صحف وآراء

إيران: لعبة الجسد والسلطة والحقيقة

وجيه قانصو*

باتت قضية الحجاب في إيران قضية رمزية شديدة الكثافة وعميقة الدلالة بين طرفي الصراع أو الخلاف في الداخل الإيراني:

بين طرف النظام من جهة الذي يعتبر أن الحجاب مسألة هوية مجتمعية في الصميم، وقضية مقاصدية يقوم عليها الإسلام نفسه. بالتالي فإن التهاون فيه أو التنازل عنه هو تخل عن مهمة النظام “المقدسة” في أسلمة المجتمع، وتعميم قيم الإسلام في سلوك الأفراد ومجمل الحياة العامة. هو تخل يتحول إلى فقدان النظام مسوغَ وجوده وأساسَ مشروعيته.  فالنظام لا يعتبر أن مهمته تدبير أمور  المجتمع فحسب، بل إنتاجه بهيئة مخطط لها مسبقاً ومتحكمٌ بها.  باتت المسألة، بالنسبة للنظام، في بعدها الديني: تحقيق مراد الله في البشر، وفي بعدها السياسي: أن يكون النظام أو لا يكون.

وبين طرف المجتمع الإيراني من جهة أخرى، المرأة على وجه الخصوص، حيث القضية ليست قضية عفة أو احتشام بل قضية حرية وحق اختيار، مساحة شخصية غير منتهكة، منطقة تحقق ذاتي، ملكية جسد تملك المرأة زمامه.  أي لم تعد مسألة تشريع أو قانون بل قضية وجود ومعنى أن تنوجد في هذا العالم. بالتالي، فإن خلع المرأة الإيرانية غطاء رأسها علناً في الساحات العامة، بات أبعد من أن يكون قضية سياسية في تحدي شرعية النظام أو هيبة السلطة، بل هو أبعد من أن تكون معضلة أخلاقية، لأن الفعل الأخلاقي متفرع عن الإرادة الحرة، ومع انتفائها يكون السلوك استجابة قسرية من الإرادة لإكراه خارجي.  باتت مسألة الحجاب، بالنسبة للمرأة الأيرانية،  في بعدها الديني-الأخلاقي: مسألة باعث ذاتي واستجابة طوعية لإرادة الله، وفي بعدها السياسي: حق الفرد في صناعة مصيره من دون وصاية من أحد.

هذا يساعدنا على فهم شعار الحراك في إيران: “إمرأة حياة حرية”. هو شعار وجودي Existential  بكل معنى الكلمة، يشير إلى مستوى خطير من حياة المرأة المنتقصة وحريتها الغائبة والمغيبة، بعد أن بات جسدها موضوع السلطة، وتطويعُ إرادتها مداراً لقدرة تحكم هذه السلطة، وحجابها مدخلاً لترسيخ ما يسميه فقهاء النظام ومفسريه عفة وحشمة ومعياراً لتحقيق مهمة النظام المقدسة.  وبحسب تعبير المرجع الديني محمد علوي جرجاني، الذي وجَّه خطابًا للقوّات الأمنيّة قائلًا: “لا تدعوا نعمة الحجاب تزول، والتعامُل مع عدم ارتداء الحجاب هو مطلب مراجع التقليد. لقد قُدِّم بضعة آلاف من الشهداء وكُلّ هذه التضحيات كي يُحفَظ الإسلام الشرف والحجاب”.

منذ الثورة الدستورية في إيران كانت المرأة حاضرة بفعالية في كل المحطات السياسية المفصلية، ونجحت بعد صراع مرير في أن تنتزع في العام 1963 حق الانتخاب والترشح في الحياة العامة رغم معارضة أكثر رجال الدين، وأن تحصل في العام 1975 على حقوق متساوية في الطلاق والزواح وحق الحضانة ومنع زواج القاصرات، وأن تنشيء تشريعاً يقضي عملياً على تعدد الزوجات.

شاركت المرأة الإيرانية بكثافة في التظاهرات ضد الشاه، وكان العديد منهن يضعن الشادور كرمز لمواجهة التغريب المبالغ به من نظام الشاه، وللتضامن مع المحجبات اللاتي منعن من الظهور بحجابهن في الأماكن العامة.  فعلت ذلك لتؤكد حرية المرأة في طريقة إظهار نفسها في الأماكن العامة. إذا بها تصبح بعد الثورة، فاقدة أكثر مكتسباتها السابقة، حيث ألغي قانون حماية الاسرة الذي شرع زمن الشاه، وأصبح الحجاب قسرياً وإلزاميا يعاقب القانون على عدم ارتدائه، وشرع قانون الرجم، وفتح باب تعدد الزوجات على مصراعيه، وأطلقت حرية الرجال في زواج المتعة، إضافة إلى منح الرجل صلاحيات واسعة على زوجته من قبيل منعها من السفر ومن العمل من دون إذنه، ومن عدم اعتبار اغتصاب الرجل لزوجته جريمة. بل ذهبت الأمور إلى حد إنشاء شرطة للحد مما يسمونه بالحجاب السيء واللباس غير المحتشم، إضافة إلى التعسف في الأحكام القضائية التي تذهب إلى حد اتهام غير المحجبات بتهم من قبيل “العمل ضدّ الأمن القومي والدعاية ضدّ النظام والترويج للفساد والبغاء”.

وقد تم مع بداية النظام الحالي إنشاء ما يسمى “أخوات زينب”، وكانت مهمتهنّ أن: “يقفن في نواحي الشوارع يراقبن التحجُّب ويسببن الرُّعب لبقيّة النساء”. كذلك فقد نزلت بعد الثورة كتائب ولجان الحرس الثوري إلى الشارع لتعميم الحجاب.  يقول الكاتب المصري فهمي هويدي عن الصورة التي رآها بنفسه في هذه الفترة: “اعتبرت السُلطة ضمنًا أنّ الحجاب زيٌّ إسلامي، ملزم للجميع. وقد تولَّت لجان الثورة تطبيق هذا التوجيه ومتابعة الالتزام به في الشوارع. واندفع الشباب في هذا الاتّجاه حتّى أساء بعضهم التصرُّف. وتجاوز حدود النصح والإرشاد إلى الإهانة والتقريع. وقيل لي إنّهم كانوا يستوقفون بعض النساء في الشوارع، ويطالبونهنّ بإحكام غطاء الرأس، أو إزالة الأصباغ من الوجه”.

وقد حث العديد من فقهاء النظام، أمثال جعفر سبحاني، على “الضرب بيد من حديد على كافَّة النساء اللاتي لا يلتزمن بالحجاب، أو يلبسنَ الحجاب السيء غير المتوافق مع شروط الحكومة الإيرانية”. كذلك فقد دافع آية الله أحمد علم الهدى عن ضرب عناصر الشرطة لامرأةٍ بصورة مهينة؛ بسبب خلعها الحجاب: “لا ينبغي استجواب قوّات الشرطة التي لبَّت نداء الشعب في الكوارث المختلفة بسبب خطأ ضابطة، فهم يعملون للتصدِّي لأحد المُنكَرات الشرعية – خلع الحجاب”. أما وسائل إعلام النظام الرسمية فكانت تصف غير المحجبات بــأوصاف تسقيطية تشويهية من قبيل: “فاجرة” و”منحرفة” و”متسيِّبة”.  وقد شجعت السلطة عامَّة الناس على نبذ غير المحجَّبات مجتمعيًا تحت عنوان: “الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر”.

باتت الأمور في إيران في منطقة اللاعودة من الطرفين. هي في ظاهرها صراع إرادات وتحد متبادل بين مجتمع استنفذ كل ذرائع الصبر وموجبات حسن الظن بالنظام، وبين نظام  يرى أن بقاءه يقوم على التمسك بسردية تأويلية صارمة للدين.  لكنها في عمقها مشهد إمرأة قررت أن تعتق جسدها من حقيقة السلطة وسلطة الحقيقة.

*نشرت على موقع المدن الالكترونية الإثنين 2022/12/19

Leave a Comment