صحف وآراء مجتمع

    الجهل المقدّس في الاقتصاد اللبناني: تأملات في طقوس النيوليبرالية

   د. سعيد عيسى

تبدو بعض المفاهيم الاقتصادية في لبنان وكأنها حقائق مطلقة لا تقبل النقاش، لا اعتراض عليها، ولا مساءلة لنتائجها. هذا النص لا يرفض الاقتصاد، بل يحاول أن يفكك آليات تحصينه الرمزي والمعرفي. يستعير من الفكر الأنثروبولوجي ليفهم كيف تتحول المعرفة الاقتصادية إلى منظومة مغلقة، ولماذا يُقصى الناس من لغة السياسات التي تُقرّر مصيرهم. إنها محاولة لفهم آليات إنتاج الطاعة باسم العقلانية، واستعادة المخيلة الاقتصادية من أَسر التقنية.

الاقتصاد كلغة فوقية
ما الذي يجعل الاقتصاد في بلدٍ كلبنان يبدو أحيانًا كمنظومة منعزلة عن الواقع؟ ولماذا تُقدَّم السياسات العامة، مهما كانت قاسية، بوصفها حلولًا “علمية” لا تقبل النقاش؟ في هذا المقال الموسّع، نستعير مفهوم “الجهل المتقدّس” من المفكر أوليفييه روا، ونعيد توظيفه في حقل الاقتصاد السياسي اللبناني. لا لنقول إن الناس لا يعرفون، بل لنفهم كيف تُنتَج معرفة تُبعد الناس عن مساءلة من يصنع قراراتهم الاقتصادية، وتُقصي الذاكرة والتاريخ من قلب النقاش العام.

الجهل المتقدّس: معرفة محصّنة ضد النقد
الجهل المتقدّس ليس انعدامًا للمعرفة، بل شكلًا خاصًا منها: معرفة مغلقة، مكتفية بذاتها، محصّنة بلغة تقنية، تؤدّي وظيفة سياسية. وعندما تنتقل هذه المعرفة إلى الحقل الاقتصادي، تصبح أداة سلطوية تُمارَس فيها الطاعة باسم العقلانية. من هنا، الدعوة إلى قراءة الاقتصاد اللبناني لا كمجموعة أرقام ومؤشرات فقط، بل كمجال أنثروبولوجي – رمزي، تنتج فيه الطقوس، وتُمارَس فيه السلطة، ويُعاد فيه إنتاج اللامساواة.

الاقتصاد اللبناني كأداء اجتماعي متكرر
منذ بداية الأزمة، شهد لبنان سيلاً من الخطط والبرامج والمقاربات “الإنقاذية”. ورغم تنوّعها، إلا أن قاسمها المشترك هو اللغة التقنية المعقّمة، المنفصلة عن الواقع، والمُحاطة بهالة من الإجماع الكاذب. تُقدَّم السياسات وكأنها إجراءات حسابية، لا قرارات أخلاقية وسياسية. هنا، يتحوّل الاقتصادي إلى خبير مُطلَق، والخطاب الاقتصادي إلى أداء مؤسّساتي يُبرَّر دون مساءلة.

المصطلح  كأداة سلطة
يتجلّى ذلك في مصطلحات تُستخدم بكثافة دون مساءلة: “تحرير السوق”، “ترشيد الدعم”، “إعادة هيكلة القطاع العام”. كلها تُكرَّر بوصفها بديهيات، لكنها في الواقع تعبّر عن مواقف أيديولوجية محدّدة. فالدعوة إلى تخفيض الإنفاق العام لا تنفصل عن رؤية معينة لدور الدولة، تمامًا كما أن رفع الدعم ليس فقط مسألة أرقام، بل قرار يُعيد توزيع الألم الاجتماعي.

الواقعية التقنية كأداة للطاعة
كما أشار جيمس فيرغسون في دراسته الشهيرة عن التنمية في إفريقيا، تُستخدم التقنية أحيانًا كأداة لنزع السياسة من قضايا جوهرية. في لبنان، يُروَّج بأنّ لا بدائل، وما من خيارات، وأنّ الدولة “مُفلِسَة”، ما يخلق شعورًا بالعجز ويُعيد إنتاج الطاعة. تُقمع الأصوات التي تطالب بعدالة ضريبية، أو باسترداد الأموال المنهوبة، أو بإعادة تعريف دور الدولة، باسم الواقعية الاقتصادية.

محو الذاكرة وتجريم البدائل
تُمارَس المعرفة الاقتصادية الرسمية بوصفها أداة لنزع الذاكرة. فلا يُسأل: كيف تراكم الدين العام؟ من استفاد من النظام الريعي؟ لماذا غابت المساءلة والمحاسبة؟ بل يُعاد طرح الأزمة وكأنها كارثة طبيعية أو حتمية رياضية. ويُنظر إلى الفئات المهمّشة إما كعبء، أو كضحايا صامتين.

الحياة الاقتصادية غير المرئية
في المقابل، يتم إقصاء الأشكال البديلة من النجاة والمعرفة. لا مكان للاقتصاد غير الرسمي، ولا لخبرات العائلات في تدبير المعيشة، ولا لشبكات الدعم المحلّي. هذه المعارف تعتبر غير علمية، رغم أنها تشكّل قلب الحياة الاقتصادية اليومية.

ما العمل؟ نحو مخيلة اقتصادية مغايرة
إعادة تعريف الاقتصاد كحقل اجتماعي من البديهيات وربطه بثقافة الناس، بتاريخهم، بتجاربهم الحية، وبمطالبهم. فالمعرفة لا يجب أن تُنتَج فقط في تقارير مؤسّساتية مغلقة، بل في الأسواق، في الأحياء وفي لغة الناس.

إنّ نقد الجهل المقدّس لا يعني رفض التخصّص أو الاقتصاد كعلم، بل يعني مساءلة من يُنتج المعرفة، ولمن، وبأي لغة. فالخلاص لا يُفرض من فوق، بل يُبنى من الداخل، من قدرة المجتمع على استعادة صوته ومخيلته الاقتصادية. في لبنان، كما في كثير من دول الجنوب، يتداخل الاقتصاد مع السلطة والمعرفة والتمثيل الرمزي. وهذه المقالة هي دعوة لقراءة هذا التداخل، لا بهدف تفكيكه فحسب، بل أيضًا بهدف استعادة القدرة على الحلم: الحلم باقتصاد عادل، بذاكرة حية، وبمعرفة لا تخاف الناس، بل تنطلق منهم.

* نشرت على موقع الحوار نيوز بتاريخ 23 ايار 2025