اقتصاد سياسة مجتمع منشورات

سجال الأرقام لا يحقق إصلاحاً ولا يبني معارضة

مقابل وهم الشراكة معها والانتفاع من سلطاتها القائمة على محاصصة مؤسسات الدولة ومرافقها ومرافئها وقطاعات الخدمات العامة، إلى جانب رعاية التهريب والتهرب الضريبي وهدر المال العام،

غاب الاقتصاد وحضرت السياسة، ارتفعت الديون وتجذّر الفساد، تكاثرت الحلول  وضاع الاصلاح، اتسعت الاعتراضات فإين المعارضة. هذا ما عكسته مناقشات الموازنة السنوية وما رافقها من سجالات وصراعات، وهي تبرّز هول الأزمات التي تعصف بالبلد.  وتأخر الإعداد والإقرار، لا يلغي استثنائية  الموسم الفاضح لأحوال البلد من مختلف المداخل. مجال الرؤية متاح لكل ناظر، فجميع اصحاب المصالح والحقوق كانوا  محكومين بالتفاعل مع قضية الموازنة، رغم تنوع مواقعهم المتناقضة أوالمتعارضة، وبصرف النظر عما ولّده مسار الإقرار من نزاعات أو تسويات، نظراً لاختلاف المصالح والسياسات وتعدد الأدوار المستمرة أو المستجدة، سواء كان أصحابها في موقع السلطة والقرار، أو في وضعية تلقي النتائج مكاسب أو اضراراً. 

  لقد حضرت السياسة بمعناها السلبي الذي يعكس خلافات أهل الحكم، وغياب قوى الاقتصاد في موسم مناقشة الموازنة العامة وإقرارها، يبرّز جوهر الأزمة وخطورتها. أن يكون الاقتصاد في خدمة سياسات قوى السلطة ومصالحها، وأن تتحول الدولة ومؤسساتها مصدر تمويل  لقواها،  يشكل عكساً للأدوار وجعلها تقف على رأسها، وحضوراً فجاً لمأساة أهل الاقتصاد وعجزهم في أن يكون لديهم رؤية وطنية حول مصالح قطاعاتهم. مرد ذلك تفكك البنى الخاصة بما تبقى من قوى الاقتصاد المنتج في البلد، وتشرذم تجمعاتهم والتحاقها بتراكيب الطبقة السياسية وتولي تمويل تشكيلاتها الطائفية، مقابل وهم الشراكة معها والانتفاع من سلطاتها القائمة على محاصصة مؤسسات الدولة ومرافقها ومرافئها وقطاعات الخدمات العامة، إلى جانب رعاية التهريب والتهرب الضريبي وهدر المال العام، ومشاركة المصارف في تقاسم أرباح استثمار الودائع في سندات الخزينة، في مقابل تجاهل قطاعات الإنتاج وأزماتها وكل ما يتصل بتنمية الاقتصاد الوطني.

       كما جرى اختزال غاية الموازنة بتخفيض العجز المالي للخزينة، وتم التجديد للسياسات  المنتجة للأزمات، وسط إصرار  على تكريس نهج الإستدانة لمعالجة الأزمات، المولّد للمزيد منها، والاستثمار فيها من قبل أصحاب رؤوس الأموال والمصارف، حيث أقصر الطرق نحو الانهيار. لأن القروض لا تذهب إلى حيث يجب، بل تضيع بين خدمة الدين العام والهدر على المشاريع التي لا تنفذ. وهذا ما تعرفه جيداً الجهات المدينة، وبسببه اشترطت تنفيذ مقرراتها بإقرار إجراءات اصلاحية تسترهن البلد للخارج، وتعرّض حقوق الغالبية الساحقة من اللبنانيين للخطر. وهي شروط اعتمد أهل الحكم منها ما يلائم مصالحهم، وتجاهلوا ما يتعارض معها، خصوصاً ما يقع في إطار مكافحة التهريب والهدر أو منع تمويل جماعاتهم وثراء قادتها.

  لذلك لم يكن مستغرباً أن يستهدف إقرار الموازنة، ضمان الحصول على قروض “سيدر” وليس الاصلاح ومكافحة الفساد.  والدليل غياب أي بنود تتعلق بإقفال أبواب الهدر المالي أو وقف التوظيف الزبائني. في مقابل تجميع أرقام  لتخفيف العجز، عبر اقتراحات استهدفت أصحاب الدخل المحدود، سواء في رواتب الموظفين والاساتذة والمتقاعدين أو في التقديمات العائدة لهم. بالإضافة إلى فرض ضرائب غير مباشرة على السلع والخدمات، والتصويب على التقديمات الاجتماعية وقطاعاتها المهددة بالإنهيار التام.  في موازاة رفض أي بحث يعيد النظر بالنظام الضريبي وعوائد الأملاك البحرية والاتصالات والجمارك والأبواب التي تدر مداخيل فعلية للخزينة.

  أما إرتباك أهل السلطة فمرده مشاريعهم وطموحاتهم، وحرف الأنظار عن ارتكاباتهم وتحميلها للآخرين، في موازاة السعي لتحصين مواقع النفوذ واستقطاع المؤسسات التي تصنّف في عداد مراكز القوى، والتغطية على فضائح رواتب وتقديمات العاملين فيها، واستدراج هؤلاء للتحرك من أجل حماية مكتسباتهم، ولتجديد ولاءاتهم في إطار تقاسم السلطة. أما الفئات التي تم الحاق الضرر بها، فكانت تحركاتها رمزية ومحدودة نظراً لإرتباط أدواتها النقابية بقوى السلطة التي تراهن على إخضاعها واستسلامها للأمر الواقع عبر استحضار سلاح الطائفية. لذلك شهدت الساحات ولا تزال، الكثير من ضجيج التحركات الاعتراضية الفئوية  للدفاع عن الراتب والتقديمات فقط، وأغفل الجميع ما حلَّ بمؤسسات الدولة وقطاعاتها الخدماتية والانتاجية. كما غاب التنسيق بين المعترضين جراء تبعية الهيئات التمثيلية وتباين المصالح وتعارض الولاءات والرهانات على قوى السلطة. 

 في مقابل غياب مطلب حماية قطاعات الإنتاج والخدمات العامة من الانهيار وإعادة النهوض بها واستحضار القوى المستفيدة منها، تستمر قوى المعارضة تبحث عن دورها وصيغة حضورها، عبر رفع شعارات التغيير غير المحدود، والدعوات لصياغة البرامج الاصلاحية البديلة، والمطالبة بتشكيل الاطر النقابية المستقلة، والغياب عن ميدان الفئات الشعبية المتعثرة بذريعة التحاق ادواتها النقابية بقوى السلطة. أما تضخيم فاعلية تحركاتها والنفخ فيها فإنه لا يغير من واقع عجزها عن استقطاب الفئات الاجتماعية المتضررة رغم تكرار شعار بناء الكتلة الشعبية.

[author title=”المحرر السياسي” image=”http://”]المحرر السياسي[/author]