مجتمع

الجاليات العربية والهدر المجاني لطاقتها السياسية

كتب الدكتور بول طبر

إنتفاضة المقدسيين وفلسطينيي الضفة وقطاع غزة وفلسطين ال48، لاقت تعاطفاً واسعاً في أوساط الجاليات العربية في مناطق عديدة من العالم، لا سيما في دول الغرب المساند والداعم للكيان الصهيوني، ولسياسة الإستعمار الإستيطاني الذي يمارسه بحق الشعب الفلسطيني. تمثل ذلك بعشرات الألوف التي نزلت إلى الشوارع في كندا وأمريكا وإيرلندا واسكتلند وأستراليا وفرنسا وغيرها. بالطبع لم يشارك أبناء الجاليات العربية لوحدهم في تلك المسيرات الإحتجاجية، بل التحق بهم وساندهم العديد من شعوب تلك الدول، والمنظمات المؤيدة لمطالب الشعب الفلسطيني، وحقه في البقاء في أرضه وفي تقرير مصيره.

وهذه ليست المرة الأولى التي نشهد فيها هذا الحشد والتعاطف الواسع مع نضال الشعب الفلسطيني في تلك البلدان. فمثلاً ومنذ هجرتي إلى سيدني في أوائل سبعيينات القرن الماضي، لم تبخل الجاليات العربية آنذاك (اساساً اللبنانيين والفلسطنيين) في تنظيم المسيرات والإحتفالات المؤيدة لحق الشعب الفلسطيني في “الكفاح المسلح”، أكان في الجامعات أوغيرها. وكان في طليعة المنظمين لتلك الأنشطة “جمعية أصدقاء فلسطين” برئاسة طوني مارون من قرية بان في قضاء بشري. وأنا واثق من وجود نسخ عديدة عن هذه الجمعية في كثير من البلدان الغربية، التي يتواجد فيها المهاجرون العرب بأعداد وفيرة.

غير أن الملفت في هذا الأمر هو غياب الإستثمار تاريخياً في هذا التأييد السياسي الذي بقي في أغلب الأحيان لا يتجاوز سقف التظاهرات والتعبيرات العاطفية المؤيدة للقضايا العادلة للشعوب العربية، وعلى رأسها قضية الشعب الفلسطيني وحقه في وطنه فلسطين. وينطبق الحكم نفسه على ما قامت به الجاليات اللبنانية أيضاً في بلاد الإغتراب تأييداً وإسناداً لانتفاضة 17 تشرين المجيدة، وما تلاها من تحركات لا تزال تتوالى لغاية اليوم على الساحة اللبنانية.

ألإستثمار السياسي المطلوب في هذه الظواهر الإغترابية هو بالتحديد يتمثل في رفع مستوى ونوعية التأييد الإغترابي بدلاً من الإكتفاء بتنظيم المظاهرات والتنديد اللفظي والإعلامي إلى مستوى التنظيم السياسي، ومأْسَسَة هذه الطاقات الإغترابية حسب ظروف البلد التي يتواجد فيها هذا الإغتراب، وحسب النظام والممارسات السياسية السائدة فيها. والموارد الإغترابية التي يمكن توظيفها في هذا المجال عديدة ومتنوعة. نبدأ بالموارد الإقتصادية وهي مهمة لجهة الثروات التي يمتلكها بعض المغتربين الأفراد، أم لجهة تجميع القليل المتوفر لدى أعداد كبيرة من المغتربين وتحويلها بالمحصلة إلى مبالغ كبيرة توظَّف استراتيجياً للتأثير على مراكز القرار عن طريق تقديم الدعم المالي الشرعي للأحزاب السياسية الرئيسية في البلد الإغترابي المعني. هذا من جهة توظيف الموارد المالية في النضال السياسي لكسب الموقف المطلوب من الحزب السياسي في البلد الإغترابي المعني. أما الموارد الثقافية والسياسية المتعلقة بالطاقة التصويتية للمغتربين في الإنتخابات التي تجري في البلدان حيث يتواجد اللبنانيون والعرب عموماً بأعداد وفيرة، فهي غنية ومتنوعة وإنما غير منظمة أيضاً وغير موظفة سياسياً بالتالي، كما في حال الموارد الإقتصادية الآنفة الذكر. ولمزيد من الدقة فأن حال الموارد والطاقات الثقافية المتجسدة بالمثقفين والباحثين والروائيين العرب هي من أكثر الموارد فعالية في المشهد الإغترابي الثقافي-السياسي. والأسماء “النجومية” كأمثال الغائب إدوارد سعيد وأمين معلوف لا يختزلان هذا المشهد. فهناك العديد من المثقفين في المجال الأكاديمي والمجال الأدبي والفني عموماً يقومون بما يخدم القضايا المحقة للشعوب العربية على أكمل وجه. حتى أنهم في الموضوع الفلسطيني لم يكتفوا بالكتابات والأبحاث والمحاضرات التي تصب في خدمة القضية والشعب الفلسطيني، بل توصلوا إلى إطلاق حركة المقاطعة الأكاديمية لإسرائيل، وذلك على المستوى العالمي. لعل السر في النجاح النسبي في المجال الثقافي للمغتربين يعود اساساً إلى أن طبيعة هذا العمل والإنجازات المحققة في هذا المجال تقوم على جهود العاملين فيه  كأفراد، ولا يتوقف على التنظيم الجماعي لنشاطهم. ورغم ذلك، فإن توظيف الطاقة المالية للمغتربين لدعم التحصيل والإبداع الثقافي في أوساطهم يبقى غائباً. والمطلوب أن يتم تجاوزه خدمة لقضايانا الوطنية وحق شعوبنا في الحياة الحرة والكريمة والعادلة (على سبيل المثال تكريس جوائز مالية للانتاج البحثي والإبداعي يتم تمويلها من المتمولين المغتربين).

أما عدم الإستفادة من التأثير السياسي الذي يمكن أن تمتلكه الجاليات العربية وتستخدمه ليس فقط خدمة لمصالحها في البلدان التي تستوطن فيها، وإنما أيضاً لصالح البلدان التي تتحدر منها، فهذا يشكل التحدي الأكبر الذي يواجه هذه الجاليات. فلغاية الآن لم تتمكن هذه الجاليات من تنظيم نفسها سياسياً كقوة انتخابية على الرغم من وجودها بأعداد كبيرة في دوائر انتخابية محلية ووطنية، وحتى رئاسية في بلدان غربية تهيمن عالمياً (الولايات المتحدة)، أو أنها تكون حليفة لمن يهيمن على الساحة العالمية (كندا وفرنسا وإنكلترا وأستراليا). فلكي نتجاوز مرحلة الحماس والإنفعالات المؤقتة في التعاطي مع قضايانا الوطنية (تظاهرات وبيانات وخطابات إدانة)، كما يحدث الآن تجاه ما يجري في فلسطين المحتلة، وما جرى مؤخراً بالتفاعل مع انتفاضة 17 تشرين، ينبغي العمل على تنظيم الطاقة الإنتخابية للمغتربين العرب واستخدامها بصورة ذكية للتفاوض مع النخب السياسية التي تحكم في الدول الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية. ودعوتها لتأييد مطالبنا في الوطن الآمن مقابل منحها التأييد في المعارك الإنتخابية التي تخوضها دورياً. بالطبع إنجاز هذه الخطوة يتطلب عملاً نضالياً عسيراً، إلا أنه من الضروري التصدي له إذا أردنا ان نستثمر الموارد السياسية التي يملكها المهاجر العربي، والتي لا تزال مهدورة بصورة عامة لغاية الآن. إن تحقيق هذا الهدف يتطلب مواجهة صعوبات عديدة أهمها تحرير المهاجر العربي نفسه من الإرث السياسي الذي ينتسب إليه في الوطن الأم. فبحكم هذا الإرث، نجد أن المهاجرين العرب غير معتادين على العمل المؤسساتي والتراكمي بحكم الخلفية السياسية التي يتحدرون منها في وطنهم الأم. ومن دون الفعل السياسي بواسطة التخطيط والمؤسسات والإنتساب إلى الأحزاب التي تحاكي قناعاتنا، ولكن دون التخلي عن خدمة قضايانا في الوطن الأم والمجتمع الذي نستقر فيه، لا يمكن لهذا الفعل أن يتحرر من أسر الإنفعال والحماس القصير الأجل، ليكون مؤثراً في مجرى الحياة السياسية في البلدان الغربية. حان الوقت ليدرك المهاجر اللبناني، والعربي عموماً، أهمية الطاقة المالية والثقافية والسياسية التي يملكها، والتي لم يحسن بعد استخدامها لخدمة مصلحته في التحرر والتقدم وتحقيق العدالة الإجتماعية في وطنه الأم والوطن الثاني الذي يستقر فيه.           

Leave a Comment