سياسة

اغتيال لقمان سليم ورصاص في مختلف الاتجاهات

كتب المحرر السياسي

عملية الاغتيال التي استهدفت الكاتب والباحث والناشر والناشط السياسي والإعلامي لقمان سليم أبعد من مجرد أن تكون جريمة تستهدف شخص الضحية الذي أُطلقت عليه رصاصات في الرأس. صحيح أنها استهدفته شخصاً لألف سبب وسبب وصرعته ، ولكن الأصح أنها استهدفت ترهيب المجتمع اللبناني بأسره، أي  الآخرين. كل الآخرين الذين يرفعون رؤوسهم وأصواتهم في مواجهة القمع الممنهج الذي تواجهه البلاد عبر عمليات الاغتيال المتقطعة، ولكن المستمرة منذ سنوات طويلة. بالطبع لن يصل التحقيق في هذه الجريمة إلى خواتيمه، مثله مثل الكثير من الجرائم المشابهة التي أصابت رؤوساً وأقلاماً ومدافعين عن حرية الرأي وقول الموقف المخالف لما هو سائد من منظومات معروفة،  أوضح من أن يُدل عليها بالبنان أو أصابع الاتهام. أكثر من ذلك في لبنان حتى جرائم القتل الجماعية لا تصل إلى النتائج المطلوبة، بما هي سوق المجرمين للمثول أمام المحاكم، وإحقاق العدالة للضحايا والمكلومين من الأهل والأصدقاء والمجتمع برمته الذي تصيبه الجريمة أيا تكن برضوض معنوية قاسية. لا يمكن لأحد أن يتصور أن بلداً في العالم يعيش على النحو الذي يعيشه لبنان حيث القاعدة السائدة هي إفلات المجرم من العقاب، بإعتبار أن الجريمة تقيد دائماً ضد مجهول. ما يشجعه على الإيغال ومتابعة هذا المنحى في تصفية الخصوم والمناوئين دون أن يطاله يد القضاء. وكأن البلد يحيا في معترك شريعة الغاب حيث الافتراس على غاربه، سواء بكاتم صوت أو بآلة حادة أو بأطنان نيترات الأمونيوم التي انفجرت في المرفأ.

كأن لبنان كما يريده القتلة لا علاقة له بحكم المؤسسات والقانون وما يحمله في طياته من أحكام ومواد تحدد لكل جريمة عقوبة معلومة. هذا ناهيك بشرعة حقوق الانسان التي تضمن لكل أبناء وبنات النوع البشري حق التعبير عن أرائهم ومعتقداتهم واعلانها وممارستها  دون ارهاب أو ترهيب وتصفية. على أن الأرجح أن هذه الجريمة هي علامة فارقة بالقياس إلى الجرائم التي سبقت، وهي بهذا المعنى أشد وضوحاً من الناحية السياسية من سواها. وهذا الأمر لا يمكن إنكاره باعتبار أن المقدمات كانت فاضحة وواضحة لكل ذي عينين، بدءاً من التخوين مروراً بتمجيد كاتم الصوت وتقديس قدراته، وصولاً إلى التشفي بمقتله. منذ أشهر عادت موجة الاغتيال للظهور دون أن تكشف أجهزة الأمن عن خيط رابط بين هذا الكم من جرائم القتل. والمؤسف أن أجهزة الأمن تتباهى بكشف عصابة صغيرة تمتهن سرقة السيارات أو التزوير أو الإتجار بالمخدرات وغيرها. لكنها تقف مكتوفة الأيدي أمام جرائم قرطبا والكحالة وجونية. والأهم أن الجريمة، بل المجزرة التي أودت بحياة أكثر من 206 مواطنين في رمشة عين، ومعهم عدة الآف من الجرحى ودمار ما يقارب ثلث العاصمة بما فيها من مؤسسات صحية واستشفائية وشوارع تراثية ومؤسسات تعليمية … جريمة من هذا النوع الكارثي الذي وضعها في المرتبة الثالثة بين أكبر الانفجارات غير الذرية التي شهدها العالم المعاصر، مجزرة من هذا العيار الثقيل تدور التحقيقات بشأنها في حلقة مفرغة، بينما أهالي الضحايا يؤكدون اصرارهم على معرفة المسؤولين عن مأساتهم دون أن يحصلوا على جواب يشفي ويبلسم جراحهم. ودوماً عندما تتدخل قوى سياسية نافذة ومهيمنة تضيع المسؤولية في متاهات تحقيق لا ينتهي، ثم تحفظ في جوارير الغبار.

عبثاً  البحث عن المدبرين والمنفذين في دولة تتفكك فيها مؤسساتها، ويجري إلحاق أجهزة الأمن والقضاء بالقوى السياسية ومحاصصاتها وحسابات الأطراف الخارجية التي تتبعها، التي ترى مصلحتها الأكيدة في قضاء لا يقضي، وأجهزة لا تسير بالتحقيق حتى مداه وكشف القوى التي تمتهن القتل سلاحاً تستعمله كلما شاءت. وعليه يمكن القول إن جريمة اغتيال لقمان سليم ستظل معلقة على مشجب تحقيق لا ينتهي، أو لا يصل إلى النتائج المتوخاة منه. على أن الارهاب الذي خطف وصفّى لقمان سليم ليس حدثاً عابراً، هو رسالة موجهة إلى كل من يجروء على رفع صوته في “برية” هذا النظام الذي يدار بموجب عقلية طائفية مافياوية سافرة. عقلية تقول كل من لا يمكن تطويعه، يجب محوه من الوجود. و”السلام” على التعددية والتنوع وحق الكلام والاجتماع والحريات الديموقراطية. لكن الموضوع أبعد من جريمة المرفأ في 4 آب المنصرم وما شهدناه بعدها ، إذ لا بد من ربط ذلك كله بما شهدته الانتفاضة التي اندلعت في تشرين من العام 2019 من منوعات وأشكال القمع والترهيب، باعتبار أن شبابها وفتياتها تجرأوا على هز صنم الزعامات المقدسة، لذلك تضافر القمع الأهلي والرسمي معاً من أجل وأدها في مهدها وتطييفها ومنعها من التجذر والتوسع و محوها من الساحات والميادين، والقضاء على محاولتها إشغال الفضاء العام بكل ما يعبر عنه من دلالات ورموز لدى اللبنانيين الطامحين إلى وطن، تصان فيه حرية وحقوق الانسان بالحرية والعدالة والكرامة.

لم يعد ينتج هذا النظام بآلياته المعتمدة سوى طريق تنفيذ جرائم الاغتيال الخاص والعام. يندرج في ذلك عملية اغتيال سليم، كما تنسحب على اغتيال أبو رجيلي وبجاني وآخرين وكل ضحايا مرفأ بيروت.  لذلك بات مستوى الترهيب في هذا المسلسل الدموي يطال كل مواطن بأشكال متعددة، تبدأ من كفاحه من أجل تأمين رغيف خبزه اليومي له ولعائلته، وتصل إلى  حقه البديهي في الاطلاع على الآراء والمعلومات أياً كانت والتفاعل معها قبولاً أو رفضاً.. المقصود لدى الذين قرروا ونفذوا الجريمة ترويع القاصي والداني، وكل من لم يعد باستطاعته أن يطيق هذا االتردي في شروط العيش على هذا النحو الغريزي في البقاء على قيد الحياة، حيث أقصى الطموح هو نجاة الفرد بجلده، إن لم يكن من وباء كورونا، والإذلال اليومي، فالنفاذ من سطوة كاتم الصوت وترك جسد مثقوباً بالرصاص . ولهذا السبب، يمكن القول إن منسوب الإرهاب في هذه الجريمة مضاعف. إذ عندما يُقتل الضحية “يتربى” الآخرون من خلال الخوف على “فضيلة” الصمت وقبول ما تقرره الغرف السوداء. المسدس كاتم الصوت هدفه كتم أصوات من يتجرأون على رفع أصواتهم/هن  وسط هذا الخراب العظيم الذي يكاد يجعل من البلاد أرض يباب مقفرة من النبض وروح الاعتراض.

Leave a Comment