سياسة

العهد “القوي” وحال الفوضى الأهلية وسلطات الأمر الواقع!

كتب زكـي طـه

وسط تواصل معارك اهل السلطة وتراكم ملفات فضائحهم، لم يعد أمام اللبنانيين سوى التسليم بانهيار الدولة، وارتداد البلاد إلى مرحلة اللادولة في ظل حال الفوضى الأهلية  الكاملة، وقد طالت شتى مناحي حياة اللبنانيين في كل المناطق. لقد اصبح من العبث البحث عما كان، لأننا لن نجد أمامنا سوى بقايا مؤسسات حكم وأجهزة عاجزة عن تأدية الحد الأدنى من وظائف السلطة والإدارة العامة المعنية بمختلف شؤون الحياة ومتطلباتها. أما المتبقي منها فمستهدف إما بالتعطيل أو بالتفكيك. أما الدوافع والأسباب فأكثر من أن تُحصى وتُعد.

 ورغم ذلك يتابع أهل الحكم وأطراف السلطة خوض معاركهم لتقاسم إدارة البلاد وفق آليات الفوضى بكل مستوياتها السياسية والمجتمعية والأمنية، بالتوازي مع الانهيار الاقتصادي والمالي الكارثي. أما البديل القادم الذي ترتسم معالمه تباعاً وبخطى متسارعة فهو قيام سلطات الأمر الواقع الميليشياوي.  وفي امتداد ذلك تتوالى الأحداث، ومعها يوميات اللبنانيين وهم يتابعون أداء أهل الحكم ومعارك تصفية الحسابات والتلاعب بما تبقى من مؤسسات وأجهزة الدولة، وصولاً إلى تفكيكها وتدميرها إذا اقتضى الأمر.

 لا أحد من أهل الحكم أو اطراف السلطة مهموم بانقاذ البلاد من الانهيارات والمخاطر الزاحفة. لقد تراجعت أولوية وجود حكومة كما كان يأمل اللبنانيون والخارج حتى بالحد الأدنى من المواصفات الإنقاذية. والسبب قناعة راسخة لدى الجميع باستحالة تشكيل حكومة تراعي أهداف ومصالح وأولويات مكونات السلطة المتناقضة والمتناحرة، والتي لا صلة لها بحاجات اللبنانيين وحقوقهم وبالمصلحة الوطنية لبلدهم. ما يعني أن الفراغ الحكومي مستمر إلى أمد غير منظور.

 وفي هذا السياق يخوض العهد حربه الكبرى تحت شعار: ” إما رئاسة صهر العهد أو لا أحد ولا بلد”.  وفي سبيل ذلك كل شيء مباح ولا محرمات. وتحت راية مكافحة الفساد والتحقيق الجنائي تتوالى المعارك الضارية مع حاكم المصرف المركزي، بإسم التدقيق الجنائي وفساد الحاكم الذي لا يُدافع عنه. وإلى جانبها، يتابع محاولات تطويع قائد المؤسسة العسكرية، سواء عبر التعيينات، أو إلزامه بقمع الاحتجاجات، وصولاً إلى قضية ترسيم الحدود البحرية الجنوبية ومسألة المفاوضات بشأنها مع العدو الاسرائيلي. وجديد العهد المعركة المفتوحة مع مجلس القضاء الأعلى، بذريعة دعم التحقيق مع  بعض مؤسسات نقل الأموال المصرفية. عبر أداء ميليشياوي لا صلة له بعمل القضاء، إذ يضرب بعرض الحائط كل الأصول القانونية من خلال القاضية عون، التي يتابع العهد تعطّيل التشكيلات القضائية من أجلها. وبصرف النظر عن استهداف مسؤولي تلك المؤسسات كمرشحين محتملين للرئاسة، فالأخطر هو ما تتعرض له تلك المؤسسات ولا تزال، من أضرار سياسية وبنيوية كبرى تهدد وجودها اساساً، ليس بالنظر لأهميتها وطبيعة ادوارها فحسب، إنما ايضاً باعتبارها تشكل آخر معالم الدولة التي انهارت.

في المقابل يبدو موقع الرئاسة الثانية في حالة انعدام وزن. فرئيس الحكومة المسقيلة، لا سلطة له على الوزراء، وسط اصرار منه على التهرب من مسؤولياته بذريعة تصريف الاعمال، رافضاً معالجة أي شأن يتعلق بقضايا البلد أو بمعيشة مواطنيه وخاصة ترشيد الدعم. حيث يتكشف الوضع يومياً عن أخطر عملية نهب منظم لما تبقى من مالية عامة أو احتياط مالي لدى المصرف المركزي من خلال بدعة السلع المدعومة لمصلحة تجار المنتوجات المستوردة ومافيات تجار الادوية واستيراد المواد النفطية، هذا عدا التهريب المنظم إلى سوريا بحماية ومشاركة اطراف السلطة دون حسيب أو رقيب.

أما الرئيس المكلف، والحالم باستعادة موقع رئاسة الحكومة، فإن مأساته تكمن في جولاته التي لا تنتهي للقاء قادة ومسؤولي هذه الدولة أو تلك، بحثاً عن دعم غير قابل للصرف. في وقت تبدو عواصم القرار مقفلة في وجهه لأن أزمات لبنان لا مكان لها في جدول أولويات قادتها المزدحم بقضايا دولية واقليمية. أما تيار الرئيس المكلف فأقصى ما يستطيعه من دور لا يتجاوز بعض “الهمروجات” والمناوشات الاعلامية مع تيار العهد.

 ولأن معركة الحياد التي رفع لواءها البطريرك الماروني تكشفت عن صعوبات  يستحيل تجاوزها أو القفز فوقها محلياً وإقليمياً، ولأنه رفض التصعيد في مواجهة العهد ومطالبته باستقالة الرئيس، فإن قائد القوات اللبنانية الذي تراجعت حماسته المفرطة، قد وجد من الأفضل له انتظار جلاء غبار معارك العهد وتياره، وتجديد الرهان على هزيمتهما  بأمل وراثتهما،  ومتابعة تقديم صورته أمام اللبنانيين والخارج، على أنه “القائد المخلّص” التي لم يتأخر باسيل عن منافسته بشأنها.

وبينما يكتفي رئيس الحزب الاشتراكي، بتكرار دعوته للتسوية والانقاذ، والتحذير من المخاطر الزاحفة من الداخل والاقليم. يبدو رئيس السلطة التشريعية، رئيس حركة امل، مقيماً على رفضه الدخول في معارك لا مصلحه له فيها، مطمئناً إلى موقعه ضمن الطائفة، وسط حرص شديد على سياسة الرسائل المشفرة  تعبيراً عن مواقفه في شتى الاتجاهات وبرسم مختلف الاطراف، بانتظار دور المخرج لأي تسوية ممكنة. 

في المقابل يتابع حزب الله أداءه القادر بخطى ثابتة، لناحية ربط لبنان بإطار الصراع الاقليمي للسيطرة والنفوذ، وسعيه الدائم لتكريسه ساحة مرتهنة ومسترهنة لمحور الممانعة. وبصرف النظر عن مسارات ومجريات ونتائج المفاوضات التي بدأت طلائعها بين الدول المعنية واميركا مع ايران. يبقى الأهم ما ينفذه الحزب من اجراءات في الداخل باسم المقاومة، مستنداً إلى فائض قوته وإمكاناته المتعددة و تحكمه بموازين القوى المختلة. وإذ يكتفي بمراقبة ومواكبة صراعات وخلافات العهد والرئيس المكلف بشأن تشكيل الحكومة والنأي بنفسه عن التدخل فيها. ويواصل تحصين مناطق نفوذه وهيمنته، عبر سلسلة من الاجراءات الأمنية، والترتيبات المالية في صيغة نظام مصرفي مستقل، وتنظيم وتوزيع بطاقات الدعم لانصاره لشراء السلع المحلية أو المستوردة  لمصلحته عبر معابر التهريب. ما يحوّل تلك المناطق اشبه بدويلات الأمر الواقع ضمن البلد المحاصر بالأزمات والعقوبات وقد انهارت دولته المركزية.

بالنظر لما جرى ويجري لا مبالغة في القول أن البلد وأهله أمام حائط مسدود ومصير مجهول، فحكامه ومسؤولوه هم من قادوه إلى ما هو عليه. وهم من رفضوا الاستجابة لكل طلبات الاصلاح والانقاذ. وهم أيضا من استهانوا واستباحوا حقوق اللبنانيين ومصالحهم الوطنية، واداروا الظهر لانتفاضتهم وفخخوها بأسلحتهم الطائفية وادواتهم الميليشياوية وعبر المجموعات التي تدور في فلك مشاريعهم وتراهن عليهم أو ترتهن لهم. وهم الآن من يتولى إدارة الفوضى الأهلية ويمنع العودة إلى منطق الدولة. 

بين انتظار الخارج والهروب إلى الامام،  يستمر الانهيار وتزداد المخاطر. وبين رفع الشعارات وتشكيل الجبهات والتحركات الفولكلورية ترتاح منظومة السلطة الحاكمة. ولأن اللبنانيين المتضررين بكل فئاتهم لم يعيدوا تنظيم صفوفهم لمحاصرتها والضغط عليها، يبقى التحدي قائماً والأمل بالإنقاذ بعيد المنال.

Leave a Comment