سياسة

أزمة نظام المحاصصة وفوضى البلاد والنظام راهناً

كتب زكي طه

    لم تتنظر قوى السلطة ردة فعل اللبنانيين التي اقتربت كثيراً من لحظة الانفجار الكبير، تحت وطأة مضاعفات الانهيار المتسارع والشامل الذي يضعهم أمام تحديات يومية غير مسبوقة في تاريخهم الحديث. ولذلك استبقت تلك القوى الأمور  بهدف قطع الطريق أمام تصاعد وإتساع التحركات الاحتجاجية خوفاً من انفلاتها خارج سيطرتها، و تعطيل قدرتها على التحكم بوضع البلاد. ولذلك أخذت زمام المبادرة تحضيراً للانتقال إلى قيادة البلاد خلال مرحلة الفوضى الأهلية الزاحفة، والتي لم تعد احتمالاً راجحاً بقدر ما اصبحت واقعاً فعلياً قائماً.

   وعليه دفعت اطراف السطة بقواها الميليشياوية إلى الشارع، في مسعى منها، أولاً، لتنفيس احتقان قاعدتها الاجتماعية المتضررة خشية تفلتها والتحاق شرائح منها بصفوف المحتجين. وثانياً، من أجل التحكم بحركة الاحتجاجات في مناطق نفوذها وهيمنتها وضبطها وفق جدول أعمالها. وأخيراً، استغلال تلك التحركات واستخدامها لتوجيه الرسائل التي يرغب كل طرف في أيصالها ميدانياً إلى من يعنيهم الأمر من شركائه وخصومه في السلطة وخارجها.

   يجري الأمر في امتداد تجاوز الانهيار كل التوقعات، وفي موازاة رفض مرجعيات الحكم وقواه جميعاً تحمل مسؤولياتهم وتشكيل حكومة انقاذ بالحد الأدنى، وسط  الامعان في تعطيل مؤسسات الدولة التي يكاد اللبنانيون لا يعثرون لها على آثر أو فعل. في وقت يستمر انفلات سعر الدولار، وخسارة العملة الوطنية ما تبقى من قيمتها الشرائية، في مقابل تصاعد اسعار الخبز والمحروقات وغيرها الكثير وفقدان الحليب والكثير من السلع الغذائية الاساسية من الاسواق والأدوية من الصيدليات، ما يضع اللبنانيين أمام خطر الزحف المتسارع للفقر والجوع والمرض، خاصة أن وباء كورونا  بات خارج قدرة  القطاع الصحي على مواجهته، في ظل العجز عن تأمين الكميات اللازمة من اللقاحات التي يفتقر توزيعها إلى مقاييس النزاهة الصحية والعدالة الانسانية. أما الاسئلة الصعبة التي تواجه اللبنانيين فعبثاً يبحثون عن أجوبة لها.

   وما يزيد الحال مأساويةً، خلو الساحة أمام قوى السلطة  التي نجحت في استيعاب مفاعيل انتفاضة تشرين وتمكنت بقوة الاستبداد والقمع والتضليل الطائفي و”الوطني” من محاصرتها واختراقها وتفخيخها وتعطيل فعاليتها واستغلال تحركات مجموعاتها. كما وإنها تمكنت من تيئيس اللبنانيين الذين استسهلوا التغيير، وعادوا إلى الإنكفاء، بعدما اتضح أن شعارات الانتفاضة التي تعبر عن طموحاتهم ليست سوى مبادىْ عامة لم تجد من يفعل مضامينها الاجتماعية والسياسية في مواجهة امعان أطراف السلطة في سياسات المحاصصة والارتهان للخارج وتصعيد ممارساتها الطائفية وصراعاتها لتقاسم السلطة والنهب.  وكان من نتائج دفع البلد نحو الكارثة،  تراجع طموحات اللبنانيين وتضاؤل أعداد المطالبين منهم بتغيير النظام ومكافحة الفساد، وغيرها من الشعارات التي تقع في خانة المبادىء العامة، وقد تقدمت عليها هموم المرض والفقر والبطالة والبحث عن سبل تأمين الحد الأدنى من حاجاتهم اليومية للبقاء على قيد الحياة.

    ما جرى لغاية الآن، ليس مستغرباً أو خارج التوقعات، وهو ليس سوى خطوات أولية في مسار إعادة رسم خطوط التماس بين مختلف المناطق، لترسيم حدود سيطرة فرقاء السلطة ونفوذ كل منها في هذا الاتجاه أو ذاك، واستعراض قدرتها على استباحة ما يجاورها من مناطق الخصوم. هذا ما أكدته لوحة التحركات الاخيرة، وصيغ حضور تلك الاطراف صراحة أو مواربة، بدءاً من طرفي الثنائي الشيعي إلى تيار المستقبل والقوات اللبنانية والمجموعات المرتبطة بها جميعاً، بالإضافة إلى طبيعة الشعارات التي ظللتها والهتافات التي ارتفعت خلالها، ومعها رسالة الضاحية على طريق بعبدا إلى العهد الذي يحاصر البلد بصلاحيات التعطيل. يضاف لها خارطة نقاط قطع الطرقات الرئيسية التي تربط بين المناطق، وتوزعها بين الأطراف والمجموعات المشاركة، ومعها ساحات ونقاط التحرك داخل كل منطقة. والتي يتبين منها جميعاً أن ما جرى لم يكن عفوياً وعشوائياً، بقدر ما يقع في إطار توجهات تلك القوى للتحكّم بوضع هذه المناطق، وإخضاعها بالكامل لشروط هيمنتها وسيطرتها بشكل اكثر إحكاماً عندما تدعو الحاجة. علماً أن أكثر هذه التحركات تمت تحت انظار ورقابة الأجهزة العسكرية والأمنية التي احسنت في محاولة حصرها وتلافي الصدام معها، لما للأمر من انعكاسات سلبية هي والبلد بغنى عنها.

   مما لا شك فيه أن قوى السلطة وبحكم خبرتها تعرف كيف تتلافى تكرار الأخطاء بعدما حوّلت ما حصل إلى مكاسب صافية في جعبتها. ولذلك هاهي تبادر إلى قطع الطريق أمام تكرار انتفاضة تشرين التي فاجأتها وأربكتها، قبل أن تتماسك وتنطلق في هجومها المعاكس لاجهاضها بكل ما تمتلك من الاسلحة.  وهي في ذلك تختلف عن قوى الاعتراض ومجموعات الانتفاضة، التي وقعت في الاستسهال والتبسيط، وإدمان الهروب من مراجعة أخطائها والاستفادة من دروسها. مقابل الإكتفاء بالتحركات الرمزية وطرح الشعارات العامة، وتداول البرامج الاستراتيجية للتغير والمفاضلة في تحديد الاولويات بينها، وسط انعدام المبادرة لتفعيل مضامين تلك الشعارات والبرامج وتحويلها إلى خطط عمل لاستقطاب الفئات الاجتماعية المتضررة حول قضياها، حماية لحقوقها وتصعيداً لمطالبها القطاعية والمناطقية المشروعة ، بهدف التمكن من انتزاعها بشكل متدّرج، وفق مسار تراكمي يستهدف إعادة تأسيس وبناء حركة مطلبية وكتلة اجتماعية  تحاصر الطبقة السياسية، انطلاقاً من حقوقها ومصالحها المشتركة وطموحاتها في التغيير.

   ولأن تفاقم أزمة النظام لا تعني أبداً انهيار قواه، خاصة عندما تخلو لها الساحات، وتمتلك القدرة على التجدد و استغلال غياب المتضررين، والاستثمار في ما تنتجه سياساتها  وأداءها من أزمات. ولأن الانقاذ والاصلاح يتناقضان ومصالحها، ها هي تستسهل الانتقال إلى  حكم البلد بالفوضى الأهلية وسط تقاذف اتهامات التخوين والتخلي عن المسؤوليات. ولذلك فإن التحركات التي بدأـ مرشحة لأن تتوالى فصولاً ومحطات، وفي ظلها يجري تبادل الرسائل ووتصعيد طروحات الحياد والمؤتمر الدولي جواباً على فائض القوة بالسلاح  والارتهان للخارج، الذي يتشاركه الجميع ومعه أوهام  الهيمنة والحلول، أمام تفاقم حالة الفوضى الأهلية جراء قدرة تلك  القوى على استغلال بعض ضحاياها،  فيما البعض الآخر أسير اليأس وهمّ البحث عن سبل البقاء على قيد الحياة، وسط اندفاعة البلد نحو الهاوية. أما الذين يرفعون راية التغيير فهم ما زالوا امام مسؤولية البحث عن جواب سؤال بسيط هو: ما العمل راهناً كي لا نُقاد إلى المجهول؟..

Leave a Comment