صحف وآراء

صواريخ غزّة ووهم التوازن العسكري مع الاحتلال!

كتب جورج الهاشم

كما قال، المبدع فنياً وانسانياً، الصديق مرسال خليفة في موقفه الرائع مما يجري في فلسطين: “أنا اللبناني الفلسطيني العربي أدين…” وأنا أيضاً ادين معه، وبأشد العبارات، الوحشية والاجرام المستمرّين بحق الشعب الفلسطيني من قبل دولة اسرائيل العنصرية، المدعومة من أعتى قوى القهر والاستعمار في العالم. وأتضامن من دون حدود مع الشعب الفلسطيني. وأحيي جميع ألأحرار الذين انتفضوا بالملايين حول العالم لتأييد حقه بحياة حرة كريمة. ولكن هل أستطيع أن أنقل هذا الدعم الى القيادات الفلسطينية؟ وهل محاولة الظهور بمظهر امتلاك توازن القوة والرعب مع الاحتلال  الذي لا مجال للتنافس فيه، ساعدت أو تساعد الشعب الفلسطيني في تسجيل المزيد من النقاط لصالحه في عملية نضاله الطويلة والرائعة. ليس بوجه المحتل وحده، بل أيضاً في وجوه المتعاونين والمطبعين والمستسلمين لاسرائيل ابتداء من فلسطين، وليس انتهاء بآخر شبر من أنظمة الذل العربي المتناسلة.                                                                   

الشعب الفلسطيني لا يضاهيه أي شعب مقاوم في العالم. لم يتعرض أي شعب في التاريخ لما تعرّض ويتعرض له. فقضية فلسطين ليست احتلال قوة أجنبية كما في الجزائر ولبنان. وليست عملية تحرر من نظام دكتاتوري مدعوم من قوة استغلال خارجية كما في كوبا. وليست بلاداً مقسومة نصفين، واحد مرتهن نظامه، ومحمي من أعتى قوى استعمارية في العالم كما في فيتنام. وليست معركة فصل عنصري كما في افريقيا الجنوبية… انها كل ما تقدّم اضافة الى انها أيضاً معركة ضد قاعدة استعمارية متقدمة لنهب خيرات المنطقة ومنع تحررها، كما انها معركة ضد اقتلاع شعب من أرضه وثقافته وتاريخه… قضية فلسطين لا يمكن ان يحملها ويدافع عنها الا شعب بمستوى هذا الشعب مع عمق أصالته وتجذّره ووعيه وقدرته على التحمل. ولكن، وللأسف، فمعظم القيادات الفلسطينية لم تكن على مستوى ما قدّمه ويقدّمه هذا الشعب. وسأكتفي بمثالين: انتفاضة أطفال الحجارة وانتفاضة القدس الأخيرة.            

ثورة أطفال الحجارة: اندلعت سنة 1987 وعمّت جميع أراضي غزة والضفة والقدس ومعظم أراضي 1948. وحسب احصائية مركز المعلومات الاسرائيلي لحقوق الانسان “بتسليم”، فقد استشهد 1162 فلسطينياً بينهم 241 طفلاً و 90 ألف جريح وتدمير 1228 منزلاً فلسطينياً بالطبع، واقتلاع 140 ألف شجرة. فحقد الصهيوني يشمل الحجر والشجر أيضاً. كما قُتل خلالها 160 اسرائيلياً أغلبهم من الجنود. وتقول احصائية لمركز الأسرى للدراسات ( مركز فلسطيني مستقل) ان جيش الاحتلال اعتقل خلال الانتفاضة نحو 60 ألف فلسطيني بينهم أعداد كبيرة من فلسطينيي 1948.                                                                

طبعاً كان وراء الانتفاضة قيادات فلسطينية كبيرة بدعم وتوجيه من منظمة التحرير الفلسطينية. هذه الانتفاضة ابتدأت بالتراجع بعدما أرغمت الاحتلال على الموافقة على التفاوض مع منظمة التحرير وتوقيع اتفاق أوسلو، الذي لم تلبث الحركة العنصرية الصهيونية اليمينية أن نقضته باغتيال مهندسه رئيس وزراء العدو اسحاق رابين.          

الانتفاضة حازت على دعم كل الشعوب العربية وكل أحرار العالم الذين مارسوا شتى الضغوطات على حكوماتهم للوقوف مع شعب فلسطين. وكادت الانتفاضة تركِّع اسرائيل، لكن الدخول في المسارالسياسي برعاية اميركية وضغوط عربية على الجانب الفلسطيني أعطى  سياسة القضم والضم والقتل والسحل الفرصة لاستعادة ما سبق وانتزعته الانتفاضة.                                                

والبارحة انتفض فلسطينيو القدس خلافا لأجندات قيادات غزّة ورام الله. انطلقت الشرارة من حي الشيخ جراح ومن باحة الأقصى وعمّت كل فلسطين. وقف مع المقدسيين كل أحرار فلسطين والعالم. انتقلت الشرارة الى الداخل الفلسطيني. فلسطينيو 1948، الذين اعتقد الكثيرون انهم تدجّنوا، انتفضوا كما هم دائماً. لم تقتصر مواجهاتهم على الشرطة بل تعدّتها ليصطدموا مع مجموعات من المستوطنين. ظهرت المقالات لكتّاب اسرائليين في الصحف الاسرائلية تتحدث عن حتمية افول المشروع الصهيوني. الذعر استوطن عقول وقلوب الكثيرين من المستوطين وعاودوا التفكير بجمع ما أمكن من أغراضهم التي اغتصبوها والعودة من حيث أتوا. اسرائيل، بممارساتها الوحشية كما العادة، كانت محط انتقادات كثيفة من الداخل والخارج. وقفت شبه عزلاء في معركة تسويق ممارساتها. وأصبحت محاصرة في زاوية… في هذا الجو دخلت صواريخ غزّة على المشهد.                                  

في معارك الصواريخ وعبر الحدود، اسرائيل لا تجارى. والقوى الداعمة لاسرائيل لن تقف مكتوفة اليدين اذا تعرض “أمن اسرائيل” للخطر. وتجد دائماً من يدافع عنها في “حماية سكانها المدنيين”. ومهما خسرت من سلاح فالترسانة الامريكية جاهزة للتعويض، وجاهزة لبناء جسر جوي كما حصل في حرب 1973. أما اذا كانت معركتها في الداخل، مع الشعب المفترض بها أن تحميه كونها قوة احتلال بموجب كل المعاهدات الدولية، واذا كانت المعركة طويلة الأمد، فمن يتجرّأ ويقف معها؟                                                                                    

طبعاً نريد غزة قوية. ونريدها، كما نريد رام الله، ان تدعم صمود شعبها في الداخل. ولكن ذلك لن يتحقق من خلال رشقات الصواريخ فقط أو  وحده. فتحرير فلسطين أكثر تعقيداً من مجرد امتلاك واستعمال هذه الأسلحة. إن تحرير فلسطين يتم من خلال سياسة موحدة يشارك بصياغتها كل ممثلي الشعب الفلسطيني في فلسطين ودول الشتات. فوحدة الشعب الفلسطيني أهم عامل من عوامل النصر. والعامل الثاني هو التحرر من وهم الحصول على دولة فلسطينية وعودة اللاجئين عبر المفاوضات الدبلوماسية دون سواها من أشكال نضال. والثالث هو تقديم الدعم التام والمطلق لصمود فلسطينيي الداخل في انتفاضاتهم المستمرة حتى جلاء آخر مستوطن عن أرض فلسطين.                                 

 إن المهمات الملقاة على عاتق الشعب الفلسطيني تتطلب وضوحاً سياسياً وتنوعاً في أساليب النضال وبالتأكيد يتطلب نَفَساً طويلاً من أجل انتزاع حقوقه المشروعة في بناء دولته على ترابه المحتل وعودة اللاجئين إلى ديارهم، وهو نضال مرير يكاد يعادل الجهد المطلوب لتحرير كامل التراب الفلسطيني من هذا الاستعمار الاستيطاني الذي يجثم على صدر الشعب الفلسطيني ويُخضع المنطقة العربية بأسرها .   

   نشرت على موقع الغربة الالكتروني  في 17 أيار 2021            

Leave a Comment