على مختلف الصعد. ومع الاعتراف أن بايدن قد يكون أقل شراسة وضغطاً على الجانب الفلسطيني بما فيه العودة إلى تقديم الدعم المالي لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين ـ الاونروا، الا أن هذا التطور لا يعني تحولاً سياسياً لصالح الشعب الفلسطيني وحقوقه المكرسة دولياً بما فيه حقه بالعودة وزوال الاحتلال عن أرضه وإقامة دولته الوطنية المستقلة.

إلى جانب الوضع السياسي الضاغط على السلطة والمجتمع الفلسطيني هناك الجانب المالي كأحد تجلياته، وهو ما لا يمكن الاستهانة بمضاعفاته، خصوصاً وأن المجتمع والسلطة الفلسطينية يعتمدان في تمويلهما إلى هذا الحد أو ذاك على المساهمات الدولية. فالمعروف أن ترامب أوقف المساعدة الاميركية للاونروا البالغة 360 مليون دولاراً، ما قاد إلى أسوأ أزمة تعيشها الوكالة منذ نشوئها. وأرفقها بوقف المساعدات الموجهة نحو مؤسسات المجتمع المدني الفلسطيني وتمويل بعض مشروعات السلطة التي يستفيد منها عدد من الأجهزة الأمنية التي حافظت على تمويلها لها بالسر وليس بالعلن. يضاف إلى ذلك كله توقف اسرائيل عن دفع أموال المقاصة التي تمثل ضرائب جمركية يدفعها المواطنون الفلسطينيون وتجبيها اسرائيل عن سلع مستوردة يستهلكونها، وهي أموال كانت تدفع شهرياً، ثم توقفت بعد أن رفضت السلطة الموافقة على ما أقدمت عليه اسرائيل لجهة حسم مخصصات الشهداء والأسرى في سجون الاحتلال منها. ومن المعلوم أن الاتفاقيات المعقودة بين اسرائيل والسلطة تسمح باحتجاز الأموال لمدة ستة أشهر، أي إلى نهاية الشهر الماضي، وفي حال عدم تحويلها يتم وضعها في حساب إسرائيلي خاص، وهو الإجراء الذي  يجعل عملية استعادتها طويلة وبالغة التعقيد.

وتبعاً لتوقف هذه الأموال عانت السلطة من أزمة خانقة دفعتها إلى خصم 50% من رواتب كوادر السلطة وموظفي المؤسسات التابعة لها، علماً أن قرار وقف قبض المبالغ في حال حسم مخصصات الشهداء والأسرى كان قد أثار نقاشاً لدى العديد من الأوساط الفلسطينية، بالنظر لمضاعفاته على الأوضاع المعيشية في الضفة والقطاع. إلى جانب عجز السلطة عن مواصلة الحصول على ديون من البنوك الفلسطينية لتغطية نفقاتها الملحة. وقد تضافر عاملان ضاغطان على السلطة يتمثلان في الموقفين العربي والاوروبي اللذين كانا يلحان على عودة العلاقات والتنسيق مع دولة الاحتلال، وبالتالي التخلي عن مقاطعة التعامل مع السياستين الاميركية والاسرائيلية الذي حدث منذ جرى الاعتراف بالسيطرة على القدس وضمها . فالدول العربية لم تقم بأي خطوة من شأنها التعويض على السلطة ما فقدته من أموال، والاتحاد الاوروبي “بعث برسائل دائمة لقيادة السلطة مفادها ان التوقف عن تسلم أموال الضرائب من إسرائيل هو خطأ لأنها بالنهاية ضرائب من جيب المواطن الفلسطيني وليست منّة من إسرائيل”.. وقد تضاعفت تحذيراته من خطر انهيار السلطة. كما أنه ليس في وارد التصادم مع اسرائيل وراعيها الاميركي، وإن كان يؤكد على مواقفه في ضرورة وقف الاستيطان وإقامة الدولة الفلسطينية.

الأكثر أهمية في كل هذه المجريات بالنسبة للشعب الفلسطيني يتمثل في الحوار الذي شرعت فيه القيادات والفصائل الفلسطينية في كل من رام الله وبيروت واسطنبول والقاهرة باعتباره السبيل لتجديد الحياة السياسية الفلسطينية المعلقة منذ حوالي العقد ونصف العقد، وكذلك العمل على إعادة صياغة البرنامج الوطني الفلسطيني في مثل الظروف العسيرة التي تجتازها القضية الفلسطينية على مختلف الصعد الدولية والعربية والداخلية كذلك، خصوصاً وأن الاحتلال لم ولن يتخلى ضمن الأوضاع الملائمة عن مشاريعه في الضم والاستيطان، خاصة أن بدأت إسرائيل مؤخراً  ببناء ألفي وحدة سكنية قرب مستعمرة على أراضي جبل أبو غنيم المصادرة، لعزل مدينة بيت لحم عن القدس، وبناء وحدات سكنية للمستوطنين داخل القدس، لربطها بواحدة من أكبر المستوطنات وذلك لفرض المزيد من الوقائع على الأرض. ولا يبقى للفلسطيني، الذي يصادف هذه الأيام يوم التضامن مع قضيته، سوى وحدته الداخلية للبقاء في موقع الصمود، بديلاً عن قيام جهات هامشية بدفعه نحو تضخيم خيارات أقل ما يقال فيها أنها تصب الماء في طاحونة الاحتلال وسياسات الضم والالحاق.

Leave a Comment