اقتصاد

عمال لبنان أمام تحديات وقائع الانهيار العام والخاص:

لا بديل عن كسر هيمنة القوى الطائفية على النقابات

كتب زهير هواري

يأتي الأول من أيار على عمال لبنان في ظل أوضاع لم يشهدوا أو يعيشوا مثيلاً لها قبلاً، منذ قيام هذا  الكيان بحدوده المعروفة، أي قبل مائة عام من الآن، ونشوء عمال وطبقة عاملة وحركة نقابية تتشكل عبر مجموعات صغيرة تحتفل بهذا اليوم، فتلقي الخطابات وتوزع البيانات ترفع فيها مطالبها بقانون عمل ,أجور عادلة وساعات عمل محددة بثماني لا أكثر.. ودون عودة إلى مراحل التأسيس التي ناضل فيها الرواد منذ العهد الانتدابي إلى العهد الاستقلالي، هناك ما يستوجب الوقوف عنده من أوضاع هذه الفئة من المواطنين في اللحظة القاتمة الراهنة.

بداية لا بد من القول إن هذه الطبقة تعاني “اشتراكات” ناجمة عن جملة أوضاع تتداخل من السياسي إلى الاقتصادي والاجتماعي والمعيشي إلى الوبائي. وهي أوضاع يجب أن تدفع إلى التوقف والتفكير لدى كل المعنيين والمهتمين في مجمل عناصرها المكونة وعوامل تفاقمها. وعليه، من المؤكد أن العديد من المعضلات تنتصب أمام الطبقة العاملة اللبنانية وتحول دون ممارسة حقها في الدفاع عن حقوقها الوطنية والاجتماعية معاً. ويمكن تعداد أبرز المشكلات الضاغطة على النحو التالي:

  • غرق البلاد في وحول أزمة سياسية لا مجال للخروج من وقائعها ضمن أداء الطبقة السياسية المتسلطة، علماً أن قوى هذه الطبقة تتباين لجهة المسؤولية عن الكارثة العاصفة في البلاد، دون أن يعني ذلك إعفاء أحد من المساهمة في المآل الذي قاد إلى الوضع الراهن.
  • انهيار كل مؤسسات البلاد تقريباً دون استثناء ( حكومة ومجلس نيابي ومصارف وسواها من قطاعات ومؤسسات الكهرباء، الماء، الصحة والتعليم رسمي وخاص(، وآخرها هو ما تعيشه السلطة القضائية من تسييس وتطييف بلغت ذروته خلال الأيام والأسابيع الأخيرة، والتي يحاول العهد من خلال اطلاق يد القاضية غادة عون إخفاء دوره في مضاعفة حدة الأزمة عبر أدائه وتياره منذ انتخابه رئيساً ، قبل أربع سنوات ونصف السنة، في عملية أقرب منها إلى التعيين.
  • لا يبدو في الأفق توافر إمكانية لتشكيل حكومة، إذ يظهر يومياً ما يشبه الاستحالة لقيام حكومة اختصاصيين مستقلة بعيداً عن قوى السلطة ومكوناتها تحمل مشروعاً للاصلاح. بالمقابل نجد اصراراً على  العودة إلى تشكيل حكومة مستنسخة عن الحكومات السابقة. الأسباب الداخلية المستعصية على التسوية تتكامل مع الولاءات والتدخلات والصراعات الدولية والاقليمية التي تجد التربة المؤاتية لفرض سياساتها على حساب مصالح اللبنانيين.
  • تؤكد هذه الوقائع أن الاصلاح المطلوب دولياً واقليمياً وداخلياً الذي بُحت الأصوات في إلحاحه لإنقاذ ما يمكن إنقاذه بعد توفير الشروط البديهية للمساعدة، لا وجود له في قواميس الممسكين بزمام الأمور. والدليل الأبرز هو رفض كل الأفكار التي جرى التداول بها، رغم مرور ستة أشهر على التكليف المعطل، معطوفة على سقوط المحاولات التي قامت بها حكومة الرئيس دياب المسقيلة قبلاً بفعل تجاذبات القوى داخل منظومة الحكم.
  • بناءً عليه، هناك استمرار لعملية الدوران في الحلقة المفرغة من جهة التعامل مع الملفات المطروحة، وبالتالي تعذر الوصول إلى أي خطط أو سياسات ومشاريع حلول تحد من حجم الانهيار الاقتصادي المالي والمصرفي وتحدد المسؤول عنه، وتوزع الخسائر على مختلف فئات المجتمع، وفي المقدمة منها الذين أفادوا في السنوات الماضية من الفوائد على مدخراتهم، أو أؤلئك الذين نهبوا البلد وأموال المودعين وعملوا على نقل ثرواتهم المنهوبة من عرق اللبنانيين للخارج.   
  • بالانتقال إلى الجانب الاقتصادي يبدو ” المهوار” الذي تندفع نحوه البلاد دون قاع إلى الآن. ففيما كان المقدر قبل عدة أشهر أن البلاد بحاجة إلى ما بين خمس إلى سبعة سنوات للخروج من هذا المأزق، بات المقدر للتعافي هو عشر سنوات في حال بدء المعالجة الآن، وتوفر الشروط المطلوبة لمد يد العون من الدول الصديقة والمؤسسات المالية العالمية. ففي العام الماضي بلغت نسبة التراجع في نمو الاقتصاد حوالي 25% سلباً أي ما دون الصفر بخمس وعشرين نقطة. ومع أن النسبة العام الجاري قد تكون أقل بفعل تراجع الاعتماد على المستوردات وتدني المداخيل ووضع اليد على الودائع، إلا أن المعضلة لا علاج لها دون التوجه نحو إعادة تفعيل القطاعات الاقتصادية المنتجة وهذه تتطلب أموالاً غير متوافرة.
  • هناك ما لايقل عن 30 – 40 % من الطبقة العاملة تعيش حال بطالة فعلية. وهي نسبة وسطية، باعتبار أن هناك قطاعات وصلت النسبة فيها إلى أكثر من 80% ( القطاع الفندقي والسياحي مثالاً)، وهناك غيرها أقل كتصنيع المواد الغذائية ومواد التنظيف وما شابه. لكن على الإجمال يمكن القول إن هناك حوالي 400 ألف عامل باتوا دون أجور ومداخيل فعلية ويعتمدون على المساعدات.
  • فئات عمالية وحرفية أخرى انهارت مداخيلها على نحو دراماتيكي بفعل عاملين تكاملا معاً هما ارتفاع سعر صرف الدولار في السوق السوداء، واقفال البلد لأسابيع متتالية بفعل جائحة كورونا والتأخر في استيراد اللقاحات. ينطبق مثل هذا الوضع على سائقي التاكسي والفانات والشاحنات والكاراجات وأصحاب وعمال المحترفات والصيادين ومن يشابههم من المياومين.
  • توقف وتراجع الأجور والمداخيل ترافق مع ارتفاع حاد يزيد عن 400% في أسعار السلع والحاجيات بما فيه المدعومة من الدولة ( الخبز واللحوم والمواد الغذائية). وفي حال رفع الدعم عن المحروقات والأدوية والمواد الغذائية ستشهد البلاد موجة مرعبة من ارتفاع الأسعار يجعل من المجاعة أمراً واقعاً وواسع النطاق، إذ ما تزال العديد من الخدمات تحسب إلى الآن على أساس السعر السابق للدولار.
  • اذا كانت التقارير الدولية تحدثت قبل أشهر عن أن 50 % من اللبنانيين باتوا يعانون من الفقر والفقر الشديد تبعاً للمقاييس العالمية، فإن تحرك سعر صرف الدولار الاميركي دوماً صعوداُ، والليرة اللبنانية نزولاً من شأنه أن يرفع النسبة تباعاً، فقد فقدت الليرة اللبنانية قرابة 90% من قيمتها. ومن المعروف أن الأجور والمداخيل ما تزال تحتسب على أساس سعر صرف 1515 ليرة للدولار الواحد.
  • تعاني الصناديق ( الصندوق الوطني للضمان، وتعاضد أساتذة الجامعة اللبنانية ، القضاة، تعاونية الموظفين الطبابة العسكرية) والهيئات الضامنة من مخاطر انهيارها في حال ظلت عملية التسعير لاحتياجاتها تعتمد السعر الرسمي للصرف بما يتضمنه من فارق شاسع بينه وسعر السوق السوداء المنفلت( هناك أربعة أسعارفعلية للدولار). وهو ما يهدد أيضاً المؤسسات الاستشفائية الأكاديمية الكبرى والصغرى أيضاً.  

أين الحركة النقابية؟

خلال انتفاضة العام 2019 كان غياب الحركة النقابية عن الساحات والميادين بالغ الدلالة على ما آلت هذه الحركة. كان ذلك نتيجة لسنوات طويلة من الجهد الذي بذلته السلطات المحلية وسلطة الوصاية السورية أيضاً على صعيد تدجين وإلحاق هذه الحركة بها. إلى الحد الذي باتت معه خارج معادلات الصراع الاجتماعي الفعلي منذ عقود. ومن المعروف أن هذه الحركة ممثلة برأس الهرم فيها، أي الاتحاد العمالي وخلال سنوات الحرب الأهلية، ورغم الانقسام المناطقي والطائفي والسياسي في البلاد نجحت في فرض تصحيج سنوي على الأجور. صحيح أن التصحيح  لم يصل حينها إلى كامل النسبة التي يسجلها مؤشر الغلاء، إلا أنها كانت مقترنة مع المطالبة بإجراءات لكبح ارتفاع الأسعار. وبعد خروج القوات السورية ظلت التركيبة التي أرستها قائمة، باعتبار أن الوكلاء المحليين تابعوا ما تعودوا عليه من إغراق الحركة النقابية بمئات النقابات المستحدثة التي تتبع المكاتب العمالية التي أنشأوها بغرض وضع العمال تحت سيطرة القوى الطائفية المعينة منهم. لذا لم يكن مفاجئاً أن تغيب الحركة النقابية بدءاً بالاتحاد العمالي، مروراً بالنقابات عن المشهد الذي فرضته الانتفاضة خلال مراحل المد، أي في غضون الشهرين الأولين لانطلاقتها. والتي شملت سائر المدن والمناطق والفئات وإن بنسب متفاوتة.

أين الاتحادات والاتحادات؟

على أن هذا الغياب لم يقتصر على التشكيلات الملحقة التي وجدت نفسها محرجة وهي تلحظ “حشرة” مرجعياتها في الزاوية، وتحوّل أربابها إلى متهمين من قبل جمهور المواطنين، حتى بات خروج أحدهم من منزله إلى مكان عام بمثابة مغامرة، إذ من المؤكد أن من يقدم عليها سيتعرض للإدانة والإهانة، باعتباره أحد المتسببين في هذا الانهيار العظيم. القمع الرسمي والأهلي وتسعير الأجواء والمناخات الطائفية والتهديد والوعيد، إلى أسباب أخرى قادت الانتفاضة إلى الإنكفاء على النحو الذي نشهده اليوم. واللافت أن تراجع القوى والمجموعات ترافق مع استمرار غياب الحركة النقابية. وهو أمر يمكن فهمه في ضوء الوعي المقلوب الذي مارسته بعض القوى النقابية التي تدَّعي وصلاً بالمعارضة. فقد أمضت هذه القوى سنوات خارج سرب العمل النقابي الفعلي، ولم تعِ أو تدرك حجم الدمار الذي لحق بهذه الحركة، وتنطلق في عملية إعادة تأسيس بنيانها من نقطة الصفر تقريباً. بدل هذا الجهد الذي كان يتوجب أن ينصب على هذا الجانب، عجزت هذه عن تأكيد حضورها، ومارست سياسة هروب إلى الأمام من خلال بعض الصيغ الهامشية، تتويجاً بالوهم الذي أشاعته من أن أوان التغيير قد حان، وأن استلام السلطة لا يتطلب سوى تهشيم القطاع المصرفي ثم بناء اقتصاد منتج. هذا الوعي المزوَّر قاد عملياً للمساهمة في تكريس إخراج الطبقة العاملة من خندق الصراع لمنع الكارثة الزاحفة عبر خوض المواجهة في مكانها مع السلطة الطائفية الميليشياوية. وما أصاب الاتحاد أصاب إتحاد المهن الحرة – شذت عن المعادلة نسبياً نقابة المحامين –   التي تعرضت بدورها لكارثة حقيقية قادت إلى هجرة ألوف المهندسين والأطباء والمحامين الصحافيين، وكل من توافرت أمامه فرصة السفر بعد أن بات عاجزاً عن تدبير أموره المعيشية. واذا كان الاتحاد العام بحكم تركيبته بات واحداً من القوى الملحقة بسلطات الأمر الواقع الطائفي، فقد غابت مع شمول الإلحاق عن المشهد التحركات القطاعية التي اقتصر معظم حراكها على المراجعات رغم ترعض ألوف مؤلفة من العاملين للصرف الكيفي. ولعل الفصل الذي جرى اعتماده سابقاً عبر بعض الهيئات ساهم في الوصول إلى حال الاختناق الراهنة رغم قساوة الظروف التي يعانيها العمال والمعلمون وكل محدودي الدخل.

 ليس المقصود من هذا القول إن وضع باقي الهيئات أفضل حالاً من الاتحاد العام، بل للقول إن الحركة العمالية كانت القاطرة الأساسية لمنع انهيار الوضع المعيشي لشرائح كبرى من اللبنانيين، حتى أن القطاع العام كان يحصل على تصحيح لأجوره بفعل ما يفرضه الاتحاد العمالي ككتلة اجتماعية- سياسية – نقابية لها وزنها التمثيلي وعلى صعيد حراك الشارع ورفع المطالب الاجتماعية والمعيشية.

من الآن وإلى أين؟

من الصعب القول إن الأمر يتطلب  كتابة وصفة تحدد  نوعية ” العلاجات” المطلوبة. وبعد تناولها تستقيم الأمور وتعود إلى طبيعتها، إذ الفعلي أن هناك مساراً صعباً وعسيراً على العمال أن يشقوه بأنفسهم. ومن دون مبالغة يمكن القول بثقة إن الجهد المطلوب لتحقيقه يعادل ضعف ما عاناه الرواد الأوائل الذي أنشأوا مجموعات عمالية متناثرة في المعامل الصغيرة. إذ إن حجم الركام الذي تتوجب إزاحته الآن لا يقاس بما كان سائد قبلاً، باعتبار أن علاقات العمل في البلاد عادت فعلاً إلى ما قبل صدور قانون العمل وما تضمنه من حقوق وحمايات. وباتت كل المكتسبات التاريخية التي حققها نضال العمال والعاملات مهددة بديمومتها. ومثل هذا الخطر لا يساهم بالوصول إليه أرباب العمل فقط، بل الدولة باعتبارها أكبر رب عمل في البلاد. إذ إن افلاس الدولة وانهيار موازناتها واعتمادها على طبع الأوراق النقدية واهتزاز الكيان ضمن منطقة تتفكك… كل هذا إن كان يعني من أمر، فهو أن الطبقة العاملة يجب أن تعمل على جبهتين أولاهما فضح ما تمثله الطبقة المسيطرة من خطر على مصيرها ومصير عائلاتها. وثانيهما البدء من المربع الأول لبناء حركة نقابية ضمن عملية تراكمية تقود في المحصلة لإستعادة النقابات إلى تمثيل العمال فعلاً، باعتبار أن النقابات الراهنة باتت عبارة عن ملاحق بالقوى الطوائفية تتبع شبكات مصالحهم الفئوية.

في الأول من أيار عيد العمال العالمي تعيش الطبقة العاملة اللبنانية جراحاً نازفة وهي تجد نفسها مشلولة الإرادة بفعل الإلحاق والتبعية، عاجزة عن المساهمة في بناء حركة معارضة ديموقراطية شعبية تستطيع من خلالها الدفاع عن وطنها وعن لقمة عيشها في الوقت نفسه. 

Leave a Comment