مجتمع

مصير لبنان وتوازناته بين التراجيديا والمهزلة

كتب الدكتور بول طبر

عندما انتهيتُ عام 1989 من كتابة أطروحة الدكتوراة التي تناولت فيها موضوع: “الدولة في لبنان: جدل الوحدة والتفتيت”، توصلتُ إلى عدة خلاصات، ومنها أن الحرب الأهلية في لبنان (1975-1989) قد أسفرت عن مفارقة من جملة ما أفرزته من نتائج ومعطيات جديدة: خسارة المارونية السياسية عسكرياً، وبالتالي فقدانها للموقع المقرر في الدولة والسلطة عموماً، من جهة، ومن جهة أخرى، انتصارها في تعميم النموذج الذي اعتمدته في العمل السياسي منذ ولادة لبنان الكبير عام 1920، وتم تأطيره في ميثاق عام 1943 بالإستناد إلى دستور عام 1926 الذي جعل النظام اللبناني نظاماً رئاسياً.

فما كانت أهم خصائص هذا النموذج في العمل السياسي الذي لازم نشوء لبنان الكبير لدرجة أن هوية الكيان اللبناني أصبحت تتحدد على أساسه؟ دعونا نباشر باقرار ما هو بديهي، أو هكذا ينبغي أن يكون: ليس للأوطان هويات، فالهوية بالتعريف هي صفة تعريف جوهرانية، بينما خصائص تعريف الأوطان، ومنها بالطبع لبنان، هي خصائص تبنى في سياقات تاريخية-سياسية محددة ومتحركة وبالتالي، قابلة للتغيير والتبدل.

فمع نشوء لبنان عام 1920، كانت الخلافات السياسية بين سكانه تطال ليس فقط شرعية الكيان بحد ذاته، وإنما أيضاً طبيعة النظام والسلطة الناشئتين. فمنهم من كان يطالب بالإنضمام إلى سوريا أو المملكة العربية. ومنهم من كان يطالب بوحدة الهلال الخصيب. وانتهى المخاض المحلي والدولي بانتصار خيار تأسيس الكيان اللبناني بحدوده الراهنة، وانكفاء الخيارات الكيانية الأخرى. إلا أن الملفت في هذا الأمر، كان ارتباط هذا الكيان اللبناني بنظام سياسي يكرس سيطرة “المارونية السياسية”، وإخضاعها جميع القوى السياسية غير المارونية لتلك السيطرة وإن بدرجات متفاوتة (كان ممثلو “السنية السياسية” الناشئة الشريك الثاني للمارونية السياسية). وكلما كانت تتم الدعوة لإعادة توزيع السلطة بما يخفِّض من حصة ممثلي المارونية السياسية، كان لبنان كياناً ونظاماً سياسياً يدخل في أزمة.

صحيح أن المعارضات التي شهدها لبنان لم تكن دائماً معارضات تصاغ سياسياً بمنطق طائفي ، وتنتظم قاعدتها الإجتماعية وفق المعايير الطائفية والمذهبية. إلا أن الصحيح أيضاً أن هذه المعارضات (الأحزاب القومية العربية واليسارية والليبرالية بدرجة أقل بكثير) لم تفلح بتكريس طابعها العابر للطوائف، وفرضها لهذا الطابع مساراً جديداً يناهض النظام الطائفي والثقافة الأهلية. وقد أفلحت قوى وبرامج القوى الطائفية المعارضة للمارونية السياسية في الإستفادة من تلك المعارضات ومن توظيفها في “معركتها” الطائفية مع قوى المارونية السياسية ورموزها السياسية. وقد أدى هذا “التوظيف” إلى تعزيز تشكل الطائفيات السياسية لدى الطوائف الأساسية غير المارونية (أي الدرزية والسنية والشيعية السياسية). في المحصلة، ولأسباب عديدة ليس المجال متاحاً هنا لتعدادها، ساهمت هذه المعارضات في “خلخلة” قبضة المارونية السياسية على السلطة ومؤسساتها. الأمر الذي صب في تعزيز قوة الطائفيات السياسية المعارضة وصعودها، وصولاً إلى إنهاء الغلبة التي كانت المارونية السياسية تتمتع بها لغاية انفجار الحرب الأهلية عام 1975.

لكن تبقى الحاجة لتوضيح القول المتعلق باستيلاد الطائفيات السياسية تباعاً، وتكريسها شكلاً طاغياً للقوى التي تعارض النظام اللبناني منذ نشوئه. فمع نشوء لبنان الكبير، ظهرت الفكرة القائلة بأن اللبنانيين يتوزعون إلى طوائف ومذاهب. وتتحدد حقوق أبناء هذه الطوائف بصورة غير متساوية بحيث يمنح النظام اللبناني ممثلي المارونية السياسية إمتيازات حصرية، تمّ التسويغ لها بصفتها “ضمانات” لا بد منها للحفاظ ليس فقط على “الوجود المسيحي”، بل وأيضاً على الكيان اللبناني نفسه. إذن ومنذ اللحظة الأولى لولادة لبنان وتأسيس نظامه السياسي، كان التعامل السياسي مع “اللبنانيين” بحكم هذا النظام والفئة الممثلة له يتم بموجب انتماءاتهم الطائفية. وكان ينبغي على هذه الطوائف، من وجهة نظر الغلبة المعقودة للمارونية السياسية، أن تقبل بحصتها الأدنى من السلطة، وبمكانتها الأقل شأناً في نظام التراتب الإجتماعي والإقتصادي السائد. أفرز هذا الواقع أمران: ألأول التطييف السياسي الحثيث لأبناء الطوائف غير المارونية، تجاوباً مع نظام يشترط على الفعل السياسي “المشروع” أن يكون فعلاً ممثلاً للطائفة التي يصدر عنها. والأمر الثاني وهو وثيق الصلة بالأول: فمع إطلاق ديناميات التطييف السياسي لدى الدروز والسنة والشيعة بوتائر زمنية متفاوتة والمتمحورة في جانب من جوانبها الأساسية حول توزيع الحصص والنفوذ السياسي بين زعماء الطوائف، أصبح من الطبيعي أن تتحول مطالبة هذه “الطائفيات” الصاعدة بحصة سياسية أكبر من تلك التي أعطيت لها منذ عام 1926، وتكرست لاحقاً عام 1943، إلى محفز أساسي للنزاعات السياسية فيما بينها.

هكذا تدرجت “السنية السياسية” من شريك لـ ” المارونية السياسية”، راضٍ حيناً ومتذمر حيناً آخر، وصولاً إلى “الحريرية” التي رفعت شعار “لبنان أولاً” تاركة وراء ظهرها تقاليد استحضار “السنية السياسية” للمشاريع القومية العربية بمختلف تجلياتها، وفي إطار نزاعاتها المزمنة مع المارونية السياسية ومفهومها للكيان اللبناني ونظامه السياسي. وبموازاة هذا المسار، بدأت “الشيعية السياسية” بالتشكل المستقل مع ظهور حركة الإمام موسى الصدر، متفلتة بالتدرج أيضاً، ليس فقط من سيطرة المارونية السياسية، وإنما أيضاً من السنية السياسية التي كانت تحتكر التمثيل السياسي للمسلمين في لبنان. أما “الدرزية السياسية”، وهي الأقدم من جهة التبلور قياساً على نظائرها السنية والشيعية، فإن مسار تشكلها الملتبس لم يختلف جذرياً عنهما. فمن جهة كان بروز الدرزية السياسية المبكر جواباً منطقياً على نشوء الكيان ونظامه السياسي. ومن جهة أخرى، لم يتورع الزعيم الدرزي المميز، كمال جنبلاط، عن مغادرة الخطاب والموقع الطائفي، لا سيما في أواخر ستينيات القرن الماضي وحتى تاريخ اغتياله في 16 آذار عام 1977، والشروع في قيادة مشروع “وطني لبناني” عابر للقوى الطوائفية ذي أفق عروبي منفتح. ومع مجيء وليد جنبلاط خلفاً لوالده الشهيد المغدور، كمال جنبلاط، عادت الدرزية السياسية إلى التصلب، وانخرطت من جديد في اللعبة السياسية الطائفية التي يقتضيها النظام اللبناني.

ولاعتبارات داخلية (وعلى رأسها تعنّت المارونية السياسية في التمسك بصيغة الـ 43، ورفضها القاطع التخلي عن امتيازاتها بوقوفها في وجه المشروع الشهابي التحديثي للنظام اللبناني، ومن ثمَّ في وجه محاولات الإصلاح الذي طالبت به الحركة الوطنية اللبنانية خلال السنتين الأولَيَين من الحرب الأهلية التي اندلعت عام 1975، مترافقاً مع النمو الديموغرافي للطائفتين السنية والشيعية، والتحول الإجتماعي-الطبقي بسبب انخراطهما المتزايد في الإقتصاد الراسمالي ومصالحه، مع نمو القوة المسلحة للمنظمات الفلسطينية على الأراضي اللبنانية وتحالفها مع الزعامات الإسلامية والأحزاب اليسارية، وإقليمية محيطة (وفي مقدمتها الصراع العربي-الإسرائيلي وتداعياته على الأراضي اللبنانية)، انتهت الحرب الأهلية في لبنان والتي دامت من عام 1975 وحتى عام 1990، وأسفرت عن اتفاق الطائف الذي أعاد توزيع مراكز نفوذ السلطة بين زعماء الطوائف. وجاءت السنوات اللاحقة على اتفاق الطائف لتشهد تحويراً صارخاً لبنود هذا الاتفاق، مما أدى إلى المزيد من التعديل في موازين القوى فيما بين ممثلي الطوائف الأساسية في لبنان (الموارنة والسنة والشيعة والدروز).

باختصار، نقول أن نشوء لبنان وجعله كياناً طائفياً بالتعريف عن طريق نظامه السياسي الذي منح الغلبة لـ “المارونية السياسية” حصرياً، قد أسفر عن نشوء وتبلور “طائفيات سياسية” منافسة. بذلك نجحت “المارونية السياسية” بتعميم المبادئ التي اعتمدتها هي بالذات في تحديد رؤيتها وممارستها السياسية، على باقي القوى السياسية في لبنان. إلا أنها وفي السياق نفسه خلقت الشروط الكفيلة بوضع حد نهائي لغلبتها السياسية والإقتصادية والثقافية الأصلية، وذلك من دون أن تقصد ذلك أو أن تخطط له. وبالإستناد إلى ما جاء بقلم كارل ماركس، أخلص إلى القول إن الشخصيات في التاريخ (وهنا أعني رموز القوى التي تصدت لقيادة مسار بناء لبنان الكيان والنظام تباعاً) تظهر مرتين، ففي المرة الأولى تكون تراجيدية (تتويج مسار القيادة المارونية بحرب أهلية مدمرة بين 1975 و1990)، وفي المرة الثانية هزلية (بالإشارة إلى ما وصل إليه لبنان بعد الطائف في ظل السنية والدرزية السياسية مع سيطرة الشيعية السياسية أقله منذ عام 2005 وحتى اللحظة).               

Leave a Comment