يُسجل للعهد نجاح حكومتة الأولى، في جذب أكبر نسبة متابعة وتفاعل من اللبنانيين، والتفوق في ذلك على محطاة التلفزة التي تتنافس عبر المسلسلات الرمضانية على تسجيل أكبر عدد من المشاهدين. تمثل النجاح في قدرة الحكومة على استفزاز كل الفئات والتشكيلات الاجتماعية والاقتصادية، ودفعها لمتابعة جلساتها الماراتونية النهارية والليلية وفي أيام العطل. وهي الجلسات التي احتدم فيها الصراع وليس النقاش، بين مكوناتها التي تمثل أحزاب الطوائف الحاكمة. والصراع لم ينهض حول معالجة الأزمات التي حذروا من مخاطرها، وقد انتجتها سياساتهم وممارساتهم. فهذا الهم لا مكان له في جداول اهتماتهم التي تنصب حول أمرين اثنين، الأول يتمثل في التنازع على الصلاحيات وتعزيز مواقع النفوذ، وتكبير الحصص واستمرار تدفق المغانم من موارد الدولة. أما الثاني فيكمن في ضمان الحصول على القروض الموعودة وكيفية توظيفها في خدمة الأهداف الأولى، بصرف النظر عن القوانين التي يمكن تعطيلها أو تعديلها.
لا يختلف استحقاق الموازنة عن غيره من الاستحقاقات، فهو كما استحقاق الرئاسة أو الانتخابات النيابية أو تشكيل الحكومة، أو غيرها عرضة للتعطيل والتأخير مراراً وتكراراً سنوات وأشهر. فالموازنة التي غابت طويلاً، لم تقر العام الماضي إلا استجابة لضغوط وشروط الجهات الخارجية المقرضة أو المانحة، مرفقة بتعهد انجاز قطع الحساب عن السنوات السابقة، الامر الذي لم يحصل بانتظار التوافق على صيغة تغطية الفضائح والإرتكابات التي يتشاركها الجميع.
تسببت الصراعات السياسية في تأخير إقرار الحكومة للموازنة، لأن كل طرف كان مسكوناً بكيفية توظيف المناقشة والنتائج بما يخدم نفوذه ودوره واحلامه. ولم تنجز إلا بعد إنتاج المعادلة التي تكفل عدم إلحاق الضرر بمصالح أهل السلطة وضمان تدفق القروض للدولة، بهدف إرضاء الجهات المدينة والمانحة التي تبحث عن ضمانات لاستثماراتها بديلاً عن الثقة المفقودة بأهل الحكم. أما الضمانات المطلوبة فهي إجراءات إصلاحية تم التعهد بتنفيذها دون أي تدقيق مخاطر الأخذ بها أو الإستجابة لها، وكم تشكل إرتهاناً للخارج وخضوعاً لإملاءاته، عدا مضاعفاتها السلبية على دور الدولة وقطاعات الخدمات العامة وما تلحقه من ضرر بأكثرية اللبنانيين وتحديداً أصحاب الدخل المحدود.
وعليه، فإن جلسات الحكومة التي بلغت رقماً قياسياً، تميّز فيها بند شبه وحيد يتعلق بخفض عجز الموازنة، وغاب عنه الاصلاح وكل الوعود حول محاربة الفساد وما رافقها من عنتريات وإدعاء بطولات وافتعال معارك وهمية. لأن الجميع يبحث عن تمرير موازنة تبقي الدولة ومؤسساتها بشكل يتوافق مع إدارتهم لأزماتها التي يتشاركون المسؤولية عنها والإستثمار فيها لتبرير أداورهم وإعادة إنتاج قواهم وإعالتها من موارد الدولة وعبر مؤسساتها.
لم يكن غريباً البدء بمناقشة مشروع الموازنة العامة، بعد مضي خمسة أشهر على بداية السنة المالية، وإنفاق وصرف أكثر من نصفها على أقل تقدير. ولن يكون غريباً أيضاً، أن يستغرق إقرارها الدستوري في مجلس النواب بعد إحالتها إليه شهراً إضافياً. خاصة بعد التحفظات التي تكاثر تسجيلها في جلسة الحكومة الأخيرة من قبل الوزراء ومن يمثلون. لأن هذه التحفظات ستتحول في جلسات مجلس النواب مادة للخطابة التضليلية التي سيعتمدها مختلف فرقاء الحكم سواء للمزايدة أو للتعمية على ما أقروه أو وافقوا عليه. علما أنهم يعرفون جيداً أن الأمر لا يتعدى الفولكلور السياسي الرديء. أما كم سيكون ذلك مقنعاً لمن تسحقهم الازمات، فإن الجواب عليه يكمن في طبيعة الموازنة التي غاب عنها الاصلاح واستوطن الفساد وتوسعت مساحاته، وتعمقت الأزمات والمشكلات الاقتصادية والمالية، التي جرى التهويل بها على اللبنانيين واستخدمت لإبتزازهم في مصادر عيشهم المحكومة بمزيد من التآكل، بالتزامن مع تراجع الخدمات العامة المستباحة حيث المافيات تستنزف كل ما بحوزتهم. ومن يسأل عن اسباب عجز أهل السلطة وفشل الطبقة السياسية في معالجة الازمات والحد من المخاطر ووقف الانهيار ومكافحة الفساد، فإننا ندعوه لمراجعة السؤال الذي نراه خطأً، لأن من ينتج الأزمات ويستفيد منها ويستغلها لاخضاع المواطنيين والتحكّم بحياتهم وإراداتهم ومصادر عيشهم لا مصلحة له في معالجتها.
لذلك لم يكن مستهجناً أن يتنافس مختلف الفرقاء على التهرب من مناقشة الأزمة من مداخلها المقررة لها، وتغييب البنود الاصلاحية. لم يكن هناك مكان في جدول المناقشات لتفعيل مؤسسات الرقابة بديلاً عن تعطيلها كمدخل طبيعي للمحاسبة والمساءلة ومكافحة الهدر والنهب لموارد الدولة، والتصدي لممارسات التهريب والتهرب الضريبي وتراجع جباية المالية. كما لم نعثر على إشارة تتعلق بوضع حد للإمعان في رعاية الاهمال لقطاعات الخدمات والمؤسسات العامة على اختلاف وظائفها الاقتصادية والاجتماعية، بديلاً من الصراع لوضع اليد عليها واستعمالها للإنتفاع منها.
ولأن أعين الجميع على أموال القروض، كان الصراع المستميت على الوزارات المعنية بها، ومن تجلياته محاولات منع تدخل “الآخرين” في إدارتها وتعطيل أي رقابة عليها داخلية كانت أو خارجية، وخطة الكهرباء كانت نموذجاً في التحايل على أجهزة الرقابة وتعطيل القوانين. ولم يختلف الأمر حيال الملفات الأخرى، بما فيه الصعيد الاجتماعي وما يمكن أن يولّده من انفجارات في ظل الإصرار على التزام سياسات الإستدانة ورهن البلد للاستثمارات المالية بفوائد خيالية، وإدارة الظهر للقطاعات الانتاجية، في إطار تجدد صراعات المحاصصة وانفلات مشاريع الهيمنة الطائفية، التي لم تنجو من مفاعيلها أي من مؤسسات ووظائف الدولة الداخلية والخارجية، سواء في مجالات السياسة والأمن أو ميادين الاقتصاد والمال والأعمال.
وفي هذا كله يكمن نجاح الطبقة السياسية وقدرة تياراتها وأحزابها الطائفية، على تحقيق أهدافها وضمان مصالحها بكفاءة عالية مستفيدة من خبرتها الطويلة في حسن استخدام الطائفية سلاحاَ مجرباً في إعادة إنتاج انقسامات اللبنانيين وتقاسم ولاءاتهم بعيداً عن المصالح والحقوق المشتركة لفئاتهم المتضررة من سياسات قادتهم وزعمائهم، والقادرين على استدراجهم للشارع لاستعمالهم ولو من مدخل الدفاع عن مكتسبات لهم، حيث يسود التفكك ويغيب التنسيق بحده الأدنى، وإن حضر، فسلاح الطائفية حضوره دائم وفاعليته مكفولة، وهو قادر على إبقاء الجميع في بيت الطاعة. أما قوى المعارضة الديمقراطية التي أدمنت الإقامة في الهامش، فإن محاولاتها للخروج منه ما تزال متعثرة.
[author title=”زكي طه” image=”http://”]كاتب لبناني[/author]