سياسة صحف وآراء

الرقص مع الأفاعي قبل تجرع كأس السمّ!

سعيد طانيوس 

موسكو 1 تشرين الثاني 2023 ـ بيروت الحرية

نتنياهو، الذي من الواضح أنه لم يتعلم أي درس من مقتل سلفه اسحق رابين (باستثناء الشفقة على الذات)، ييستيح ببساطة دماء الفلسطينيين… وكراماتهم وأطفالهم، هو وجيش إسرائيل واستخباراتها، في محاولة للنجاة من تجرع كأس السم الذي أدنته حماس من شفتيه يوم 7 أكتوبر.

لن تكون مفاجأة كبيرة إذا اعتبر بعض أنصاره الأكثر تطرفاً، أن اغتيال مستقبله صار أمراً مفروغاً منه.

خطاب نتنياهو بعد السابع من أكتوبر، ولحظة بدء الهجوم البري على غزة، هو حفنة جديدة من الأكاذيب، وإرهاصات الهزيمة النفسية والعسكرية والإذلال والإهانة التي يعيشها، ودليل على تشوشه واضطرابه وخوفه من الهزيمة في غزة والمساءلة التي سيتعرض لها بغض النظر عنها. فحين سأله أحد الصحافيين: لماذ لا تستقيل؟ أجاب إجابة مضحكة وكلها رعونة، قائلا: حماس هي التي يجب أن تستقيل! هذا التخبط جعله سخرية للعالم وكشف تخبطه واضطرابه النفسي وذهنه المشوش وخوفه العميق.

كتب تغريدة قبل يومين، حاول فيها تبرئة نفسه من الصفعة القاسية التي تلقتها إسرائيل، وعبثا سعى لاتهام الاستخبارات العسكرية وقيادة الجيش والموساد بالفشل الذي أدّى لإلحاق أكبر هزيمة بإسرائيل منذ تأسيسها الهجين…لكنه عاد واعتذر وحذف هذه التغريدة، التي قال فيها أن أحدا لم يحذره مما يمكن أن يرتكبه الفلسطينيون الذين أدار ظهره للحد الأدنى من حقوقهم وماطلهم وخادعهم وقهرهم بسيف حليفه الأمريكي والأوروبي، وتنكر لأبسط حقوقهم في الحياة والعيش بكرامة على أرض أجدادهم وأحفادهم ولو بنصف دويلة منزوعة الحقوق والسيادة والاستقلال..والسلاح.

رسالة كاذبة متعرجة تحاول التقليل من تأثير كلماته والادعاء بأنها أخرجت من سياقها، كان الأمر غير مقنع للغاية، لا لقادة الجيش الذي يزج به في محرقة غزة للحفاظ على بقية باقية من ماء وجهه، ولا لقادة الشاباك والموساد وكل أجهزة الاستخبارات التي فقدت ثقتها بنفسها، بعد أن فقدتها بنتنياهو نفسه منذ زمن غير قصير.

عند النظر إلى الوراء، إلى خطاب بنيامين نتنياهو في الجمعية العمومية للأمم المتحدة يوم 23 سبتمبر الماضي، نتذكر الجزء السياسي من خطابه الذي كان محاولة اتهام الفلسطينيين بأنهم لم يستجيبوا لخطته. لقد عوّل على رفضهم، وحصل على الاستجابة. أجرى معهم محادثات مرتين، في العقبة وشرم الشيخ، لإقناعهم بالبقاء تحت الاحتلال… وهو تراجع عن كل ما وعدهم به رابين وبيريز وحتى شارون. كان الهدف تفجير غضبهم على السعودية في اللحظة التي سيتم فيها الكشف عن محادثاته السريّة معها، وأن يخرجوا أنفسهم من اللعبة.

مصدر فلسطيني رفيع قال هذا الأسبوع لمصدر سياسي إسرائيلي: “نعجب بأن لا أحد قد أدرك مدى درامية هذا الأمر”. قدم محمود عباس قائمة مطالب بالحد الأدنى، فهذا هو ما طلبه الأمريكيون، وهذا ما أراد الإسرائيليون أيضاً الموافقة عليه؛ التقدم بالتدريج. نتنياهو بحاجة الآن إلى مواجهة مشكلة غير متوقعة: فلسطينيون يتصرفون بمنطق. خطته هي مواصلة إهانتهم إلى أن ينفجر غضبهم.

“مشكلته”، قال مصدر إسرائيلي له علاقة وثيقة مع شخصيات رفيعة في السلطة الفلسطينية، “هي أنهم يدركون ذلك”. وحسب قول هذا المصدر، فإن السعودية ونتنياهو يخطئون عندما يعتقدون أنه سيكون بالإمكان كم أفواههم بالأموال. صحيح أن الفلسطينيين لا يهمون محمد بن سلمان حقاً، لكن العملية أصبحت الآن جزءاً من مسألة إذا ما سيكون زعيم العالم الإسلامي أم لا.

ظهر نتنياهو متعباً جداً في الأيام اآخيرة. كانت عيونه متدلية، وكان يقاوم السعال المزعج، لكن هذا لم يمنعه من إظهار “الورع”. ولإرساء أسس السلام الخادع، طلب نتنياهو من رئيس السلطة الفلسطينية، محمود عباس، الكف عن تصريحاته المعادية للسامية والتوقف عن تبجيل الإرهابيين. من المؤكد أنه يمكن التعاطف مع هذا الطلب وتوجيهه إلى أعضاء الائتلاف الحكومي الذين ينخرطون في مقتلة ذبح الأطفال والنساء والشيوخ في غزة.

أنهار من الكلمات الكاذبة تتدفق من نتنياهو صبحا مساء: “إيران، إيران، إيران”، والقليل من الخدع (هذه هي القنبلة وهذا هو القابس). عملياً، في الـ 16 سنة أثناء وجوده كرئيس حكومة تحولت إيران إلى دولة حافة نووية، ولم يعد الخط السميك الذي رسمه بمؤشر القلم الأحمر ذا صلة منذ زمن.

قبل تحوله إلى متهم بالإخفاق والفشل والتهرب من تحمل المسؤولية، كان متهما بمخالفات جنائية ما زالت عالقة أمام القضاء، لذلك بدأ يحرض ضد جهاز القضاء وابتدع ما أسمتها تعديلات على دوره للتخلص من أحكامه.

لذا، لم يعد كما كان. يرتبط اسم نتنياهو الآن في العالم المتنور بائتلاف رعب، وعنصري ومفسد ويدعو للضم، ويسعى لتقويض الديمقراطية الإسرائيلية. في هذا الوضع يأتي بمحاكاة ساخرة لبسنيك عندما يقلد جون لينون.

ولإشعال الضوء في أرجاء العالم، لم يتطرق لأكبر أزمة في تاريخ إسرائيل: الاحتجاج الذي يسمع صداه خارج المبنى الزجاجي في منهاتن. صوت التخوفات الداخلية من المستقبل القادم. ولا حتى كلمة مهذبة واحدة عن “ديمقراطية نابضة” بأسلوب الأكاذيب التي نثرها في الاستوديوهات الأمريكية وفي المشاهد التصويرية مع بايدن. وفي نهاية الأسبوع، أجرى مقابلة مع “سي.إن.إن” و”فوكس” ورفض التعهد بالامتثال لنداء الهدنات الانسانية في غزة كما رفض سابقا الامتثال لقرارات المحكمة العليا. هو يصنع الحروب في الخارج ويثير الفوضى في الداخل. ثمة لحظة أصيلة جداً داخل الخطاب سجلت في بدايته عندما أعلن نتنياهو بشفقة – أخيراً لم تعد القضية الفلسطينية مفتاح السلام الدائم في المنطقة. الفلسطينيون خارج المعادلة، هذا رغم أنني قد “حاولت التوصل إلى السلام مع الفلسطينيين”. كل شيء صحيح في هذه الجملة باستثناء كلمة “مع”، التي يجب استبدالها بكلمة “بدون”.

من المؤكد أن حقيقة أن مئات وآلاف من اليهود الأمريكيين، وعدد ليس بقليل من منظماتهم يشاركون هذه المرة، على نحو غير عادي، في الاحتجاجات على المجازر التي يرتكبها في غزة، تجعله مستيقظًا بالتأكيد.

إن الآلية المتشعبة لنشر الأكاذيب التي تعمل لصالح نتنياهو لم تعد صالحة، هو يختلق الآن أعذارًا لفشله وإخفاقه مع جيشه واستخباراته وحلفائه الأمريكيين والأوروبيين.

في الخلفية، بجانب الأزمة الداخلية التي خلقها طوفان الأقصى في إسرائيل، ستكون هناك ثلاث قضايا مترابطة: الجهود المبذولة لكبح البرنامج النووي الإيراني، والمحاولة الأمريكية للتوصل إلى اتفاق تطبيع بين “إسرائيل” والمملكة العربية السعودية، والادعاء السعودي بأن مثل هذا الاتفاق سيتضمن خطوات إسرائيلية مهمة لصالح الفلسطينيين!!!.

ماذا سيقول نتنياهو حين يواجه ربّه؟ وحين يُستدعى إلى جهنم وبئس المصير. وحين يقف في قفص الاتهام للمحاكمة في قاعة صارمة. هناك سينتظره ديفيد بن غوريون وليفي أشكول وغولدا مائير وإسحق رابين وشمعون بيريز ومناحيم بيغن وإسحق شامير وآرييل شارون وغيرهم. هل سيعترف أمامهم ورأسه مطأطأ إلى الأرض بأنه أضاع الملك الذي بنوه في الدولة الهجينة، عندما استحلى الإقامة في مكتب رئيس الوزراء لآطول فترة ممكنة؟ وماذا لو عاجلوه بالقول إنه الرجل الذي افتضحت في ظله هشاشة بيت العنكبوت الذي بنوه على أرض الغير. لن يجرؤ على الإجابة. كيف يفسر لهم عمى الموساد والشاباك وكل أجهزة الاستخبارات؟ كيف يشرح لهم تقاعس الجنرالات وهربهم أمام هجوم شباب مجوّعين ومحاصرين ومقموعين منذ ولادتهم؟.

لم يكن نتنياهو يتوقع هجوم حماس كما لم يكن يتوقع أن تكون نهايته مذلة إلى هذا الحد!. إنها نهاية مذلة إلحاق لاجئين محاصرين بالفقر والعوز والحرمان الهزيمة بدولة مسلحة حتى الأسنان. منذ 7 أكتوبر يستيقظ بيبي فيجد كأس السم في انتظاره. كل الخيارات صعبة. ومؤلمة. وانتحارية. يشعر بالخجل أمام عيون أهل الأسرى. يشعر بما يشبه العار أمام سخرية الجنود الذين استدعاهم لتفادي الكارثة. يكاد لا يصدق ما حدث. هزّ المهاجمون المستوطنات واقتلعوا المستوطنين. اقتادوهم رهائن إلى الأنفاق. أمطروا المدن والبلدات بالصواريخ. لن يقبلوا بأقل من إطلاق جميع الأسرى الفلسطينيين. يطالبون بمكافأة كبرى مقابل شجاعتهم التي هزّت الكيان المدعوم من أوروبا وأمريكا وكل حلف الناتو.

مشكلة نتنياهو أنه لم يقتنع بأن المزيد من القتل لن يحل المشكلة. لآن دولته تقتل الفلسطينيين منذ قيامها ولا يموتون. تشطب جيلاً فيخلفه جيل أشد شراسة. تغتال رجلاً ثم تتجرع السم لاحقاً على يد ابنائه الذين يصبحون أقسى منه. ما أصعب أن يدفعك أعداؤك إلى الموت حنقا في غيضكّ.

نتنياهو أول رئيس للوزراء وُلد على أرض الكيان بعد قيامه اغتصابا، وآخر رئيس وزراء يتحايل ويمكر ويخادع ويماطل قيام دولة فلسطينية إلى جانب الكيان الصهيوني الهجين. في 1997 كان نتنياهو يحلم بجائزة كبرى. وضع “الموساد” على طاولته اقتراحاً مثيراً. اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة “حماس” خالد مشعل الذي يحمل الجنسية الأردنية. اختار “الموساد” تفادي المتفجرات والرصاص بسبب وجود علاقات دبلوماسية بين الأردن وإسرائيل. الاغتيال بالسم وبمادة لا نجاة منها. وفي 25 سبتمبر، انتظر نتنياهو في مكتبه نتائج العملية المثيرة. رشق مشعل بالسم، لكن المنفذين اللذين جاءا بجوازي سفر كنديين اعتُقلا. تحولت العملية إلى كارثة. غضب الملك حسين عميل ال”سي أيه إيه” واتصل بالرئيس بيل كلينتون وهدد بإغلاق السفارة الإسرائيلية. لم يكن أمام نتنياهو غير تجرع السم. تسليم الجانب الأردني الترياق الذي ينقذ مشعل من التسمم القاتل والإفراج عن مؤسس “حماس” الشيخ أحمد ياسين وعدد من الأسرى. وبعد 26 عاماً يطل مشعل بعد عملية “طوفان الأقصى” مطالباً نتنياهو بإطلاق جميع الأسرى الفلسطينيين في مقابل إطلاق الأسرى الذين أخذتهم حماس إلى غزة. قتل أحمد ياسين وعبد العزيز الرنتيسي ويحيى عياش وصلاح شحادة وآخرين ولم يقتل “حماس”.

يتذكر نتنياهو لقاءه الأول مع ياسر عرفات. كان اللقاء شبيها بحفلة تجرع السم. حاول أن يملي على عرفات أجندة اللقاء ليوحي لاحقاً للإعلام أنه حاصره. راح الزعيم الفلسطيني يخلط الأوراق ويغير الموضوع ويوحي بأن لديه أوراق قوة. هل يقول لرابين وبيريز إنهما أعادا إلى الأرض عرفات الذي ذهب الجيش في 1982 إلى بيروت لإخراجه منها وليهرم مع قضيته في المنفى؟ هل يقول إن مرونة عرفات كانت جزءاً من خطته لإعادة ربط المصيرين الفلسطيني والإسرائيلي وبحيث لا تنعم إسرائيل بالأمن إلا إذا عاش الفلسطينيون آمنين في دولتهم المستقلة؟

يضع نتنياهو كلتا يديه على رأسه. أيهما أسهل تجرع السم في غزة. أم أمام لجان التحقيق في استجوابات تشبه الرقص مع الأفاعي وأدهى؟. لا يمكن محو “حماس” من دون محو غزة. وجمر غزة رهيب ويلوح بالتطاير إلى خرائط أخرى. لا المنطقة تستطيع احتمال حرب طويلة ولا العالم يقبل. كأن الهجوم الخارج من الأنفاق أدخل إسرائيل في نفق ما أصعب الخروج منه. كأن القصة من أولها قصة أنفاق بسبب الرهان على شطب الآخر وإنكار الحقائق والحقوق. يعرف أنهم سيرفعون الصوت غداً ويقولون إن ما فعله باتفاق أوسلو وإطلاق الاستيطان على مصراعيه أدخل إسرائيل في نفق مظلم لن تخرج منه إلا بتجرع سم الإقرار بشرعية أقامة دولة فلسطينية مستقلة.

ما أصعب أن يبعد نتنياهو كأس السم عن شفتيه بإراقة المزيد من دماء الأطفال والنساء في عزة! إنه جزار متمرس يشعر أن الرحلة انتهت وأن السكين اقتربت من وريده. وأن الفلسطينيين آخر من يريدون ذبحه، لآن هناك الكثير من أبناء جلدته يتوقون إلى ذلك ويشحذون سكاكينهم، ليس أولهم يائير لابيد ولا أخرهم دونالد ترامب. نهايته ختامها صعب ومؤلم ومريع.

لمزيد من القتل في غزة والضفة والقدس لن يحل المشكلة يا سيد نتنياهو. ليس بإمكان أحد ذبح شعب بالكامل، سلّ أسيادك الأمريكيين عن محاولتهم ذلك في فيتنام، وحلفاءك الفرنسيين عن فشلهم بذلك في الجزائر…الفلسطينيون مهما تقتلهم لا يموتون.

Leave a Comment