مجتمع

الاحتكارات التجارية الوجه الآخر لطبقة المحاصصة السياسية

كتب محمد قدوح

يطل على اللبنانيين بين حين وآخر أحد نقباء التجار على مختلف أسمائهم وأنواع تجاراتهم وبضائعهم ليعلن عن رفع الدعم عن السلع بعد تمنع المصرف المركزي عن تحويل الأموال للشركات التي ورَّدت البضائع، ما يبرر ارتفاع أسعار مختلف السلع والحاجيات التي باتت تسعّر في اليوم أكثر من مرة. القاسم المشترك بين هؤلاء هو تبرير ساحاتهم مما يعيشه السوق من ندرة مواد وارتفاع أسعار. ويبدو للمشاهد والمستمع أن هؤلاء أبرياء من “دم يوسف” المواطن الذي تتغير الأسعار أمام عينيه بين لحظة وأخرى، بينما ليرته التي يمسك بها من بقايا راتبه وأجره أعجز عن تدبير شؤونه اليومية ضمن الحدد الأدنى لا أكثر ولا أقل، بما هو اطعام أسرته من الأصناف الأرخص سعراً ونوعية متدنية.

مقابل الحضور اليومي لهؤلاء يغيب عن السمع والنظر الوزراء المعنيون، وفي حال ظهورهم النادر، يبشرون بما يعرفه المواطنون من ارتفاع أسعار، ويبررون الجشع الذي لا يمكن أن تحده حدود. أما أجهزة الوزارات المعنية بالرقابة على الخدمات وأسعار السلع ومدى توافرها وأسبابه فلا وجود له. والأسوأ من ذلك كله أن يصبح نقباء التجارات هم “المرجع الصالح” لتحديد أسعار السلع. والكل يعلم أن المصرف المركزي أنفق عدة مليارات من الدولارات على أموال دعم لا تصل إلى المستهلكين، لأنه جرى امتصاصها أو إخفاؤها في أو من مستودعات التجار ومخازنهم، و تحويل القسم الأكبر منها للتهريب نحو الحدود السائبة. وعليه، اختفت السلع المدعومة من الأسواق عملياً قبل اعلان رفع الدعم. والدليل الأبرز هو البنزين والمازوت. ففيما يُصلب المواطنون ساعات على محطات الوقود وتثور بينهم المنازعات، يحدث يومياً أن يتم إيقاف قوافل صهاريج مهربة إلى سوريا.

والواضح أن الطبقة السياسة بعد أن فوضت حاكم مصرف لبنان رياض سلامة القرار الاقتصادي بما فيه تحديد آليات رفع الدعم وتوقيته، قررت أن تتراجع خطوة إلى الوراء منعاً للإحراج ليمارس التجار سلطتهم الفعلية على الناس، ما يؤكد أن هؤلاء التجار هم الوجه الآخر للطبقة السياسية الطائفية المسيطرة. واذا كان من غير المتصور أن يراهن عاقل على حس المسؤولية لدى الطبقة السياسية، ولا سيما وزراء تصريف الاعمال المعنيين بالأمور الحياتية، فليس أمام المواطنين سوى مواجهة هذه الطبقة وممثليها في السلطة التنفيذية وإرغامها على القيام بمسؤولياتها الفعلية، وليس العمل لصالح التجار المحتكرين تحت ذرائع قانونية وما شابه. ومع أن هناك قوانين ناظمة تحدد مقادير أرباح تجار الجملة ونصف الجملة والتجزئة، لكن هذه لا تجد طريقها للتطبيق ما دام السوق قد انفلت عقاله. ثم أن لبنان بحكم انتسابه لمنظمة التجارة العالمية قام بتحرير أسعار السلع بما فيه المواد الغذائية والدواء والمنتجات الزراعية.. لكن الصحيح أيضاً أنه عندما يكون الأمن الصحي والغذائي يواجه الخطر المحدق بما يهدد حياة المواطنين، تستطيع هذه السلطة تعليق العمل ببعض القوانين، وتفعيل بعضها الآخر، وتنفيذ سياسة حازمة تبيح اعتمادها اجراءات فعالة تلجم حالة الفوضى المتصاعدة. والغريب أن هذا السلطة تستسهل استباحة القوانين كما يحدث في استعمال المال الاحتياطي لدى المصرف المركزي وتستعملها في مشروع البطاقة التمويلية. وهذه كما هو معلوم أموال المودعين الموضوعة في المصرف المركزي لضمانة ودائع أصحابها. إن أبسط واجبات السلطة في هذه الظروف هو مواجهة جرائم الاحتكار التي وصلت إلى حدود تهديد حياة المواطنين في دوائهم وحليب اطفالهم. والعمل بالتالي على إيصال هذه المواد الحياتية للمواطنين بأسعارها الفعلية وليس كما يحدث الآن بأسعار استباقية لارتفاع سعر الدولا. فعندما كان الدولار بسعر 10 الآف ليرة كان التسعير يتم على أساس 15 ألفاً وعندما وصل إلى السعر الأخير، كانت السلع تسعر على أساس الـ 18 ألف ليرة، والآن على أكثر من 20 ألفاً. ونتيجة الفوضى التي تسود السوق باتت أسعار السلعة الواحدة تخضع لتسعيرات اعتباطية عدة يقررها المحتكرون وصغار التجار وكل حسب طاقته وقدرته.

الثابت وسط حال الفوضى القائمة هو أن فصول الانهيار الاقتصادي والمالي تعني أمراً واحداً هو عجز ما لا يقل عن 70% من المواطنين عن الحصول على الأغذية الملائمة لعائلاتهم، ما يعني أن مسيرة انهيار الليرة المتتابعة ستكون كالحبل المحكم على رقاب اللبنانيين أكثر من ذي قبل كلما سجل الدولار ارتفاعات جديدة. وهو ما تتعاون بالتكافل والتضامن السلطة السياسية مع الاحتكارات التجارية، التي ظهر أنها على استعداد لقبول اتلاف ما لديها من مواد مخزنة على طرحها بأسعارها للجمهور. ولعل اتلاف كميات حليب الأطقال هو غيض من فيض ما يجري من سرقة ونهب وتلاعب وجشع.

لذا فإن قوى ومجموعات الانتفاضة مدعوة للتوجه نحو القضايا التي تمس الحياة اليومية للمواطنين بدلاً من رفع شعارات كبرى غير قابلة للتحقق، ولا قدرة لدى هذه القوى على فرضها وتحقيقها. إن حمل قضايا الحياة اليومية لمعظم المواطنين من شأنه أن يحفزهم على المشاركة في تحركات انتفاضة متجددة، لأن ما يعانيه المواطن اليوم هو فقدان لقمة العيش وحبة الدواء وقطرة الوقود، ما يوجب على هذه المجموعات العمل على خطين متوازيين الأول نحو تركيز الضغط على السلطة السياسة للقيام باصلاحات فعلية تلجم هذا الجموح الفوضوي، وفرض على الوزراء القيام بواجباتهم بتأمين الأمن الصحي والغذائي والخدماتي للمواطنين. أما الثاني فهو الضغط على كبار المحتكرين والتجار لوقف كل أشكال التلاعب والتخزين للسلع اليومية وتسهيل تهريبها إلى الخارج. قد يكون هذا المدخل محفزاً للمشاركة في فعاليات انتفاضة متجددة تلوح في الأفق، مادامت الأوضاع السياسية والمعيشية تزداد تردياً على إيقاع فشل هذه الطبقة بوجهيها السياسي والاقتصادي في إيجاد الحلول الفعلية للمعضلات المستفحلة يوماً بعد يوم إلى الحد الذي بات الجوع واقعاً فعلياً وليس تشبيهاً مجازياً في بيوت معظم اللبنانيين.  

Leave a Comment