سياسة

سياسة بايدن ومخاطر التسليم بـ “نزاهة” اميركا فلسطينياً

كتب عماد زهير

رحل ترامب  وإدارته عن البيت الأبيض ووصل بايدن إلى سدة الرئاسة. ومع رحيل الأول وتسلم الثاني مهامه انتشرت لدى أوساط واسعة من الرأي العام الفلسطيني جملة تصورات حول عهد بايدن تبشر بعودة العلاقات الفلسطينية – الاميركية، بعد أن قدمت إدارة ترامب ما يفوق تصور أعتى القوى اليمينية في اسرائيل، بدءاً من الاعتراف بالقدس عاصمة موحدة للكيان الصهيوني و بضمه للجولان السوري المحتل وإقفال مكتب منظمة التحرير الفلسطينية وقطع المساعدات عن السلطة الفلسطينية ووكالة غوث وتشغيل اللاجئين – الاونروا والمؤسسات المدنية الفلسطينية، تتويجاً بإعلان صفقة القرن في 28 كانون الثاني من العام الماضي. يضاف إلى ذلك كله رعاية عمليات التطبيع العربية مع الكيان الاسرائيلي في عملية تخلٍ موصوفة عن الثوابت العربية التي أرستها قمة بيروت في العام 2002، والتي نصت على السلام والاعتراف مقابل الانسحاب من الاراضي المحتلة عام 1967 وقيام الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس…

وإذا كان الحصار للسلطة والشعب الفلسطيني هو ما ميَّز عهد ترامب بما فيه الاختراق الاسرائيلي لعمق الدول العربية، ما مثّل قفزة نوعية لكيان الاغتصاب الصهيوني، فالمؤكد أن عهد بايدن لن يكون بالسوء الذي مثله سابقه، لكنه لن يكون كما “يشتهي” الفلسطينيون والعرب بالتأكيد، باعتبار أن ما كشفت عنه المعطيات الأولية يفيد أن الإدارة الجديدة ستحافظ على العديد من الثوابت التي نفذتها الإدارة السابقة من نوع الاعتراف بالقدس عاصمة “أبدية ” لدولة الاحتلال، ومقراً لسفارة بلادها، مع احتمال عودة المساعدات للسلطة والمؤسسات المدنية الفلسطينية والاونروا. وهي بالتأكيد لن تدعم عملية  ضم أجزاء واسعة من الضفة الغربية المصنفة ضمن المنطقة ج، بما فيها غور نهر الاردن لصالح الاستيطان والمستوطنات. مقابل ذلك يجب القول إن اسرائيل طالما اعتبرت بمثابة الركن الأساسي في السياسة الاميركية على صعيد المنطقة منذ أن ورثت كلاً من بريطانيا وفرنسا. وهو ما ينسحب على الحزبين الجمهوري والديموقراطي معاً. بالتأكيد كان أداء ترامب فاقعاً وفجاً، لكن ذلك لا يعني أن شعبويته لم تستند على عوامل وازنة أبرزها دون منازع تفكك وانهيار الدول والمنظومات السياسية والمجتمعات العربية، وهزال الموقف الفلسطيني وتمزقه بين الضفة وقطاع غزة. وكل هذه عوامل باقية في العهد الاميركي الحالي، وهو ما يجعل من حدوث تغيير عميق في السياسة الاميركية أمراً بعيد المنال. وعلى الرغم من الأزمة السياسية المستعصية في اسرائيل فقد باتت القوة الاقليمية الأولى على صعيد المنطقة. أكثر من ذلك تعمقت في السنوات المنصرمة الطبيعة العنصرية للكيان الاسرائيلي واندثر حزب العمل ومعه اليسار، وإنزاح الرأي العام الاسرائيلي إلى اليمين بجناحيه الديني والصهيوني. ما يعني أن الخطوات التي قد تعمد إليها الإدارة الاميركية تبقى تحت سقف رفض حصار السياسات الصهيونية فعلياً، وأقصى ما تستطيعه عودة لتقديم بعض المساعدات وعمليات التواصل التي لن  تستطيع زحزحة هذا اليمين، ودفعه إلى التخلي عما حصل عليه من مكتسبات، لا يشعر أنه مضطر إلى قبولها في ظل انحلال العامل العربي وغياب مواقعه الوازنة، أو اعتبار نفسه مواجهاً بخطر ايراني أكبر من الخطر الصهيوني.

ومع أن القائم بأعمال المبعوث الأميركي لدى الأمم المتحدة ريتشارد ميلز قد أوضح أن سياسة الولايات المتحدة ستكون دعم حلّ الدولتين المتفق عليه بشكل متبادل،  واصفاً الرؤية الأميركية على الرغم من تعرّضها للضغط الشديد بأنها “تظلّ أفضل طريقة لضمان مستقبل إسرائيل كدولة ديمقراطية ويهودية، مع الحفاظ على تطلعات الشعب الفلسطيني المشروعة في دولة خاصّة به والعيش بكرامة وأمان”. وتحقيقاً لذلك فإن بلاده “ستحثّ الحكومة الإسرائيلية والسلطة الفلسطينية على تجنّب الخطوات الأحادية الجانب التي تجعل التوصّل إلى حلّ الدولتين أكثر صعوبة، مثل ضمّ الأراضي والنشاط الاستيطاني وهدم المنازل، والتحريض على العنف وتقديم تعويضات للأفراد المسجونين بسبب قيامهم بأعمال “إرهابية”.  يمكن الدخول في تفاصيل ألغام ما قاله ميلز بوصفه تعبيراً عن سياسة بايدن تجاه مسألة الصراع العربي والفلسطيني – الاسرائيلي، وتأكيده على سياسة اميركا الثابتة المتمثلة في معارضة القرارات أحادية الجانب والإجراءات الأخرى في الهيئات الدولية التي تتناول إسرائيل “بشكل غير عادل” وتعزيز مكانتها ومشاركتها في هيئات الأمم المتحدة والمنظمات الدولية الأخرى. أي أن حدود التغيير في الموقف الاميركي لن تصل إلى إرغام اسرائيل على تفاوض يقود إلى نتائج ملموسة، وتجريدها من حاضنتها الدولية في مجلس الأمن والأمم المتحدة والمحافل الدولية. وهو ما يدفع اميركا لإحباط أي قرار لمجلس الأمن الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة وتحيله إلى مجرد حبر على ورق. بينما كانت المفاوضات التي خاضها الفلسطينيون تدور في حلقة مقفلة دون أن تصل إلى قضايا الحل النهائي بما هي عودة اللاجئين وقيام الدولة المستقلة وجلاء الاحتلال والاعتراف بالقدس عاصمة لدولة فلسطين، بينما الاستيطان والتهويد يتابعان زحفهما دون هوادة.  

وعلى الرغم من كل الظروف التي أطبقت على القضية الفلسطينية في ظل آحادية اميركية مهيمنة على ملف المنطقة، فقد نجحت القيادة الفلسطينية في الثبات عند رفض صفقة القرن والسياسات الاميركية معلنة التمسك بقرارات الشرعية الدولية والعربية ذات الصلة، ومحاوِلةً تطويق التفرد الاميركي بالدعوة إلى عقد مُؤتمر دولي للسلام خلال العام 2021، بمُشاركة الرباعية: الولايات المُتّحدة الأميركية، ​روسيا​، الأمم المُتحدة و​الاتحاد الأوروبي. لكن هذا الطرح لم يستطع اختراق الجدار المقفل ويتحول إلى دينامية فعّالة وضاغطة، ما يطرح على الجانب الفلسطيني الأسئلة الملحة التي تتعلق بقدراته على الصمود وهو ما يمكن أن يتحقق بفرض الوقائع بقوة الموقف الموحد، ومدخله إعادة بناء الوحدة الوطنية، ووضع برنامج يجمع بين العمل السياسي والنضالي، ويعيد تفعيل أجهزة ومؤسسات منظمة التحرير، ويعالج أسس وجذور الانقسام المدمر للصمود الفلسطيني.. ما يفرض هذه المهام هو أن القضية الفلسطينية ليست أولوية على رأس جدول أعمال إدارة بايدن، فقبلها هناك ملفات وملفات داخلية وخارجية متعددة.. ثم إن الاعتماد على حسن نوايا الممسكين بإدارة بايدن ليس سوى نوع من التسليم بعدالة “ملك الغابة” على حد ما قال ابن المقفع عن الثورين الأبيض والأسود.  

Leave a Comment