سياسة

“السور الحديدي” يضرب الضفة الغربية ومخيمات الشمال: تجاوز ادعاء الأمن إلى ضم يعزِّز الاستيطان والمستوطنين

زهير هواري

بيروت 8 آذار 2025 ـ بيروت الحرية

صعَّد الجيش الإسرائيلي والمستوطنون الصهاينة من اعتداءاتهم في عموم الضفة الغربية منذ الـ 7 من تشرين الأول / أكتوبر 2023 ، ما أسفر حتى الآن عن مصرع 927 فلسطينيا واصابة نحو 7 الآف واعتقال 14500 وفق المعطيات الفلسطينية الرسمية. وتقدر الاونروا أن 40 ألفا من اللاجئين الفلسطينيين قد خسروا بيوتهم بفعل التدمير المنهجي الذي تعرضت له المخيمات في جنين وطولكرم ونابلس وطوباس والعديد من القرى. وتبين أنه من بين النازحين الذين خسروا بيوتهم هناك 5000 طفل.

وكانت إسرائيل وبعد أن أوقفت النار في غزة بموجب اتفاقها مع حماس، قد اطلقت عملية “السور الحديدي” ضد مدينة ومخيم وقضاء جنين بغرض التخلص من مجموعات المقاومة فيها. ثم وسعت من نطاقها لتشمل منطقة شمال الضفة بأسرها. وفيما بدا للبعض أن الهجوم هدفه عسكري محض لمواجهة المجموعات الفدائية المتحصنة في المخيمات والمدن، تأكد فعليا أن أهدافه متعددة وأبعد مما يظهر. وهي تتعدى المساهمة في اقناع زعيم حزب الصهيونية الدينية وزير المالية بتسلئيل سموتريتش في البقاء في حكومة بنيامين نتنياهو، خشية انسحابه منها وبالتالي سقوطها، خصوصاً بعد مغادرة زميله وحليفه زعيم حزب القوة اليهودية وزير الأمن الداخلي إيتمار بن غفير لها.

وكان واضحا أن إسرائيل ترفع تباعا وتيرة القمع، بدليل استعمالها الطيران الحربي والمسيَّر، ثم دفع كتائب إضافية من الوحدات العسكرية نحو المخيمات والمدن، تتويجا بادخالها الدبابات في الهجوم، بعد أن كانت العملية مقتصرة بداية على المدرعات الخفيفة، والجرافات التي عاثت في البيوت والطرقات والبنية التحتية تخريبا، لجعلها شبيهة بما تعرضت له غزة، وجعلها غير قابلة للحياة البشرية، وبالتالي ارغام سكانها على مغادرتها قسرا أو طوعا. واعتبر ظهور الدبابات على أبواب المخيمات بمثابة عودة إلى عملية ” السور الواقي ” التي نفذها جنود الاحتلال قبل 22 عاما للقضاء على انتفاضة الشعب الفلسطيني في حينه. ويبدو من سيل التصريحات الإسرائيلية التي مهدت وواكبت الهجوم أن له مداه الزمني الطويل وبما يتجاوز ادعاءات فرض الأمن. فوزير الدفاع يسرائيل كاتس أكد أنه أوعز للجيش الإسرائيلي بالبقاء في مخيمات الضفة الغربية لمدة عام على الأقل، مضيفاً: «لن نعود إلى الواقع الذي كان في الماضي” ولدى مراجعة تصريحات نتنياهو وسواه يتبين أن الإسرائيليين لا يريدون سلطة فلسطينية، كما أنهم اذا استطاعوا لا يريدون فلسطينيين أيضاً. كما أنهم لا يريدون لاجئين يتمسكون بحق العودة. يجب أن يعطف ذلك على ما كرره نتنياهو أكثر من مرة عندما اعتبر إن أكبر خطأ وقعت فيه إسرائيل هو اتفاق أوسلو. ويبدو من سياق مواقفه وتصريحاته أن لا فوارق عنده بين السلطة وحماس، فالأخيرة تريد القضاء على إسرائيل بسرعة، أما الأولى فتريد ذلك على المدى البعيد.

من هنا يمكن أيضاً فهم استراتيجية نتنياهو المستمرة بتهميش وتحجيم السلطة وتحويلها إلى إدارة ذاتية خاضعة للهيمنة الإسرائيلية، ويدخل في هذا السياق التشكيك الدائم بقدرتها على تمثيل الفلسطينيين، وجدارتها لقيادتهم نحو الدولة المستقلة. بالطبع لا يمكن ادراك مرامي العملية الراهنة وسابقاتها، الا بوصفها تعبير عن رفض القبول بأي حل سياسي عادل وشامل ومستدام ، والذي لا يمكن له أن يتحقق الا من خلال الاعتراف بالحقوق الوطنية المشروعة للشعب الفلسطيني، وحل الدولتين، واقامة الدولة الفلسطينية على الأراضي المحتلة عام 1967 وعاصمتها القدس. ما يعني أن لا حل ولا سلام وأمن واستقرار دون هذا الحل العادل. وفي هذا التصلب تستند إلى وجود الرئيس ترامب على رأس السلطة في اميركا وما يغدقه عليها على الصعد السياسية والدبلوماسية والتسليحية.

الاستيطان والمستوطنين

ولا يمكن عزل الهجوم عما تخطط له إسرائيل حول مصير الضفة الغربية كجزء لا يتجزأ من الكيان الإسرائيلي تطبيقا لشعار أرض أكثر وسكان أقل. وهنا بيت القصيد الفعلي . فالمعروف أنه على الرغم من الضجيج حول قطاع غزة، والحديث عن عودة المستوطنين إليه، إلا أن الضفة الغربية تبقى الهدف المثالي على المدى المباشر. وكان سموتريتش قد انشأ دائرة منفصلة في مقر الإدارة المدنية التي تتبع للجيش الإسرائيلي لإدارة شؤون الاستيطان والمستوطنين، وشجع على إقامة المزارع الرعوية التي تتيح الاستيلاء على أراض فلسطينية شاسعة. وسبق ذلك أن اعتبرت الحكومة جزءا كبيرا من الضفة أراضي دولة ومناطق عسكرية مغلقة ومحميات طبيعية ومناطق أثرية لتبرير وضع اليد عليها. لكن الابرز من ذلك كله هو قانون الضم الإسرائيلي الذي يمكن اعتباره خطوة سياسية تتوج ما تم تطبيقه من “ضم صامت” خلال العقود الماضية التي أعقبت الاحتلال عام 1967. لكن وزيرا كسموتريتش لم يقف عند هذه الحدود، بل شدد في أكثر من تصريح له على دعوة نتنياهو على إعلان السيادة الإسرائيلية على الضفة الغربية، وربط ذلك في حال أصدرت المحكمة الجنائية الدولية، قرارا يعتبر الاستيطان فيها “غير قانوني”. ويعتبر المسؤولون الإسرائيليون أن توسيع قاعدة الاستيطان والمستوطنين بمثابة إحباط لمشروع إقامة دولة فلسطينية. وتشير منظمة السلام الآن الإسرائيلية إلى إنه تم إنشاء “ما لا يقل عن 43 بؤرة استيطانية جديدة (في الضفة الغربية)، معظمها زراعية، تركز على الاستيلاء على الأراضي والطرد المنهجي للفلسطينيين”. وتعتبر أن عدد البؤر الاستيطانية الجديدة في الضفة، لم يكن يتعدى في الفترة ما بين الاعوام 1996 وحتى أوائل عام 2023، سبع بؤر سنويا في المتوسط.

ولكن منذ نشوب الحرب الأخيرة تم التصديق على إنشاء 8681 وحدة سكنية في مستوطنات الضفة. ورصدت هيئة مقاومة الجدار والاستيطان الفلسطيني السسيطرة على 42 ألف دونم من مساحة المناطق المصنفة “ج”، أي التي تخضع للسيطرة الإسرائيلية الكاملة، والمقدرة بـ61 في المئة من مساحة الضفة الغربية الاجمالية. وتقول الهيئة إن 70 في المئة من المناطق المصنفة “ج” تخضع بالأساس ومنذ سنوات طويلة لإجراءات عسكرية وأمنية إسرائيلية مشددة تحظر على الفلسطينيين استخدام تلك الأراضي والمساحات. وأكدت ارقام الهيئة الفلسطينية أن 42 % من المساحة الاجمالية للضفة الغربية تسيطر عليها إسرائيل بشكل كامل من خلال “المستوطنات ومناطق غلافها والشوارع الالتفافية ومناطق التدريبات العسكرية للجيش والأراضي المعلنة كأراضي دولة …الخ”. فيما تقدر مساحة المناطق المصنفة “أ”، التابعة لسيطرة السلطة الفلسطينية، بـ 17.6 في المئة فقط.

وبموجب تقديرات إسرائيلية، يقيم أكثر من 700 ألف إسرائيلي في بؤر استيطانية بالضفة الغربية، بما فيها القدس الشرقية. ويشهد الاستيطان في الضفة، بما فيها القدس الشرقية، ارتفاعا ملحوظا منذ وصول الحكومة اليمينية الراهنة إلى الحكم في ديسمبر/كانون الأول 2022.

مخطط ضم الضفة الغربية

بدورها أقرّت لجنة لشؤون التشريع في الكنيست الإسرائيلي (البرلمان)، مشروع قانون يتيح للمستوطنين شراء أراضٍ في الضفة الغربية بشكل مباشر، من دون المرور عبر الإدارة المدنية التابعة للجيش الإسرائيلي. وتُعتبر هذه المصادقة، خطوة متقدمة في مخطط ضم الضفة الغربية، وفرض السيادة الإسرائيلية عليها. وقدّم القانون، النائب عن حزب “الصهيونية الدينية” اليميني المتطرف موشيه سولومون، ووقعه 40 عضو كنيست. ومن المقرر أن يصوّت الكنيست على المشروع، بقراءات متعددة قبل أن يصبح نافذا.

وتتجه إسرائيل من خلال هذا القانون نحو فرض قانون بديل عن القانون الأردني القائم منذ العام 1953 بما يبيح السيطرة على مساحات إضافية تحصل عليها بالشراء شركات مرخصة وليس مجرد افراد، على أن يتم الشراء لغرض مشروع ومحدد، وليس بغرض المتاجرة. إضافة إلى شرط الحصول على إذن شراء من مجلس الوزراء. والواضح أن توقيت طرح هذا القانون يحمل دلالات سياسية عميقة، وسط ظروف إقليمية ودولية مواتية بالنسبة للحكومة الإسرائيلية، حيث يتزامن مع الاعتداءات العسكرية الواسعة في الضفة الغربية، ما يعزز فرض وقائع جديدة على الأرض بالقوة. وإقرار القانون هو خطوة أساسية نحو فرض السيادة الإسرائيلية القانونية والسياسية على الضفة الغربية، ما يفتح المجال أمام تغيير الطابع التاريخي والجغرافي والديموغرافي للضفة الغربية، وتعزيز عملية التهويد الزاحف الذي تتعرض لها، بما في ذلك توسيع المستوطنات وفرض قيود إضافية على الفلسطينيين في استخدام أراضيهم.

وضمن هذا السياق يتبين أن هناك مخططا متكاملا يشمل إقامة أربع مدن جديدة، “بينها مدينة درزية”، بهدف نقل سكان من داخل إسرائيل إلى الضفة، وتحويل المدن الفلسطينية إلى سلطات إقليمية مسؤولة عن نفسها، وتحت سيطرة إسرائيلية وإلغاء السلطة الفلسطينية. والمخطط هذا وضعه مجلس المستوطنات وعضو الكنيست أفيحاي بوارون، من حزب الليكود، ويعتبر معدوه أنه قابل للتنفيذ وليس نظريا، خلال ولاية الرئيس الأميركي دونالد ترامب، حسب تقرير نشرته صحيفة “يسرائيل هيوم” .

وعُقد مؤخرا اجتماع في فندق “رمادا” في القدس، شارك فيه قادة المستوطنين ورؤساء مجالس إقليمية للمستوطنات، بمبادرة من بوارون، جرت خلاله بلورة المخطط. وتحدث بوارون عن الظروف المؤاتية لتحويل “يهودا والسامرة والأغوار” إلى جزء لا يتجزأ من دولة إسرائيل، وليس فقط لأنه سيكون من الصعب تحريك السكان (المستوطنين) من هناك، وإنما لأننا سنغير برمجية التفعيل”.

ويسعى المخطط إلى “العودة إلى ما قبل (اتفاق) أوسلو. أو بكلمات أخرى: إلغاء السلطة الفلسطينية رسميا”، من خلال عدة خطوات. والخطوة الأولى هي توسيع سيطرة رؤساء السلطات المحلية الاستيطانية بحيث يكونون مسؤولين عن مناطق نفوذ المجالس الإقليمية كلها والمناطق الموجودة بينها. ويليه السيطرة على القرى الفلسطينية في المناطق C، وسحب أي إدارة لهذه القرى من جانب السلطة الفلسطينية، ووضع خرائط هيكلية لها، وأن تصبح ضمن “الأراضي الإسرائيلية”. ويجري بعد إلغاء السلطة إقامة سلطات محلية عربية، تحول إسرائيل إلى حكم فدرالي”. وحسب بوارون، فإن “فكرة حل الدولتين ينبغي أن يزال من الأجندة إلى الأبد، وبموجب توجيه واضح من المستوى السياسي”.

أما “السكان العرب في “يهودا والسامرة” فسيتركزون بدلا عن (السلطة الفلسطينية) في عدة سلطات محلية تدير نفسها، وتحصل على خدمات من إسرائيل وتدفع مقابلها، ومكانة هؤلاء السكان ستكون مثل مكانة عرب القدس بالضبط، مكانة مقيم. وتوجههم الوطني سيكون مثلما كان قبل العام 1967 تحت الحكم الأردني”.

وحسب المخطط، فإنه سيتم تشجيع إقامة مئات المزارع الاستيطانية في المناطق C، “من أجل حراسة أراضي الدولة وإنشاء بنية قانونية للسيطرة عليها”، وأن يكون هناك “حد أقصى من الأراضي وحد أدنى من الأفراد عليها”.

إن ما تقوم به إسرائيل عبر الهجمات المسعورة وسن قوانين تطيح بالقانون العقاري الأردني وتعمل على تمريره في الكنيست تمهيدا لنفاذه، هو مجرد رأس جبل جليد استراتيجية أوسع، تهدف إلى التقدم خطوات نحو اقامة إسرائيل الكبرى، من مدخل تثبيت الاحتلال وتحويله إلى واقع وضم راسخ، ما يقود إلى مضاعفات خطيرة على الشعب الفلسطيني ومستقبل القضية المهددة بحلقة إضافية في مسلسل النكبات التي تعرضت وتتعرض لها.

Leave a Comment