مجتمع

انفجار المجتمعات العربية.. وعجز الانتفاضات عن التغيير

محمد قدوح

بيروت 10 أيلول 2024 ـ بيروت الحرية

لن تظل المجتمعات العربية في وضعية الرضوخ للأنظمة الاستبدادية القائمة، وفي حال يأس من إمكانية التغيير إلى ما لا نهاية. مرحلة التمرد لا شك آتية مهما طال الزمن، لكن التمرد على السلطة والانتفاض في وجهها، لا يعني بالضرورة القدرة على إحداث التغيير المنشود. وهو ما أظهرته نتائج انتفاضات الربيع العربي، وهو ما يدلل على أن هذه المجتمعات لم تكن مهيأة للتغيير، وأن نظرة قوى التغيير فيها إلى الواقع كانت مجرد تعبير عن الرغبة به دون امتلاك القدرة على إنجازه، وهو ما سهلَّ مهمة الأنظمة الحاكمة والقوى الخارجية في تغيير وجهة الصراع، ما أفقد قوى الانتفاضة السيطرة على مساره ومسيرته.

هذه الخلاصة السريعة تؤكد أن التغيير في المجتمعات العربية يتطلب ظروفاً مؤاتية لتحقيقه على مستوى الافراد والمجتمع، شرطها الأول توافر قوى ديمقراطية قادرة على تأمين هذه الظروف، ووضع خطة مسبقة ذات مراحل واقعية وواضحة لتجنب الفوضى والأوهام في التفكير والممارسة، وتفويت الفرصة على القوى التي تعمل على حرف وجهة الصراع عما يفترض الوصول إليه.

إن انفجار المجتمعات العربية مجدداً هو احتمال قائم، ما يفرض على قوى التغيير المسارعة إلى تهيئة الظروف المناسبة له قبل حصوله، انطلاقاً من دراسة واقع هذه المجتمعات بموضوعية، ومن دون استعجال أو أوهام والربط بين مستوى الطموح وقدرة المجتمع على إحداث التغيير. وفي هذا السياق تشير النظرة إلى واقع هذه المجتمعات إلى وجود عقبات جدية وكثيرة أمام الطموح إلى التغيير، فيما يلي أبرزها:

أولاً- إن الأنظمة الحاكمة ومنذ استقلال الدول العربية لم تعمل، أو بالأصح لم ترغب في انتقال هذه المجتمعات من مرحلة بناء السلطة إلى مرحلة بناء الدولة، التي تقوم على عقد اجتماعي يضمن حقوق المتعاقدين، أي بناء مجتمع المواطنة. مما أدى عمليا إلى ترسيخ البُنى الاجتماعية التقليدية ( القبائل، الطوائف، العشائر). وقد استعملت الأنظمة الحاكمة هذه البُنى لتثبيت سلطتها وتأمين استمراريتها. والأخطر أنها لعبت على تناقضاتها، مما أدى إلى تعزيز الانقسام واحتدام الصراع فيما بينها، وهو ما ساهم بقوة في تغيير وجهة الصراع خلال انتفاضات الربيع العربي في سوريا واليمن وليبيا والعراق.

ثانياً – إن التعددية الثقافية مهما كان نوعها قبلية، طائفية وقومية … تحمل في داخلها بذور الخوف من تفكك المجتمع وانغلاق المجموعات المكونة لها على ذاتها، وتقديم الولاء للجماعة على الولاء للوطن، مدفوعة إلى ذلك بالخوف من الآخر. ومن الذوبان فيه، وبالتالي فقدان الخصوصية الثقافية التي ترى أنها قوام شخصيتها. على أن المشكلة ليست في التعددية، فقد تم ضبطها تحت سقف القانون في المجتمعات المتقدمة مع ربط أجزاء ومكونات المجتمع مع بعضها بعضا. ففي الولايات المتحدة الأميركية جرى ضمان المنافسة العادلة مع الآخر على أساس فرص متساوية. أنما في البلدان العربية فقد جرى اللعب على تناقضاتها وتعزيز الصراعات فيما بينها.

ثالثاً – شيوع ظاهر غياب شعارات التغيير والعدالة الاجتماعية والقضايا الكبرى وفي مقدمها قضية فلسطين في هذه المجتمعات، والتي نتج عنها بحسب جيل لييوفنسكي تحولات عميقة على مستوى الفرد والمجتمع مثل جموح الفردانية وتمركز الاهتمام حول الذات، والبحث عن المصلحة الذاتية والانسحاب من السياسية والفضاء العمومي، وحلت المتعة محل الاهتمام بالشأن العام والنضال من أجل التغيير.

رابعاً – إن غياب الحريات العامة بمنوعاتها (حرية النشر والقول وتأسيس الأحزاب وعقد الاجتماعات وتنظيم التظاهرات وتشكيل النقابات و..) في هذه المجتمعات يجعل الناس تقول غير ما تفكر فيه، وتنشأ بحسب سبينوزا أجيال لا تحتاج إلى الحرية وتتكيف مع الاستبداد … ويضيف : ويظهر في هذه المجتمعات ما يسمى بالمواطن المستقر الذي تنحصر اهتماماته بثلاثة أمور هي: لقمة العيش والدين ( لا علاقة له بالحق والعدل) وكرة القدم.

خامساً – تفريخ الأنظمة الحاكمة طبقة اجتماعية قوامها جماعات من المتزلفين والمستزلمين والانتهازيين، تستسهل الفساد والتعدي على المواطنين وحتى القتل لحساب أصحاب السلطة، وتعمل على إظهار قوة السلطة وتضخيمها في مقابل إظهار عدم قيمة أي مواجهة معها، فيتفاقم الخوف من العقاب لدى الشعب، ويتحول تدريجياً إلى رادع أخلاقي هدفه حفظ الذات المادية وليس المعنوية.

سادساً – إن تثبيت التشكيلات الاجتماعية التقليدية وتعزيز الانقسام والصراع فيما بينها يدفع أعضاءها للجوء إلى أحضانها والذوبان فيها، وبالتالي القضاء على التمايزات الشخصية، مما يصعب خروج الافراد عن رأيها، ويرى غوستاف لوبون إن المتغيرات التي تطرأ على الفرد المنخرط في هذه الجماعات مشابهة لتلك التي يتعرض لها الانسان أثناء التنويم المغناطيسي. ويضيف: إن هذه الجماعات لا يسيطر عليها بالمحاججة العقلية، بل بالعاطفة، لذا فإنها تفضل الأوهام على الحقيقة.

سابعاً – لم يعد السلاح وحده واستخدامه هو التعبير الوحيد عن استباحة سيادة الدولة ودورها وعلاقتها بالمواطن، وإنما المال أيضاً يمكن أن يؤدي إلى ذلك بعد اندماج أصحاب النفوذ الاقتصادي والمالي في العلاقات السياسية. وهؤلاء باتوا يتصرفون كأنهم جزء من السلطة، ويندرج في هذا الاطار أيضاً سيطرة جماعات الأنظمة الحاكمة على مؤسسات وإدارات الدولة أو توظيف الخدمات العامة في سياسة الترغيب والترهيب التي تمارس على المواطنين.

إن التصدي لهذه العقبات أمر بالغة الصعوبة لسببين رئيسيين. الاول منهما هو أن هذه العقبات مجتمعة تشكل غطاءً سميكاً يحجب بصيرة الافراد والجماعات ويقيدهم بأغلال محاطة بهالة من القداسة، وتجعلهم يؤمنون بما يخالف العقل، ما يتركهم يتحركون بناء على العاطفة. أما السبب الثاني فيرتبط أيضاً بمسألة التعددية الثقافية، وبسبب قدرة الأنظمة الحاكمة على تشويه علاقة الافراد والجماعات بعضهم ببعض، الامر الذي يرفع مستوى الحذر والخوف فيما بينهم.

لذلك، فدراسة الواقع والتجارب السابقة للمجتمع أمر بالغ الأهمية لفهم وتحديد آليات وأساليب التغيير الممكنة، بما فيه الابتعاد عن كل سلوك يؤدي إلى زيادة مستوى الحذر لدى الجماعات وبناء على ذلك وضع خطة مواجهة. لقد أثبتت التجارب أن التغيير القسري في المجتمعات التعددية يجعل هذه المجتمعات أكثر طائفية ومذهبية… وإن الشعارات الكبرى تمثل “اسقاط النظام” يمثل الفرصة الأمثل للأنظمة لاستعمال العنف وحرف وجهة الصراع معها من مجراها الديمقراطي إلى عمليات قمع عارية للتحركات الجماهيرية بقواها النظامية، وعند التنبه إلى القيود التي تمنعها من ممارسة البطش يتم اللجوء إلى الميليشيات لتحقيق الإخماد المطلوب. إن الواقعية تفترض التدرج والتراكم في العمل على بناء الدولة المدنية ومؤسساتها المستقلة عن مصالح قوى السلطة الطبقية التي تستخدمها لتحقيق بقاء واستمرار هيمنتها. والمدخل لذلك هو مخاطبة المجتمع عبر قضاياه المعيشية والحياتية التي تهم جميع أفراده.

Leave a Comment