صحف وآراء

الإمبريالية الأميركية مفضّلةً لدى اليساريين الممانِعين

العربي الجديد / دلال البزري / 15 نيسان 2021

نقاط مهمة يثيرها مثقفون سوريون يساريون، في موقع “الجمهورية”، عبر رسالة مفتوحة (27/3/2021): منها إن الثورة السورية هُزمت، وإن إطار ثورة 2011 لم يعُد صالحاً لتعريف الذات، ولا لصياغة التحالفات، أو لاختيار الاصطفافات، فتقترح الرسالة مجموعة من الأهداف والتصورات المتقدّمة. ولكن الطاغي عليها نقدها موقف التجاهل الذي يتّخذه اليساريون الممانعون، السوريين واللبنانيين، من الإمبرياليات المختلفة على أرض سورية حالياً. تعدّد الرسالة هذه الإمبرياليات: روسية، إيرانية، صينية. لا تُعفي الإمبريالية القديمة، الولايات المتحدة، من آثام ارتكبتها في عصرها الذهبي، فيتنام، أميركا اللاتينية، ولا في عصر انحدارها، العراق، أفغانستان.. ولكنها تلاحظ أن دور هذه الإمبريالية “غير مركزي” في الذي يحصل الآن في سورية.

وتتابع الرسالة مآخذها على الممانعين اليساريين: اعتبارهم أن كل حركة تطالب بالديمقراطية في سورية هي بالضرورة من نتاج الإمبريالية الغربية، الأميركية خصوصا، وأن المطالبين بها هم مجرَّد “متحمّسين لقلب النظام”، أو مغفّلين وغافلين عن المصالح السياسية الغربية، ما يسمح لأولئك الممانعين بالسكوت عن جرائم بشار الأسد وحلفائه على أرض سورية، فيما ليس في وسع أحد نكران هذه الجرائم.

وفق أصحاب رسالة موقعة لا يمكن أن ينتمي لليسار من ينحاز، صراحةً أو ضمناً، لنظام الأسد القاتل، ولا من يوجّه اتهامات انتقائية وانتهازية بالـ”إمبريالية” بحجج مستمدّة من تصوّره الخاص لليسار

وتنتهي الرسالة بسحب صفة اليسار عن هؤلاء الممانعين: “أنهم لا ينتمون حقاً لهذا التيار (اليساري). إذ لا يمكن أن ينتمي لليسار من ينحاز، صراحةً أو ضمناً، لنظام الأسد القاتل، ولا من يوجّه اتهامات انتقائية وانتهازية بالـ”إمبريالية” بحجج مستمدّة من تصوّره الخاص لليسار، بدلاً من مناهضة الإمبريالية بصورة متّسقة ومبدئية، وعلى نطاق عالمي، تعترف بالتدخلات الإمبريالية من كل الأطراف، ولا تستثني منها روسيا وإيران والصين”. وبعد إخراج اليساريين الممانعين من صفوف اليسار، تنتهي الرسالة بوصف طبائعهم: “عديمي المبادئ، كسالى، حمقى”. راصدةً مشكلتهم الأساسية، أنها “مشكلة أخلاقية”.

لا يتأخر الردّ كثيراً، بفضل همّة الإعلام اللبناني الممانِع، فيكون ملفاً في أهم منابره. نقتطف بعض ما يسمّيه “ردوده” على الرسالة: أن الذي حصلَ في سورية منذ عشر سنوات لم يكن “ثورة” إنما “أزمة”، وأن هذا “الإعلام” (موقع الجمهورية) الذي صدرت عنه الرسالة مموّل من الغرب الإمبريالي، وأن ثمّة علاقة “زبائنية” بين أصحاب الرسالة والغرب: يعطيهم المال مقابل إطلاقهم مواقف مؤيدة له، وأن هذا “اليسار” الصادرة عنه الرسالة أيّد غزو العراق وأفغانستان، هو نفسه يريد، بعد الغزو الأطلسي لليبيا وسقوط القذافي، أن يحصل ما يشبهه في سورية، وهو يسار جبهة النصرة، صاحب الأدوار “الذَيلية مع المجموعات الإسلامية”، وأن سورية تتصدّى لمؤامرة إمبريالية أميركية صهيونية، فيما المعارضون لنظامها متواطئون معهما.

يحسم كتّاب الإعلام الممانع بأن خصومهم ليسوا يساريين في شيء، بل هم من “اليمين”

وتتوقّف “الردود” عند صفة “الحمقى”، من دون “عديمي المبادئ” أو “الكسالى”، فهي الأخطر عند أصحابها من بين النعوت الأخرى (البلاهة أفدح من قلّة الأخلاق؟). يبحثون عن أصولها، فيردّون الصاع صاعَيْن، على ما يعتقدون: “أنتم .. أنتم الحمقى!”. ودليلهم في كتابٍ من التراث العربي (ابن الجوزي)، أو التراث الفرنسي في كتاب فرنسي (أوغوست بيبل).

ولكن المحور الذي تدور حوله كل الردود، وإنْ بأساليب مختلفة، هو “الصفة اليسارية”، فبناء على ما تقدّموا به من حجج، يحسم كتاب الإعلام الممانع بأن خصومهم ليسوا يساريين في شيء، بل هم من “اليمين”. ومن بينهم، ثمّة من يذهب بعيداً في التاريخ، بحثاً عن نفي يسارية أصحاب الرسالة، في الصراع بين ستالين وتروتسكي، فوصفٌ لأصحاب الرسالة بـ”التروتسكيين”، إلى ما هنالك مما تزخر به أدبيات السجال بين الممانعين اليساريين وخصومهم اليساريين المناهضين للممانعة. والانقسام الأساسي بينهم يعود إلى ما يعتبره الممانعون “أولوية محاربة الإمبريالية الأميركية”، على ما عداها من إمبريالياتٍ مستجدّة ومجسّدة على أرض سورية. فيما الوقائع الجديدة على هذه الأرض فرضت نفسها منذ اندلاع الثورة. اثنتان منهما لا تخطئهما العين المجرّدة، من إيرانية وروسية: جواً وبحراً وبراً. والثالثة، أي الصينية، في طريقها إليهما. ولكنها الآن تحتانية، خلفية، تجارية، “أممية” (الأمم المتحدة، حيث تجهض الصين، صاحبة فيتو، كل قرار لصالح الشعب السوري) إلخ. والغرب في هذه اللعبة يبدو هامشياً، فهو سلّم الملف للإمبرياليات الجديدة، إما لأنه لم يعد يرى في الشرق الأوسط مصالح حيوية له، أو لأن هذه الإمبرياليات، على اختلاف درجاتها وأسلوبها، أصبحت أقوى من الغرب، ليس في شرق المتوسط وحسب.

ما يهمّنا هنا السجال حول من يكون يساريا حقيقيا، ومن يكون يساريا غير حقيقي. وهو يعيدنا قليلاً إلى الوراء، في عزّ صعود اليسار، السبعينيات من القرن الماضي، عندما كان اليسار ينقسم بين “متطرّف” وأقل تطرفاً، وبين “جديد” أو “رسمي” أو “قديم”. والانقسام كان يدور حول التكتيك أو المنهج الأنجع لمحاربة الإمبريالية الأميركية والصهيونية. ولا مرّة تخطى الخلاف هذه الحدود. وفي غالب الأحيان، كانت التحالفات تُعقد بين اليساريين أنفسهم، ذوي الاتجاهات المختلفة، بوجه يمينٍ يدافع عن العكس تماماً. فكانت “الهويات” السياسية واضحة، لا غُبار على تسمياتها.

الآن، اختلفت الألوان. الانقسام بين اليساريين أصبح يتم على قواعد أكثر جوهريةً من التكتيك أو المنهج. بين يسار بقيت عنده الأولوية لمحاربة الأميركيين، ولو لصالح أنظمةٍ لا يعترف لا بإجرامها ومافياويتها، ولا باستبداديتها وعدم أهليتها للحُكم، ويسار آخر، تجاوز انقسامات الحرب الباردة المنْتهية منذ عقود، والتي فرزت العالم بين معسكر الشر، “عدو الشعوب” (أميركا)، ومعسكر الخير “صديق الشعوب” (وقتها الاتحاد السوفييتي الذي أصبح روسيا، بعد انهياره)، فيما كانت الصين تبني نفسها بدأب. .. والآن، صعود أطماع الاثنين، أي الصين وروسيا، أمر بديهي، أمام تراجع أميركا بالتدخل في شؤون غيرها من الدول بغير الأساليب، وبغير الجغرافيا التي عهدتها في سنوات الحرب الباردة.

ثمّة يساران يختلفان على أمورٍ خطيرة ومصيرية. والاثنان يتبادلان “التهم” أن الآخر “غير يساري”

ثمّة إذن يساران يختلفان على أمورٍ خطيرة ومصيرية. والاثنان يتبادلان “التهم” أن الآخر “غير يساري”، وبعضه يذهب إلى “يميني”، من دون تعيين “اليمين” المقصود. ومع هذا التبادل للتهم، يدخل المتساجلون في كلماتٍ وأوصافٍ لا تخدم “الفكرة اليسارية” التي يودّون الاحتفاظ بها. وهذا ما يحدّ من حريتهم في التفكير. إذ تبقى لليسار أطر من التفكير تضعه في مكانٍ ثابت، جامد. لا يستطيع الخروج منها إلا اليساري “الجديد”، الذي يرى في الصين وإيران وروسيا ظواهر إمبريالية جديدة، تستحضر نوعاً آخر من التفكير. والفكر اليساري قد يكون جزءاً منه، وقد لا يكون. والمطلوب من الأكثر حريةً مع الفكر اليساري، من اليساري غير التقليدي، غير المتوقّف عند أعتاب الحرب الباردة، أن يشتقّ من اللغة اسما جديدا، غير “اليسار”، أو أن يعيد تعريف يساريته هو بأكثر مما هو سياسي صرْف.

الإمبرياليات الجديدة الناشطة في الأرض السورية ذات الأوجه والطاقات المختلفة، من روسيا وإيران والصين، ومعها الإمبرياليات الغربية المتراجعة عن العالم، ولكن ذات حياة أيضا في سورية، وإن ثانوية، ناهيك عن التركية .. كل هذا الاشتباك – التشابك على أرض سورية، كل هذا التعقيد، شبه الفوضوي، يحوّل سورية إلى وكْر للأفاعي السامة. يحتاج من يصفه بدقة، ولا يكون همّه، خلال هذا الوصف، أن “يبقى” يسارياً، أو يتخلّى في مسعاه المعرفي هذا عن “يساريته”، أو جزء منها، فكل ما أتى وصفه آنفاً جديد على سورية، وجديد على يسارييها وعلى يساريي لبنان. فيكون بذلك سؤاله: هل يمكن لليسار وحده، كما يعرفه أصحاب القضية، أن يزاوج بين واقع الإمبرياليات الجديدة وحفاظه على يساريته؟ أم تحتاج القصة إلى شيء غير اليسار؟

Leave a Comment