سياسة

إنتفاضة 17 تشرين بين احتمال السقوط وإنجاز ثورة طانيوس شاهين

بول طبر

إستأنفت إنتفاضة 17 تشرين ما قامت به فئات وطبقات إجتماعية في مراحل مفصلية أو أساسية من تاريخ لبنان الحديث، وإنما بظروف وأدوات مغايرة عن السابق. سوف أركز في هذا المقال على حدثين تاريخيين شهدهما لبنان، الأول وقع في العقد الأول من النصف الثاني من القرن التاسع عشر (1858)، والثاني في نهاية العقد السادس وبدايات العقد السابع من القرن العشرين (1967-1974).

عام 1858، إندلعت في منطقة كسروان إنتفاضة فلاحية ضد طبقة المقاطعجيين، التي كانت موكلة من جانب السلطنة العثمانية بالإشراف على زراعة الأراضي التي تقع تحت سيطرتها، مقابل دفع الضريبة المتوجبة عليها إلى الباشا الذي يمثل سلطة السلطنة العثمانية.

في المرحلة الأولى من الإنتفاضة، رفع الفلاحون مطلباً دعوا فيه إلى حصر حق ممارسة الحكم على الفلاحين بثلاثة أشخاص من مشايخ آل الخازن، بدلاً من ممارسته من قبل جميع المشايخ المقاطعجيين. إلا أنه بعد إن تمّ انتخاب طانيوس شاهين “وكيل عموم كسروان”، تمّ التخلي عن هذا المطلب، وأُلحق بطرد مشايخ آل الخازن من منطقة كسروان بالكامل.  رفع الفلاحون أولاً، مطلب تعيين شخص واحد من مشايخ آل الخازن كمأمور (حاكم عام)، وجعل باقي المشايخ متساوين مع باقي السكان. وبعد أن رفض مشايخ آل الخازن هذا المطلب، تجذر موقف الفلاحين ليتخلوا من بعد ذلك عن هذا الشرط بالكامل، وأصروا أن يكون المأمور من أبناء عامة الشعب، وليس من طبقة المشايخ المقاطعجية. إضافة، طالب الفلاحون أن يخضع جميع مشايخ آل الخازن لقانون دفع الضرائب بالتساوي مع باقي سكان كسروان (أي ضريبة الأرض والأعناق)، وأن يتوقفوا عن مطالبة الفلاحين العمل بالسخرة، وإلغاء حق المقاطجيين بإصدار الحكم بالجلد والسجن بحق الفلاحين.

أهمية ثورة الفلاحين في كسروان تكمن في أنها أقامت نظام حكم، ولو لفترة وجيزة، يستند إلى مفاهيم ومبادئ على نقيض، إلى حد كبير، من مفاهيم ومباديء نظام الحكم المقاطعجي. إستندت الفترة التي حكم فيها الفلاحون أنفسهم في ظل القيادة العامة لطانيوس شاهين (وقد أصبح “وكيل عموم كسروان”) إلى مفهوم سيادة الشعب والمساواة بين أفراده أمام القانون، بينما كان النظام الإقطاعي يعتبر أن سلطته تنبثق من المقاطعجيين، وتستمد شرعيتها من السلطنة العثمانية وأجهزة الحكم التي تجسدها. لذلك انتخب الفلاحون “الوكلاء” (وقد وصل عددهم إلى 116 بحسب دراسة بوراث المنشورة عام 1966) من خارج طبقة المقاطعجية، واعتبروا أن شرعية الوكلاء تُستَمد من كونهم منتخبين من عامة الشعب. أما الإنجاز الأساسي الثاني، فهو إلغاء التفاوت في الحقوق والواجبات على أساس طبقي وعائلي، والدعوة إلى اعتماد مبدأ المساواة بين أبناء الشعب كافة.

لكن الملفت أن هذه الثورة التي دمّرت الأسس السياسية-الحقوقية والإقتصادية للنظام المقاطعجي في كسروان، وتباعاً في جبل لبنان، أو ما عرف لاحقاً بالمتصرفية، استولدت الطائفية بحكم السياق التاريخي والبنى الإجتماعية-الطبقية التي حدثت من ضمنها، وحولتها إلى إطار تنظيمي للثوار الفلاحين وحلفائهم، ولاحقاً جعلت منها (أي الطائفية) قاعدة لتقاسم السلطة التي نشأت مع قيام نظام المتصرفية، وذلك بعد نهاية الصدامات الأهلية العام 1860 (لقراءة بحث جدي ومفصل عن ثورة طانيوس شاهين، أنظر، “ثورة الفلاحين في كسروان، 1858-1961″، يهوشاوا بوراث، مجلة أبحاث آسيوية وأفريقية، جزء 2، 1966، من ص. 77 إلى 157، باللغة الإنكليزية).

بعبارة موجزة، بدأ الفلاحون، بدعم من الطبقة البرجوازية الناشئة والكنيسة المارونية، يطالبون بسيادة الشعب والمساواة بين أبناء كسروان، وانتهى بهم الأمر مدمرين للنظام المقاطعجي، دون التمكن من تغليب منطق المساواة في الحقوق والواجبات بين جميع أبناء جبل لبنان.

في الشهر الرابع من العام 1975، اندلعت حرب أهلية في لبنان لم تخمد أوارها حتى عام 1990. وكان اتفاق الطائف، وما أملاه من تعديل للدستور اللبناني، النتيجة السياسية الأبرز لهذه الحرب، وما أفرزته من تعديلات في موازين القوى الطائفية التي أعادت انتاج سيطرتها السياسية على الدولة والمجتمع في لبنان. إلا أن السنوات التي سبقت اندلاع هذه الحرب، (أي الفترة الممتدة من بعد هزيمة حزيران، عام 1967، إلى شهر نيسان، عام 1975)، كانت حافلة بالتحركات السياسية المطلبية العابرة للإعتبارات والإنقسامات الطائفية. وطالت هذه التحركات القطاع العمالي (أبرز التحركات العمالية كان إضراب عمال غندور، 1972)، والزراعي (التظاهرة الأهم لدعم مزارعي التبغ وقعت في كانون الثاني، 1973) وقطاع التعليم (شهد لبنان ما بين عامَي 1967 و1975 سلسلة من التظاهرات شارك فيها طلاب المدارس العامة والخاصة والمهنيات والجامعات – وصل عدد المشاركين 25 ألفاً في بعض الأحيان-) كما الطاقم التعليمي التابع لتلك المؤسسات التربوية (مثلاً أضراب أساتذة المدارس العامة عام 1972، حيث شارك فيه 16 ألف معلماً ومعلمة) (لمزيد من التفصيل، أنظر كتاب فواز طرابلسي، تاريخ لبنان الحديث: من الإمارة الى اتفاق الطائف، الفصل العاشر، دار رياض الريس، 2008).

ومما لا شك فيه، أن الهيئات النقابية والمهنية والطلابية التي شاركت بزخم في جميع هذه التحركات، كما الأحزاب اليسارية التي دعمتها وتبنت مطالبها، وصولاً إلى تشكيل الحركة الوطنية اللبنانية وصياغة برنامجها السياسي الإصلاحي، قد نشأت واتسعت دائرة نفوذها على إيقاع الأزمات المتتالية التي عاشها لبنان خلال العقد الذي سبق تاريخ اندلاع الحرب الأهلية عام 1975. إلا أن جميع هذه القوى وعلى رأسها الأحزاب اليسارية وجميع القوى والمجموعات المعارضة للنظام السياسي والإقتصادي آنذاك (طالت حركات المعارضة للنظام السائد الكنائس المارونية والكاثوليكية والأورثوذكسية، وبعض الأديرة)، لم تتمكن من تغيير النظام الطائفي، ولا الإحتفاظ بالطابع الوطني، العابر للطوائف للتحركات التي سبقت نشوب الحرب الأهلية عام 1975. لذلك أتى اتفاق الطائف ليعيد انتاج النظام السياسي والأقتصادي نفسه، وإنما مع توزيع مُعدَّل للنفوذ والسيطرة السياسية التي تعود للقوى السياسية الطائفية السائدة في لبنان (كان اتفاق الطائف التعبير الرسمي لهذا التعديل ولإعادة ترسيخ النظام الطائفي في لبنان).

وإذا كانت ثورة الفلاحين في 1858، محكومة باستحضار الطائفية هوية سياسية وتنظيمية لها، كما ذكرنا سابقاً، فإن مصير القوى الوطنية العابرة للطوائف والتي تشكلت من أحزاب يسارية وقومية ومن قوى مطلبية متنوعة قبيل نشوب حرب 1975، لم يكن أفضل حالاً. فقد بدأ نفوذ هذه القوى بالتآكل مع بداية الحرب الأهلية، لكي تعود الأحزاب والقوى الطائفية المعارضة لنظام ما قبل اتفاق الطائف، وتحتل المشهد السياسي العام في لبنان. وهكذا نشهد للمرة الثانية في تاريخ لبنان الحديث، كيف أن القوى الطائفية، وإنما من الضفة الإسلامية هذه المرة، تنجح في توسيع نفوذها، ومنع المعارضة الوطنية-اليسارية للنظام السائد من أن تتشكل خارج الإطار الطائفي للقوى المتضررة من هذا النظام. وبذلك ينجح النظام الطائفي-الرأسمالي في لبنان مجدداً في إعادة انتاج نفسه مع بعض التعديلات في شروط المحاصصة والنفوذ والمنافع فيما بين القوى الطائفية الرئيسية في لبنان.

وأخيراً، ماذا عن انتفاضة 17 تشرين الأول من عام 2019، وتداعياتها المستمرة تباعاً، بالمقارنة مع ثورة الفلاحين ومرحلة نهوض اليسار ومن ثم، وقوع الحرب الأهلية وأفولها مجدداً على قاعدة طائفية تجسدت باتفاق الطائف؟

تفجرت انتفاضة 17 تشرين على خلفية سلسلة من التحركات المطلبية، بدأت بحملة “إسقاط النظام الطائفي في لبنان” في شباط من عام 2011، ومرت بجملة تحركات في عام 2015 تمحورت أساساً حول ما عرف آنذاك بـ “أزمة النفايات”. غير أن انتفاضة 17 تشرين تميَّزت أساساً بشموليتها ولامركزيتها (كانت الإنتفاضة عابرة للطوائف والمناطق) وطابعها العفوي، كونها أتت نتيجة إلتقاء قرار جمهور المنتفضين دون المرور بوسائط حزبية جاهزة، ودون أن يعني ذلك أن المنتفضين لم يفرزوا تباعاً وسائطها التنظيمية الخاصة بهم، التي لعبت دوراً مهماً في تنظيم وإدارة العديد من الأنشطة والمواجهات التي قاموا بها. هذا الامر يشبه ثورة الفلاحين عام 1858، حيث قام الفلاحون بتنظيم أنفسهم عبر انتخاب “وكلاء” عن أهالي القرى في كسروان، وانتخاب طانيوس شاهين “وكيل عن عموم كسروان”. غير أن ذلك حدث بدعم ورعاية أجهزة الكنيسة المارونية، آضافة إلى دعم طبقة التجار والمرابين. أما في حال الإنتفاضة، فإن التكوين الإجتماعي للمنتفضين لم ينتمِ بالطبع إلى طبقة الفلاحين، بل تحدَّر من فئات واسعة من الطبقة الوسطى، ومن العمال والمأجورين والعاطلين عن العمل، وبالمقابل، فإن المستهدَفين كانوا جميع القوى السياسية الطائفية في لبنان، وطبقة الأغنياء المتحالفة معها.

ومن جهة ثانية، رفع المنتفضون مطالب مشتركة تمثلت في الدعوة لمحاربة الفساد ومحاسبة المسؤولين وبناء دولة القانون والمواطنة، والقضاء المستقل، إضافة إلى المطالبة بتأمين العيش الكريم عن طريق إيجاد فرص عمل للجميع، وتأمين الخدمات الإجتماعية الأساسية للمواطنين من ضمان شيخوخة وخدمات صحية وتعليم.

وكان من الطبيعي أن تُفاجأ الإنتفاضة جميع القوى السياسية، لا سيما القوى التي تدعي الإنتساب إلى المعارضة، ذلك أن المطالب التي   رفعتها والقوى التي حملت هذه المطالب، لم تكن على صلة بأي من تلك الأحزاب. والأهم في هذا السياق، أن المطالب التي أفرزتها الإنتفاضة من دون سابق تخطيط وبصورة موضوعية، قد تجاوزت العديد من المطالب المجتزأة التي رفعها العديد من المجموعات المعارضة للسلطة والمنظومة الحاكمة. إستمرت الإنتفاضة بزخم ومشاركة شعبية ملحوظة لفترة لم تتجاوز ثلاثة أشهر، لكي تتراجع من بعدها لجهة حجم المشاركة الجماهيرية، وعدد التظاهرات التي استجاب لها المنتفضون وشاركوا فيها.

وفي ظل هذه التطورات، كان الغائب الأكبر بروز حالة تنظيمية جامعة تعبر عن القاسم المشترك لمطالب المنتفضين من خلال إجتراح برنامج سياسي مُوحَّد يتم بموجبه إدارة الصراع المستمر مع السلطة ورموزها، وصولاً إلى مرحلة الإنتخابات العامة، والمزمع قيامها في منتصف أيار القادم.  إن جميع المعطيات المتناسلة من لحظة انتفاضة 17 تشرين وتداعياتها، لا تزال تؤشر إلى هذا الغياب المشار إليه.

غير أن الملفت والمميز بالنسبة إلى هذه الإنتفاضة، قياساً مع ثورة الفلاحين (1858)، ومرحلة ازدهار النضالات المطلبية بقيادة الأحزاب اليسارية والقومية وغيرها (1967-1975)، هو أنها رفعت مطالبها في وجه النظام الطائفي، دون أن تستحضره، كما حدث خلال ثورة طانيوس شاهين، ودون أي دور ملحوظ للقوى اليسارية والقومية الكلاسيكية، كما جرى بين عامي 1967 و1975.

بهذا المعنى، هل يمكن أن نستخلص أن إنتفاضة 17 تشرين هي لحظة إستئناف لثورة الفلاحين من دون طائفية، وللنضالات المطلبية التي سبقت نشوب الحرب الأهلية عام 1975، وانتهت بتطييف المجتمع اللبناني ودولته من مختلف الجوانب؟

 هذا هو التحدي الأكبر الذي يواجهه الذين ينتمون إلى روحية إنتفاضة 17 تشرين.            

Leave a Comment