صحف وآراء

البابا فرانسيس وتحدي تعريف اليسار في القرن 21 حق الاختــلاف والمسـاواة والبُعد الإنساني في الدين

كتب أحمد مغربي

ربما يفيد في تلمسّ السياق الذي يربط البابا فرانسيس مع السؤال عن تعريف اليسار في القرن 21، التفكير في مجموعة صور تشمل دونالد ترمب (وحركة “كيو آنون” QAnon التي لن تتأخر في أن تصبح مصطلحاً شائعاً) والشعبوية في أميركا والغرب؛ وإيمانويل ماكرون (تلميذ الفيلسوف الفرنسي المعاصر بول ريكور)، ومناداته بتجديد التمسك بقيم النهضة والأنوار أثناء صراعه المعقد مع شعبوية جذرية من جهة، وإسلاموية تقلقل السعي إلى تجديد إسلامي يعمق انخراط مسلمي فرنسا في نسيجها الاجتماعي. (لن نذكر لبنان إلا للتنبه إلى عمق أزمة الحداثة لدى مجمل التراكيب المعنية بها في هذه اللحظة المأساوية والفائقة الخطورة).

في التجربة الباباوية، ثمة جانب “سهل” يتمثل في البعد الاجتماعي لمفهومه عن “كنيسة الفقراء” الذي يشمل ممارساته وخطبه بشأنها، وضمنها تصريحه بأن أشطاراً كثيرة من أفكار ماركس “مسروقة” من الإنجيل. ثمة تفاعل مضمر في تلك المعادلة بين الديني والإنساني. بديهي الاعتراض على هذا الاستنتاج لو إنه استند إلى ذلك التصريح البايوي وحده. ولكن، تجديد العمق الإنساني في الدين (أو الممارسة الفكرية الدينية، تحديداً المسيحية)أمر يصر عليه البابا باستمرار، سواء في أقواله أو أفعاله كغسل أرجل مساجين ومهاجرين مسلمين وغيرهم، ضمن طقس ديني [الفصح] يعتبر في صلب الإيمان. وفي المعنى نفسه، تبرز أشياء أكثر أهمية كالصلاة/التأمل المشترك مع شيخ الأزهر وأحد كبار الحاخامات، والوثيقة المشتركة مع الأزهر عن الأخوة الإنسانية في الدين وغيرها.

في التدامج بين تطرفات شعبوية سياسية (خصوصاً الغرب) ودينية (خصوصاً المسيحية)، يبرز أن نقيضاً عميقاً لها يتمثّل في دعوة البابا إلى أخوة إنسانية تسري في الأديان كلها. توضيح بأن التشديد على الغرب لأنه مهد وحاضنة مشروع الحداثة، ومرد التشديد على المسيحية ضخامة ما أنجزته تلك الديانة في مسار التفاعل مع الفكر الإنساني، منذ بدايات التنوير في القرن الثالث عشر، بل إن كبار مفكري التنوير والنهضة ابتدأوا من اللاهوت المسيحي. مجرد مثل صغير. آنذاك، تحت تأثيرات شتى تتضمن علاقة متشابكة ومتناقضة مع مدرسة إبن رشد، نادى القديس توما الأكويني بتفسير مقولة “خلق الله الإنسان على صورته ومثاله”، بأن ذلك يعني إعطاء الإنسان عقلاً (أو روحاً أيضاً، باعتبار تداخل الكلمتين في اللغات اللاتينية وغيرها)، “على صورة” العقل الإلهي من دون أن يعني ذلك التشابه بينهما، لأن العقل الإلهي مطلق ولا يحيطه عقل الإنسان، بل يعرف وجوده ويؤمن به. شكل ذلك فارقاً مذهلاً في مسار التشكّل التاريخي للفكر الإنساني. ولنلاحظ أن الأمر يتعلق بعقل الإنسان من حيث هو إنسان، وليس المؤمن بدين معين.

في ذلك السياق، يبرز بوضوح المعنى الفارق الذي تتضمنه مركزية الإنسانية لدى البابا فرنسيس، ويوصل (بالأحرى، “يُذَكِّر” لو كنا في أزمنة أفضل) إلى مقولة معروفة عن وجود بُعد إنساني في الأديان السماوية، وذلك أمر شدَّد عليه مثلاً المفكّر محمد أركون. وفي المقابل، ثمة إنطباع بأن البُعد الإنساني بات متآكلاً في القرن الـ 21، في الدين والأفكار “الإنسانية”، بالأحرى في الوضع المعاصر لمسار مشروع العقلانية والحداثة.

في زيارته إلى العراق، بدا أن أبرز ما يشدد عليه البابا يتمثل في الأخوة الإنسانية، بمعنى التعامل مع الإيمان الديني المختلف باعتباره شأناً إنسانياً مشتركاً بين البشر كلهم، ما يتناقض كلياً مع فكرة النظر إلى المختلف دينياً باعتباره عدواً أو نقيضاً أو خصماً، بل التسليم بأن الإيمان المختلف أمر يتوجب قبوله كبديهة. واستطراداً، شدد البابا أيضاً على كون الإنسان أمراً مركزياً في الدين، ما يبتعد عن الإصرار على الهوية الدينية باعتبارها كينونة شمولية، بمعنى أنها تصنع خطوطاً حديّة في تعريف الكائن.

فيما جابت قدما البابا سهل “نينوى”، أقدم تجمع لمسيحيي الشرق خارج الأراضي المقدسة، مشدداً على تلاقي الأديان السماوية كتلك الصلاة المتعددة الديانات التي رعاها في “أور”، مهد التوحيد الإبراهيمي؛ تداول الإعلام الغربي ظاهرة تبرز للمرة الأولى في أميركا والغرب، تتمثّل في التدامج المتصاعد بين نوع متطرف من نظرية المؤامر لدى اليمين الأميركي (“كيو آنون”) وبين التيار الرئيسي لدى “الإنجليين الجدد” في تلك البلاد. بديهي القول أن الحديث عن هذا الأمر يقتضي تعمقاً واسعاً تماماً. في المقابل، لا يصعب تلمس ملامح نقضية للفكر الإنساني الذي صعد مع التنوير والنهضة في الغرب، في الشعبوية المعاصرة غرباً (لننس الشرق وظلماته المتلاطمة). في فرنسا وأميركا وبريطانيا وإيطاليا والنمسا والدول الاسكندنافية وغيرها، صعدت شعبوية ترسم حدود الأفراد بخطوط حدية وعدائية، ويظهر ذلك في الإسلاموفوبيا والعداء للمهاجرين والمغالاة في الهويات و… التشدد في الهوية الدينية. ليس بعيداً رفع ترمب الكتاب المقدس في وجه حركة “حياة السود مهمة”، وربما الأهم في الشعبوية المساندة لترمب هي عدائها للدولة الأميركية (اجتياح الكابيتول مثلاً فاضحاً) وترويجها نظرية مؤامرة مفادها أن نخبة من مثليي الجنس وعبدة الشيطان قد غدت مسيطرة على الدولة الأميركية، خصوصاً الحزب الديمقراطي. ويستكمل ذلك بوجود “حكومة عالمية سرية” تريد السيطرة على أميركا كي تضع ثرواتها في خدمة شعوب اخرى.

مفارقة أن تتقارب صورة الشعبوية مع أحد تيارات الإنجيلية التي تستقي من البروتستانتية. وتذكيراً، اعتبر هيغل الأخيرة “شمس عصر الأنوار” و”خاتمة التاريخ” في تطور “الروح” في الحضارة الإنسانية. مع هيغل، تنفتح نافذة على مسار التفاعل بين معنى اليسار وتجديد الخطاب الديني،  وهو أمر يجدر الالتفات إليه بعمق، خصوصاً في اليسار العربي.

والأرجح أنه من مساحات تجديد معنى اليسار عربياً، تناول البُعد الديني وعلاقته بالفكر الإنساني الذي يغرف اليسار (وكذلك اليمين) من مشاربه، أو يُفترض إنه كذلك.

وفي الحديث عن تجديد الخطاب الديني، ثمة مفارقة في إن الغزالي كاد أن يلامس المعنى المشار إليه آنفاً لدى القديس توما الإكويني، عبر قول الغزالي إن عقل الإنسان يتميز بأن الأشياء تنطق فيه، بمعنى أنه يدرك الأشياء كلها. هل من مفكر إسلامي معاصر يستطيع أن يصنع جسراً بين ذلك كله مثلاً، وبين تفسير الآية “وعلَّم آدم الأسماء كلها”؟ إنه شأن فقهي صرف، لكنه أيضاً من المساحات التي يمكن لتجديد الخطاب الديني في الإسلام أن يشتغل عليها. ومع كل الحذر، إذ لا ينوب اليمين ولا اليسار ولا أي فكر إنساني، مناب/محل الفقه نفسه في تلك المسألة، وإلا يكون الأمر اختراع فقه فرانكنشتايني أو قمعي أو وهمي (في أفضل الأحوال)!

وقد استكمل ذلك بدعوته الى دولة تحترم كل أنواع الإيمان لدى رعاياها، والأهم أنها لا تفرق بينهم فيكونوا متساوين لديها في الحقوق والواجبات. وكذلك تحمي الدولة حرية الضمير/المعتقد (من دون الخوض في مسألة حرية الانتقال من إيمان إلى آخر، وهو أمر يصعب توقعه من تفكير ديني مهما اعتدل وتسامح).

قد تبدو تلك الأفكار بديهية في عين الحداثة، لكن المسألة ليست بتلك السهولة، في زمن تتراجع فيه الحداثة غرباً وشرقاً أمام التشدّد في الهويات الدينية والعرقية. وربما تكون شعبوية أميركا في زمن ترمب مثل واضح تماماً عن ذلك. تذكير بأن تلك المقولات البابوية وردت بعد الحضور الثقيل لتجربة “داعش” في العراق، التي رسمت الهوية الدينية بخطوط حديّة تماماً، فكل ما خارجها كفر ومستباح إقصاؤه وإنهاؤه بما في ذلك الاسترقاق (اعتبار النساء مجرد سبايا وغنائم) أو القتل المباشر.

Leave a Comment