سياسة

أحداث الطيونة بين الانتصارات الوهمية و الحرب الأهلية

  كتب زكـي طـه

   لسنا بصدد البحث في تفاصيل أحداث الطيونة الأسبوع الفائت لاستكشاف مسؤولية كل طرف، على أهمية الأمر. إذ إن لكل طرف روايته و”مظلوميته” باعتباره معتدى عليه من الآخر. وذلك لأن ما جرى هو أبعد من مسألة التحقيق العدلي وأعقد منه بكثير، باعتباره يتصل بأزمة الكيان والهوية والموقع والدور ماضياً وراهناً ومستقبلاً مجهولاً. خصوصاً أن أطراف السلطة كافة غير راغبة في استمرار التحقيق العدلي بشأن إنفجار المرفأ وقضية النترات، لأنه سيفتح ملفات ممارساتها في التهريب والتهريب الضريبي والنهب والهدر وسوء الادارة، التي تتشاركها في المرفأ الذي يشكل ومنذ سنوات طويلة بؤرة نموذجية للفساد.

وبصرف النظر عما يحتمله مسار التحقيق من التباسات، وسط سعي كل جهة لتوظيفها تغطية لدورها أو اتهاماً للآخر. فإن المهم بالنسبة لنا هو الضحايا الذين سقطوا في أحداث الطيونة، وجلهم من الفقراء الذين يُدفعون إلى ميادين الصراع الطائفي لحماية فساد قادتهم، فيما هم وعائلاتهم يفتقدون لقمة العيش وحبة الدواء.

وبما أن التحقيق العدلي ينتظر التوافق على مخرج إحالته إلى ارشيف الملفات المغفلة، فإن مسيرة لجنة أهالي شهداء المرفأ في البحث عن الحقيقة مرشحة للإلتحاق بمسيرة لجنة أهالي المخطوفين والمفقودين التي تنتظر حقيقة ضائعة في دهاليز منظومة الميليشيات الحاكمة منذ عقود طويلة. أما نتائج التحقيق في أحداث الطيونة فلن تختلف عن مثيلاتها التي تُستحضر فقط عند الحاجة لاستغلالها من هذا الطرف أو ذاك،  فيما يبحث رئيس حكومة “معاً للانقاذ” عن سبل إنقاذها من الشلل.

كذلك لسنا ولا نرغب في وضع مضبطة اتهام لأي طرف من منظومة السلطة بالنظر لانعدام الجدوى منه. فما يصدر عن قادتها أو بإسمهم من بيانات ومواقف وما تتضمنه تصاريحهم من تفاصيل واتهامات، كافية وتزيد. وهي متداولة ولا حاجة للبحث عنها. وعند التدقيق فيها يتبين بسهولة ويسر كم تنطوي على الكثير من  المعطيات والحقائق التي يُدلى بها بصيغة اتهامات للآخر، وسط إدعاءات البراءة وتبرير الرد عليها من موقع الدفاع عن الذات. ولدى جمعها يتكشف كم تشكل لوحة مكتملة المعالم لواقع البلد وأوضاعه كافة، باعتبارها نتاج أزمة نظام المحاصصة، وانعكاس لمأزق المشاريع الخاصة لسائر اطراف المنظومة التي تتشكل من ردائف طائفية فئوية.

ولذلك فإن ما جرى أتى في سياق مسار كانت له مقدماته طوال سنوات على الصعيدين الداخلي والاقليمي – الدولي. فقد أكدت التسوية الإيرانية – الفرنسية أن تعطيل تاليف الحكومة، من قبل العهد وتياره في ظل الضغوط الخارجية ومفاعيل العقوبات المالية الاميركية، لم يكم ممكناً دون رعاية ودعم من حليفهما حزب الله. الذي يستند إلى فائض قوته ودوره المحلي وعلاقته بالنظام الإيراني الذي يخوض معركة تجميع أوراق القوة في ساحات المنطقة المتفجرة، تحضيراً للمفاوضات مع أميركا وسائر الدول الأخرى حول سياساته ودوره الإقليمي إلى جانب الملف النووي ومتفرعاته.

وبينما يسعى الحزب لتوسيع ميادين تحكمه وهيمنته على أوضاع البلد، مستظلاً شعارات حماية لبنان من الخطر الاسرائيلي ومحاربة الارهاب الأصولي، وتأمين حاجات اللبنانيين من الأدوية والمحروقات والسلع الغذائية و.. باعتباره البديل الذي يتولى شؤون اللبنانيين، بذريعة عجز الدولة الناجم عن سياسات وممارسات منظومة السلطة. يُسجل في المقابل أن حركة امل التي انتظرت طويلاً ارتطام الحزب بالجدار، قد تراجع دورها الذي أقتصر على مناكفة العهد والاشتباك مع التيار الحر اللذين يحظيان برعاية الحزب لهما. ولذلك فإنها الآن تحاول اعادة بناء قواها وترتيب شؤونها كي تثبت أنها شريك وليست ملحقاً ضمن الثنائي الشيعي. ما دفعها لأخذ زمام المبادرة في أكثر من ميدان، ومنها ملف التحقيق العدلي، بغية إعادة رسم خطوط العلاقة مع الحزب.

وفي موازاة ذلك كانت الهزيمة المدوية للطرف الأساسي من السنية السياسية المتمثل بتيار المستقبل، الذي تم إخراجه للمرة الثانية من الحكم. ومما فاقم إبعاده عن تلك “الجنة” خسارته أكثر علاقاته الدولية والعربية الموروثة، ووضعه أمام تحدي القدرة في البقاء على قيد الحياة السياسية الداخلية. وبينما تقاسم التيار الحر والثنائي الشيعي إخضاع موقع رئاسة الحكومة ودورها لشروطهما ومصالحهما، فإن السنية السياسية باتت عاجزة عن تجاوز ما هي فيه من التفكك والشرذمة والضعف. أما تصعيد تحركات المتعاطفين مع حزب الله، الموالين للاسد ونظامه في سوريا داخل بؤر البيئة الدرزية، فقد شكل مصدر قلق متصاعد للقيادة الجنبلاطية، ودفعها للسعي بشكل ملح إلى تطلب التسوية ومحاذرة الاشتباك مع أحد، خاصة في ظل رغبة مشتركة من خصومها لمحاصرتها، ومن النظام السوري لتصفية الحساب معها.

ورغم الفشل المدوي للعهد والجناح الغالب في تياره السياسي بقيادة صهره، وسط عزلتهما وتراجع شعبيتهما، فإن التحالف مع حزب الله لم يزل يشكل مصدر الأمل الوحيد لإمكانية تحقيق طموحاتهما في السلطة والرئاسة، ولذلك يتجنبان تصعيد الخلاف معه. ولأن مصلحة الحزب تقضي بالمحافظة على العلاقة بهما، فإنه يحرص بدوره على تغطية ممارساتهما والاستمرار في غض النظر عن الكثير من الانتقادات والمواقف السلبية التي تصدر عن قيادات التيار.

اما القوات اللبنانية التي تتابع التغريد خارج سرب المنظومة الحاكمة، منذ انقلاب التيار الحر على اتفاق معراب. فقد حاولت رفع راية المعارضة وركوب تحركات الانتفاضة وتنسيبها لمشروعها وسياساتها. وبعد فشل محاولة تعديل موازين القوى الداخلي عبر التحالف والاستقالة من البرلمان بالتنسيق مع الاشتراكي والمستقبل كل لحساباته الفئوية. ارتدت نحو تجديد مشروعها الطائفي وتأهيل بنيتها الميليشياوية وخطابها باعتبارها مخلصاً للمسيحيين. ولذلك استعادت مقولات الفدرالية والسيادة، على رافعة وهم الاستقواء بعلاقاتها الخارجية الاميركية والخليجية وتحديداً السعودية. كما استغلت خطاب البطريرك الماروني المتنقل بين الحرص على رمزية موقع رئاسة الجمهورية، وبين انتظار وهم  تحييد  لبنان على يد الخارج. لم تخفِ قيادة القوات استعدادها للمواجهة مع حزب الله بذريعة سلاحه. كما لم تالوا جهداً في توظيف ازمة الانهيار الاقتصادي والمالي وقضية انفجار المرفأ والتحقيق العدلي وأزمة تأليف الحكومة، في ميادين التحريض والتعبئة من أجل شد العصب الطائفي والفئوي.

وفي الجهة الموازية، كانت النهاية البائسة للانتفاضة جراء شرذمة قواها ومجموعاتها، والارتداد الموارب للعديد منها إلى مواقعه وشعاراته الأصلية التحاقاً أو يأساً. وأمام تعدد خطابات وبرامج المتبقي من قواها الباحثة عن أدوار او مواقع وسط الكثير من الاوهام، بعيداً عن اهتمامات ومآسي اكثرية اللبنانيين، فقد وجدت قوى السلطة المجال فسيحاً لاختراق الانتفاضة واستغلال ما يمارس بإسمها وتحت رايتها، وتوظيفه في خدمة مشاريعها وصراعاتها سعياً منها لتحقيق اهدافها بصرف النظر عما تنطوي عليه من مخاطر وأوهام.

وعليه فإن تسوية تشكيل الحكومة التي أكدت وقوع لبنان في دائرة النفوذ الايراني في إطار الصراع الاقليمي، قد زخمت الصراع والمواجهة بين أطراف منظومة السلطة، سواء للدفاع عن  وجودها ومواقعها وحصصها أو لتوسيع دوائر هيمنتها ونفوذها. ما أدى إلى تصعيد حالة الفوضى الاهلية  في شتى ميادين السياسة والاقتصاد والأمن، بالتزامن مع تسارع الانهيار الاقتصادي والمالي والارتفاع المرعب في اسعار المحروقات والسلع الاساسية.

وفي هذا السياق شكلت احداث الطيونة ـ عين الرمانة بداية مسار شديد الخطورة على أوضاع البلد، في ظل تفكك البنية المجتمعية وتزخيم انقساماتها العامودية على اسس طائفية وفئوية. أما الخطاب المتعدد اللهجات على السنة قادة المنظومة، والصادر عن  ردائف متشابهة تفتقد للحصانات الوطنية والانسانية، وبصرف النظر عن التفاصيل، فإن هذا الردح المتبادل لا يشي سوى باحتدام مأزق مشاريع الهيمنة وسط تصاعد الرهانات الخاطئة والمدمرة، وارتفاع حدة تبادل تهم الخيانة والتآمر للتغطية على الإندفاعة المتسارعة نحو الإنفجار، وسط تسعير الاستقواء والارتهان للخارج.  مما يؤكد خطورة ما جرى في الطيونة من استسهال العودة للعنف، وتشريع الأبواب امام الاقتتال الأهلي مع كل ما رافقه من أشكال التحريض والتعبئة في إطار ترهيب الآخر. وبصرف النظر عن الشعارات والذرائع والتبريرات المتبادلة،  فإننا ككل اللبنانيين نخشى أن يكون فاتحة لمسلسل من الحوادث والاحدات، التي لا شيء يحول دون استغلالها من الجهات الخارجية الجاهزة دوماً للتدخل عندما تستدعي مصالحها ذلك.

مما لا شك فيه أن هروب اللبنانيين من أزماتهم واستمرار البحث عن حلول طائفية أو فئوية هو اقصر الطرق لإدامة النزاعات الأهلية وتأبيد الانقسامات والارتهان للخارج والاستقواء به. إن تجديد الحرب الأهلية بكل ما تنطوي عليه من مخاطر بالتزامن مع المجاعة الزاحفة على البلد نتيجة الانهيار الاقتصادي والمالي على نحو كارثي غير مسبوق، لن يكون فيها منتصر أو رابح مهما ادَّعى أو توهم البعض، وهي في أحسن الحالات ستكون  بعد الخراب، كما سابقاتها محكومة للتسويات التي يقررها الخارج. أما النتائج فإنها لن تكون اقل من جريمة موصوفة ضد الانسانية بحق اللبنانيين واللاجئين المقيمين الذين يُدفعون للهجرة أو يساقون إلى الجحيم.

إن الحرب الأهلية ليست قدراً وهي ليست خياراً يستحق الأخذ به أو الرهان عليه لحل أزمات الكيان والنظام. هذا ما أثبتته كل التجارب السابقة، فهل من صحوة يمكن الركون إليها  لتجميع القوى المتناثرة لاستنهاض أكثرية اللبنانيين في سبيل مواجهة الأخطار الزاحفة ومحاصرة القوى المتسلطة على حياتهم بذريعة حماية وجودهم أو الدفاع عنهم؟!.

 

 

 

Leave a Comment